اصبحت بلدان أسيا محور الاهتمام في العقود الأخيرة ، باعتبارها نموذجا ناجحا بالنسبة للبلدان النامية ، وبعد ذلك بوصفها بؤرة للأزمات المالية، الأزمة المالية التي ظهرت فجأة في عام 1997 — 98 ، بعد عدة عقود من الأداء الاقتصادي الجيد، تم بؤرة للعديد من الأوبئة الفتاكة ذات المنشأ الأسيوي على سبيل المثال "سارس " الذي انتشر من الصين في العام 2003 ، إلى باقي أرجاء العالم ثم حاليا فيروس كورونا الذي إنطلق من الصين و لازال العالم يعيش التأثيرات الصحية و الاقتصادية و الاجتماعية لهذا الوباء… و قد حاول العديد من الباحثين و المؤسسات البحثية شرح و تفسير الأسباب و العوامل المساهمة في صعود و نهضة العديد من الاقتصاديات الآسيوية، و التي نجحت في تحقيق نمو اقتصادي مرتفع و مستمر، فبلدان "كوريا الجنوبية" و"تايوان" ، و"سنغافورة" ، و"هونغ كونغ" بلغ متوسط النمو فيها حوالي 7 ٪ سنويا بين عامي 1986 و 1997، ومستويات الدخل الفردي وصلت لمستوى البلدان الصناعية. كما أن "تايلاند" و"اندونيسيا" و"ماليزيا" و"الصين " شهدت نمو يقترب من 10 ٪ في الفترة من 1986 إلى 1997. و تبعا لهذا النمو الاقتصادي المرتفع إنخفضت مؤشرات الفقر إلى حد كبير، و تحسنت باقي مؤشرات التنمية البشرية … هذا المقال سيحاول التركيز على أهم النقاط المشتركة بين بلدان شرق أسيا التي حققت طفرة تنموية في وقت قياسي تم وصفه ب"المعجزة الاسيوية" ، و التحليل الدقيق للاقتصاديات الآسيوية التي تمكنت من تحقيق التنمية الاقتصادية يقود إلى استخلاص النتائج التالية : أولا- بيئة مستقرة للاقتصاد الكلي:إدارة الاقتصاد الكلى من جانب السلطات النقدية في البلدان الأسيوية كان مبني على أسس سليمة،فمعظم البلدان التي حددناها في مقدمة المقال تحكمت في معدلات التضخم إلى أدنى مستوى له ، فعند مقارنة سجلات التضخم بالبلدان الاسيوية ببلدان أخرى نلاحظ أن السياسات النقدية للبلدان الاسيوية كانت حصيفة و ذكية ، كما أن أن أغلب بلدان شرق أسيا ، عندما وصلت إلى مرحلة نمو اقتصادي مرتفعة ، سجلت فوائض مالية مهمة تم توظيفها للتثبيت العملات المحلية و دعم الصادرات ، ولذلك كان أداء الاقتصاد الكلي مستقر في بلدان شرق آسيا مقارنة بالعديد من البلدان النامية الأخرى فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا. ثانيا- ارتفاع معدلات الادخار والاستثمار:يلاحظ من خلال دراسة تجربة البلدان الآسيوية ارتفاع معدلات الادخار،فمن غير المعتاد أن تسجل معدلات الادخار للأسر المعيشية إلى 30٪ ، و في بعض الأحيان يصل إلى 40 ٪، و نسب تتعدى 40 ٪ في "الصين" و"ماليزيا" و"سنغافورة" ، و ما وبين 30 ٪ و 40 ٪ في "كوريا الجنوبية" و"تايلند" ، و"اندونيسيا" ، و ما بين ٪20 و 30٪ في "تايوان" و"الهند".. و الجدير بالاهتمام أن ارتفاع معدل الادخار رافقه ارتفاع معدل الاستثمار، و هو ما مكن هذه البلدان من تحقيق النمو الاقتصادي السريع، دون أن يترتب على ذلك عجز في الحساب الجاري بتمويل من رأس المال من الخارج. ثالثا-الجودة العالية لرأس المال البشري:الاقتصاديات الآسيوية تتوفر على نظم تعليمية جيدة ، وارتفاع في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، فالبلدان الأسيوية المستهدفة في هذا المقال حققت مؤشرات جد مرتفعة، مقارنة بالعديد من البلدان الأخرى المماثلة في مستوى التنمية. وهذا يجعل من السهل زيادة تعزيز التصنيع دون أي خصاص من جانب العمالة الماهرة، و جودة رأس المال البشري يفسر لنا سبب الانتقال السلس للعديد من الاقتصاديات الآسيوية، من القطاعات الصناعية المتدنية كالمنسوجات و التجميع البسيط للآلات ، إلى مستويات أعلى كالإلكترونيات والصناعات ذات التكنولوجيا العالية. رابعا- الجدارة البيروقراطية:العديد من بلدان شرق آسيا تقوم على أساس جدارة و فعالية النظم البيروقراطية، التي تعتمد في تقديم الخدمة على جودة الأداء ..فعلى الرغم من وجود اختلافات واسعة فيما بين البلدان ، فإن البيروقراطية الأسيوية فعالة بشكل كبير وتتوفر على "بيروقراطية مهنية professional bureaucracy " بعيدة نسبيا عن التأثيرات السياسية ، و أقل عرضة للفساد مقارنة بالكثير من المناطق الأخرى. خامسا- المساواة في الدخل : من أهم السمات المشتركة بين مختلف بلدان شرق اسيا نمو الطبقة الوسطى ، وانخفاض الفقر المطلق بسرعة كبيرة خاصة في اندونيسياوالصين و الهند… سادسا – تشجيع الصادرات : إشتركت أغلب البلدان الاسيوية على اعتماد نموذج تنموي يقوم على تشجيع الصادرات ، وهو ما مكن هذه البلاد من تحقيق إحتياطيات مهمة من النقد الأجنبي ، خاصة و ان أغلب هذه البلدان في حاجة إلى استيراد المواد الأولية والسلع الرأسمالية ، و التوجه للتصدير نابع أيضا من حجم الأسواق المحلية الصغير نسبيا لكثير من البلدان (باستثناء الصينواندونيسيا) ، لذلك فإن الاسواق الخارجية لها دور مهم في توسيع قاعدة الإنتاج و تحقيق الحد الأدنى من الكفاءة في جداول الإنتاج و تعزيز الأداء الاقتصادي. ذلك أن استراتيجية التنمية القائمة على حماية الأسواق المحلية وتوفير بيئة حمائية للشركات المحلية أدى إلى أن هذه الشركات لا يمكن أن تنتج سلعا قادرة على التنافس في الأسواق العالمية، ومن ناحية أخرى ، نجح الاسلوب القائم على تشجيع التصدير للسوق العالمية، إذ قدمت "كوريا" ، و"تايوان" ، و"ماليزيا" ، و"سنغافورة" و "الصين" حوافز قوية للمصدرين و هو ما قاد إلى بروز أبطال وطنيين في مجموع هذه البلاد … سابعا- التصنيع الناجح النمو الاقتصادي العالي والمستمر لعقود ) مثلا اليابان في الفترة من 1950 إلى 1973 و كوريا من عام 1980 إلى عام 1995 ، و ماليزيا بعد 1985) شهدت تغيرات سريعة في هيكلها الصناعي. فالتحول الصناعي في "كوريا" و"تايوان" تبع نفس المسار الذي حصل في اليابان، إذ تم التحول من الصناعات الخفيفة والثقيلة إلى الصناعات الكيميائية ، و الالكترونيات ، والصناعات ذات التكنولوجيا العالية. نفس التحول تحقق في الصين بعد عام 2000 .. و بنفس القدر، انتقل الهيكل الاقتصادي من الزراعة إلى الصناعة ، ثم إلى الخدمات، كما أن الجوار الجغرافي كان له تأثير إيجابي و مؤثر في تحول وتطور هيكل الصناعة في البلدان الآسيوية، فالتطور في "كوريا "او "تايوان" تأثر بالتطور السابق في "اليابان"، و التطور في "الصين" تأثر بالتطور السابق في "كوريا الجنوبية" و "تايوان"، فتحول اليابان بعيدا عن الصناعات الثقيلة والكيميائية ، شجع "كوريا الجنوبية" و"تايوان" للدخول لهذه القطاعات وبدء تصدير منتجاتها، و هو ما قاد "كوريا" و"تايوان" إلى التخلي التدريجي عن صناعات الغزل والنسيج وغيرها من الصناعات القائمة على كثافة اليد العاملة، و نقلها إلى باقي بلدان جنوب شرق آسيا التي لازالت تتوفر على ميزة نسبية في مثل هذه الصناعات بفعل توفر اليد العاملة الكثيفة و المنخفضة الكلفة… سابعا-الاستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا معظم الاقتصاديات الاسيوية قد نجحت في التصنيع من خلال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، إذ سجلت "سنغافورة" ، و "ماليزيا" ، و"تايوان" نجاحات مبكرة في هذا الجانب، أعقبتها فيما بعد "تايلند" و"الصين" تم "الهند" حاليا ، فمعظم هذه البلدان تتبع طريق التنمية المتسارعة من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر.. وتميل هذه البلدان للسيطرة على الاختيار من خلال توجيه التدفقات إلى الصناعات المراد تطويرها ، فشجعوا الشركات الأجنبية على إقامة منشآت للتجميع و إنتاج أجزاء من المنتج، كما سعت هذه البلدان أيضا إلى تقديم حوافز مغرية للإستثمار الأجنبي شريطة نقل عمليات الإنتاج للداخل و هو ما يعني بالتبعية نقل التكنولوجيا و الدراية، و عدم الاكتفاء بالتجميع أو إنتاج بعض أجزاء المنتج…و سنحاول في مقال منفصل التوسع في هذه النقاط و شرحها بشكل مفصل إن شاء الله تعالى.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر لناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..