في جلّ المكالمات الهاتفية التي تأتيني من مكاتب حكومية أو شركات خاصة، غالبا ما يتعثّر المتحدث أو المتحدثة على الطرف الآخر في نطق إسمي العائلي Cherkaoui. جلّ الأمريكيين ليسوا متعودّين على رؤية خمسة من الحروف المتحركّة e a o u i تجتمع في إسم واحد، فيضيع لسانهم خلف Mr. Chekkkkooooo ، وأحيانا Cherkaaaa، أو Cherkaowski أو Cherokee في أحسن الحالات. تقترب هذه التهجئة الرابعة من إسم إحدى القبائل الرائدة بين السكان الأصليين في أمريكا الشمالية Cherokee الشروكي، ويتحدثون اللغة الأريكوية. وبحلول القرن التاسع عشر، صنف المستوطنون البيض قبيلة الشيروكي في الجنوب الشرقي للولايات المتحدة كواحدة من "القبائل الخمس المتحضرة"، إذ كانوا يزاولون الزراعة ويعيشون في قرى دائمة، كما طوروا نظام الكتابة الخاص بهم، وهم من أشد القبائل الأصلية صمودا من أجل الحفاظ على ثقافتها وتراثها في وجه زحف المستوطنين البيض القادمين من أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. هكذا هو حال من يعتبره نفسه مواطنا في هذا العالم Global citizen دون حدود ضيقة تحدّ من انتمائه الإنساني واسع الآفاق. له في كلّ بلد قبيلةٌ وتاريخٌ زاخرٌ ونصيبٌ من العراقة والأصالة: * شروكي على هذه الضفة من الأطلسي.. * شرقاوي على تلك الضفة من ذرية بوعبيد الشرقي في أبي الجعد الفيحاء.. * شرقاوي من الشرقية عند أهل الكنانة.. * شرقاوي من بني الشريف بصري بن أبي بكر بن الحسن بن بساط من قبيلة العنقاوي من الأشراف الحسنيين من بني هاشم من قريش من العرب العدنانية في قنا بمصر، كما يكتب عبد الحكيم الوائلي في كتابه "موسوعة قبائل العرب". * شرقاوي حفيد عمر بن الخطاب عند أهل الحجاز في السعودية.. * شرقاوي أو شروقي أو من الشروگ في العراق، نسبة إلى القادمين من الشرق وهم قبائل الفرات الأوسط من لواء العمارة والأهوار شرقي نهر دجلة.. * شرقاوي يعود أصله إلى قبائل الشروباك في العراق، أي السكان الأصليين باللغة السومرية.. * شرقاوي من سبع عشائر وعائلات تحمل الإسم "الشرقاوي" في فلسطين، وتقيم في مناطق متعددة منها الرملة وطولكرم وحيفا ويافا والزبابدة ومخيم عسكر (نابلس)، كما يذكر محمد محمد حسن شرّاب في "معجم العشائر الفلسطينية".. * شرقاوي من آل بن جمعة من البوحبل من البورحمة من قبيلة المناصير القحطانية، وقد هاجروا ضمن عشيرة العتوب من منطقة الهدار بالأفلاج إلى الزبارة في قطر ،ومن ثم هاجرت من الزبارة إلى أن استقروا في الكويت. وقد أهداهم الشيخ أحمد الجابر عام 1921 أرضاً في حي الشرق بعدما قضى وباء الطاعون على أعداد كبيرة منهم عام 1831. * وربما من قبيلة Cherkesogai في أرمينيا.. * وحتى من قبيلة Cherkala في ولاية Cherala في الهند.. * أو من منطقة Cherkasyالمعروفو ايضا بإسم Cherkaska، وتمثل نسبة 3.5 في المئة من السكان بجوار نهر الدينبير وسط أوكرانيا.. وقد تقودني الأسفار إلى قبائل أخرى أنتمي إليها في بلدان القوقاز والصين وروسيا. ليست الكينونية الشرقاوية في شخصيا وفي غيري من هذه العشائر التي انتشرت في البرية منذ عشرات القرون مجرد جنيالوجيا، أو علم الأنساب ودراسته ضمن قرينته بالتاريخ وعلم الاجتماع فحسب، بل وأيضا النظر إلى مسالة القيم والأخلاق المتوارثة بين الأجيال، أو الجدلية بين نزعات الخير والشر وما خلفهما. هو سؤال مهم: كيف ظهرت مفاهيمنا الأخلاقية عبر التاريخ، كما اهتم بها الفيلسوف الالماني فريدريش نيتشه في كتابه المثير Zur Genealogie der Moral: Eine Streitschrift"في علم أنساب الأخلاق: جدل" عام 1887. كان بوعبيد الشرقي مؤسس الزاوية في أبي الجعد وما حققته في مجال العمل الاجتماعي والثقافي، فضلا عن التصوف الديني، تغليبًا تلقائيا للفضيلة المجتمعية ومنطق الخير، ومقاومةً لمسار الشر، منذ تأسيسها مطلع القرن السادس عشر الميلادي. يقول نيتشه إن المستفيدين من "الخير" لم يحددوا ما هو، وإنما هم فاعلو الخير أنفسهم، هم من حددوا المصطلح. فقد أصبحوا يرون أنفسهم أخيارًا عندما لاحظوا التباين بينهم وبين من هم دونهم. وشملت قوتهم سلطانا على الكلمات، سلطانا لتحديد ما هو "خيّر" وما هو "سيء". (في جينالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني،). وتتضح الفكرة ضمن هذا الاقتباس المباشر بلغة نيتشه: "إن حكمنا على شيء ما بأنه "خيّر" لا يتأتى من جهة الذين نبدي لهم خيرًا، بل إن الأخيار أنفسهم، وذلك يعني النبلاء وأصحاب المقدرة والمكانة الرفيعة والهمّة العالية، هم الذين أحسوا واعتبروا أنفسهم وأعمالهم خيّرة.. إنهم الأوائل الذين استباحوا لأنفسهم الحق في أن يخلقوا القيم وأن يسكوا للقيم أسماءً." ترتبط القيم بين جل آل الشرقاوي من خلل فلسفة مركزية وهي "العمرية" ومبادئ الصراحة الجرأة وعدم السكوت على المظالم. وهذه مبادئ مرتقبة في كل شرقاوي قحّ أصيل. وهذا ليس مدحا أو نزعة نرجسية في التغني بخصوصية عشيرة أو ذرية بعينها، وإنما تعقب لمجموعة قيم مشتركة متواترة، أو مقومات ضمير جماعي، في أدبيات من كتبوا ونشروا ما آل الشرقاوي خلال القرون الأربعة الماضية على الأقل بعيدا عن التأويل العرقي الضيق. وكما يقول نيتشه، "إن المعرفة الفخورة بالميزة الخارقة للمسؤولية، والوعي بهذه الحرية النادرة، هذا الاقتدار على الذات والقدر، قد تغلغل لديه في أعمق أعماقه وصار غريزة، غريزة غالبة: كيف سيسمّي هذه الغريزة الغالبة، متى فرضنا أن لديه حاجة إلى كلمة لقول ذلك؟ بيد أنه ليس في ذلك من شك: هذا الإنسان الرئيس سوف يسميها ضميره." في تصورات بعض آل الشرقاوي كما تقول الدكتورة خديجة حياري في ولاية كنيتيكت الأمريكية في تعليقها: "شرقي الروح.. غربي الجبروت.. إغريقي الهوى.. صوفي الحكمة.. رومي العشق.. أيوبي الصبر.. بلالي التحمل.. محمدي اللسان.. عمريّ الإيمان.. ملائكي القلب.. وحشي الغضب.. تلك باختصار هي التركيبة النادرة لدى الشرقاويين المعذبين في الأرض.. لا تحكمهم أية قوانين.. هم القانون بالفطرة.. يشبهون المنقبين عن الذهب في الأرض، باستثناء أنهم إذا عثروا عليه تعفّفوا عن لمسه، لأنهم ببساطة أرواح تواقة للحرية.. وبالحرية لا أعني الفوضى أو تلك الفكرة المجردة التي يخاف الناس عليها من الانفلات والجموح؛ تلك ليست حرية، بل استقلال.. الحرية لدى الشرقاويين هي مرادفُ التجول في البراري والذرى والأدغال والمدن والقرى دون أن تسيطر عليهم فكرة واحدة أو لحظة أخرى موازية، لتلك اللحظة الراهنة التي هم فيها هائمون. لا يمكن شراء أرواحهم؛ لأن لا شيء يغريهم ومهما امتلكوا من المكاسب الدنيوية والشواهد الأكاديمية التي يعتد بها غيرهم تبقى أرواحهم حزينة لأنها ذوّاقة لكل ما هو سامي وتواقة للمس شيء أعظم." تركيبة بعدة أطياف صوفية ومعايير قِيَمِيَة ومقومات الفضيلة تتقاطع فيها عدة أمور نفسانية ومجتمعية تكمّل بعضها بعضا. وأجدني أعتز بشكل خاص بعبارة "عمريُّ الإيمان" لأنّ صراحة الطرح وصدق القناعة هما أساس الواقعية ومعيار الصدق. وكلما تأمّلنا الطبيعة، وجدناها صادقة في ما تمنح وواقعية سواء في خريفها وربيعها، في جفافها أو غيثها، وهكذا دواليك. لا تخفي ولا تكذب ولا تدّعي ما هو دون حقيقتها. طبيعة الكون وطبيعة المرء في حقيقتهما من نفس الأصل والتطور. لذلك لا تمنعني الحدود "الوطنية" أو "القومية" المتخلية في إيجاد أوجه الشبه وحتى التناغم بين مجتمعات وثقافات تتماثل في الفضيلة المجتمعية الشاملة المتمردة على التخندقات ومنطق الخير. هي انسيابية المواطن في هذا العالم Global citizen أو المواطن المُعَوْلَم Globalized citizen تشمل الكرة الأرضية دون حرج أو خوف من الضياع خارج عباءة هوية معينة. في دراسة بعنوان "برنامج المواطنة المعولمة" التي نشرها معهد هونغ كونغ للتعليم الدولي عام 2011، ثمة فكرة مهمة وهي أن هذه المواطنة المعولمة ليست الاعتراف أننا من مواطني العالم فحسب، بل هي أيضا "أسلوب تفكير وتصرّف، ونظرة إلى الحياة، والاعتقاد أننا يمكن أن نحدث فرقا ونجعل العالم مكانا أفضل." وتضيف الدراسة أن الشباب ينمون في السياق العولمي على نحو متزايد. وكثير مهم سيعيشون ويعملون ويدرسون جنبًا إلى جنب مع أناس من جميع أنحاء العالم. أنا عينة واحدة من مجتمع الخمسة ملايين من الشتات المغربي المقيم في مئة دولة في العالم في هذه اللحظة، ونحن أيضا نسبح قي بحر يشمل "جميع أشكال الثقافة متأثرة بالعولمية. كل قرار نتخذه كمستهلكين، أو مهنيين له تأثير على المجتمع العالمي." ليست هذه رؤية طوباوية أو امتدادا لفكر أو مخيلة أفلاطون، وإنما هي واقع معاش في جل دول المعمورة. وحتى في تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة، تتغير الكثير من المفاهيم الدلالات وما خلف الموروثات السيميائية بوتيرة أسرع مما نتصور. وقد بدأ مثلا في مركز الدراسات العالمية بجامعة بيتسبرغ Global Citizenship Education "تعليم المواطنة العالمية" يحل محل الحركات الشاملة، مثل التعليم متعدد الثقافات، وتعليم السلام، وتعليم حقوق الإنسان، والتعليم من أجل التنمية المستدامة والتعليم الدولي. تقول الأممالمتحدة التي تبنت هذا المسار التعليمي العالمي ضمن Education 2030 Agenda and Framework for Action "خطة التعليم وإطار العمل لعام 2030″ إن الهدف الأساسي لتعليم المواطنة العالمية هو رعاية الاحترام للجميع، وبناء الشعور بالانتماء إلى إنسانية مشتركة ومساعدة المتعلمين على أن يصبحوا مواطنين عالميين مسؤولين ونشطين. وتهدف الخطة أيضا إلى "تمكين المتعلمين من تولي أدوار نشطة لمواجهة التحديات العالمية وحلها وأن يصبحوا مساهمين استباقيين في عالم أكثر سلامًا وتسامحًا وشمولية وأمانًا." ليست فكرة المواطنة المعولمة بدعة جديدة بفعل تيار العولمة أو الثورة الرقمية والاتصال التكنولوجي، بل هي فلسفة قائمة منذ أكثر من أربعة وعشرين قرنا بنواة فكرة الكوزموبوليتانية Cosmopolitanism في كتابات الفيلسوف ديوجين سينوب Diogenes of Sinope مؤسس حركة التشكيك حوال 412 قبل الميلاد، خاصة بعد أن سٌئل من أين أتى؟ فأجاب: "أنا مواطن في العالم kosmopolitês". وتفترض فلسفة الكوزموبوليتانية أن جميع البشر أعضاء في مجتمع واحد. هي صيغة وصفية وسردية إلهام وطموح على حد سواء نحو إمكانية القبول بأن البشر يمكن وينبغي أن يكونوا مواطنين عالميين. في العصر الحديث، يقدم فيلسوف الحداثة الأوروبية إيمانويل كانط يقدم مفهومًا عالميًا، وهو بمثابة قانون أو حق عالميً، كمبدأ إرشادي لمساعدة المجتمع العالمي على تحقيق سلام دائم. ويشدد على ضرورة تبني فهم مشترك بأن جميع البشر أعضاء متساوين في مجتمع عالمي. وهكذا يعمل الحق العالمي جنبًا إلى جنب مع الحقوق السياسية الدولية ، والحق العالمي المشترك للإنسانية. ويذهب كانط إلى أبعد من ذلك بالدعوة للإقرار بأن جميع البشر الحق الأساسي في اللجوء: الحق في الوجود في أرض أجنبية. يوُستمد حق اللجوء من فهم كانط لسطح الأرض باعتباره مشتركًا بشكل أساسي والتأكيد على مطالباته بشأن الحقوق العالمية المشتركة على قدم المساواة بين جميع البشر، كما أوضح في مقالته "السلام الدائم: رسم فلسفي" عام 1795. لهذه الأسباب جميعها وما ظهر منها وما خفي، لا تضيق الأرض أبدًا بالشرقاوي الحرّ المتصالح مع ذاته.. وهويته.. عفوا هوياته.. والعالم!