عندما قررت العودة للشأن المغربي و التعليق على تصريح رئيس «حكومة الشعارات» رجعت لمشاهدة جزءا من مداخلة السيد رئيس الحكومة أمام البرلمان، والملاحظة الشكلية التي استخلصتها أن الرجل بدأ يتمرس على الشعبوية والتسويق السياسي Political Marketin.. ولعل ما ساعده في أداءه الاستعراضي، ضعف المعارضة، وتوفره على أغلبية مريحة ضمنها «التحالف الثلاثي» هذا من الناحية الشكلية.. أما بالعودة إلى صلب الموضوع وإلى «قاع الخابية» وما وراء الخطاب والكلمات والأرقام «المختارة» بعناية، فأغلب ما قاله السيد رئيس الحكومة تدحضه الأفعال والوقائع على الأرض، وأعتقد أنه جانب الصواب كثيرا، عندما وصف الحكومة بأنها «حكومة إنجازات»، و الأصح أنها «حكومة شعارات» بإمتياز .. حكومة تركز على الثانوي وتهمل الأساسي، ولعل حرص رئيس الحكومة على إختصار كلمته لأجل تمكين «المواطنين من متابعة مقابلة لكرة قدم»، يعطي صورة عن ذهنية صناع القرار في مؤسسة حكومة «العام زين» .. وقبل كتابة هذا المقال بنحو يومين وتحديدا صباح يوم السبت 11 ماي 2024، جرت محادثة مطولة بيني وبين أحد الفضلاء المهتمين بعالم الكتاب والنشر، حول أوضاع النشر ومعطيات عالم الكتابة وأفاقها واقتصاديات وصناعة الكتاب وأزمة المقروئية، وكل هذا كان على هامش إعداد نسخة منقحة ومصححة من ثلاثية «النموذج التنموي المنشود» والجدير بالذكر أن هذا الصديق هو مدير دار النشر والتوزيع التي تعاقدت معها لتوزيع الكتاب، وقد تعهد لي بتسويق هذه الثلاثية إبتداءا من جزئها الأول عن طريق العالم الرقمي أي منصات التواصل الاجتماعي تحديدا .. ولم أحمل حديثه أنداك على محمل الجد، لأني ادرك جيدا أن قاعدة القراء سواءا في العالم المكتوب أو الرقمي ضيقة، ولا قبل لها بالنصوص الطويلة و المواد الدسمة، فما بالك بالكتب والمؤلفات، فكثيرا ما يواجهني القراء الأفاضل بتعليقات تطلب مني تقليص حجم المقال، كما أن تدريسي بالجامعة جعلني على قناعة بأن طلابنا في الغالب لا يقرؤون، وحتى إذا قرؤوا فإن تركيزهم يكون على الامتحان و المقرر.. عموما رفعت الجلسة وغادرنا مكان العمل ضاربن لبعضنا موعدا جديدا لإتمام مغامرة تسويق الكتاب، واتفقنا على أن تكون الجلسة الثانية ظهر يوم الإثنين 14 ماي 2024.. وساعة عودتي للبيت طالعت مواقع التواصل لأجد ازدحاما حول موضوع واحد، ألا وهو ضجة الكاتب السعودي-الأمريكي «أسامة المسلم»، الذي أقام دنيا المعرض الدولي للكتاب بالرباط ولم يقعدها !! والذي حج لرواقه المئات إن لم نقل الألاف من الشباب والمراهقين والفتيات على وجه التحديد.. أي تلك الشريحة العمرية التي نتهمها نحن المثقفين و الأكاديميين بأنها عازفة عن القراءة والمطالعة، وعن كل ماله علاقة أساسا بالكتاب.. أليس هؤلاء الشباب والفتية هم أبناء «عالم الديجتال» والثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ فما شأنهم بعالم الأوراق والأقلام والقصص والروايات؟ هل عادت هذه الشريحة في غفلة منا إلى المكتبات باحثة عن شيء ما من ذخائر وكنوز معرفية لم تجدها في العالم الرقمي الافتراضي؟ أم في الأمر «إن» و ما أدراك ما «إن»؟! لماذا «إن»؟ وما أسباب الصدمة والشك؟ وما دمنا فتحنا قوس الكتاب و النشر والمقروئية فلا بد من الاعتراف بأن ما يتم إنتاجه من كتب ومنشورات بالمغرب و غيره من البلدان العربية لازال ضعيفا جدا.. ففي المغرب مثلا، وبحسب تقرير حديث صادر عن «مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية» عن وضعية النشر والكتاب في المغرب في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية (2022-2023).، فالتقرير كشف أن حصيلة النشر المغربي سجلت خلال 2022/2023 ما مجموعه 3482 منشورا بمعدل سنوي يقدر ب1741 عنوانا، فيما توزعت حصيلة فترة التقرير (سنتين) على ما مجموعه 2795 كتابا ورقيا و403 مجلة ورقية، أما المنشورات الرقمية فلم تتجاوز 191 كتابا و93 مجلة. وتمثل المنشورات الورقية نسبة 92 في المائة من حصيلة النشر المغربية في المجالات المغربية التي يشملها التقرير، أما بالنسبة لحجم النشر الرقمي، فقد تحدد في فترة التقرير في 8 في المائة معظمه باللغات الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية بنسبة 67.02 في المائة) على شكل إصدارات لمؤسسات عمومية وهيئات رسمية والمؤسسات العاملة في مجال البحث، فيما لم تتجاوز المنشورات باللغة الأمازيغية في المغرب خلال فترة التقرير نسبة 1.51 في المائة بعد اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية.. هل علمت أيها القارئ الكريم لماذا واقعة الكاتب السعودي شكلت صدمة لجل المهتمين بالشأن الثقافي؟ ما حدث بمعرض الكتاب دفعني للبحث و التقصي لفهم ما جرى، و أقر بأن صديقي مدير النشر كان ذو رؤية ثاقبة و منهجية تسويق فعالة وذكية، فقبل واقعة معرض الرباط لم أطلع على أعمال «أسامة المسلم» ولا أعرف هذا الكاتب أساسا، ولفهم أصل الحكاية بحثت عنه في ويكيبيديا بعد الضجة، بدأ أسامة المسلم الكتابة عام 2015 صدر له خلال عشر سنوات فقط 23 مؤلفا.! حتى وإن كان الكاتب يتنفس الأدب الفنتازي وخياله متدفق أكثر من اللزوم، لا يمكن أن ينجز أعمالاً مهمة بهذا الكم في ظرف وجيز، فللكتابة طقوسها وقوانينها، فكبار الكتاب إستغرقوا عقودا في كتابة رواية أو كتاب، فمثلا رواية البؤساء» والمؤلفة من خمسة أجزاء، ألفها فيكتور هوجو في أربعة عشر عاماً .. في حين نجد أن الكاتب «المسلم» صدر له 26 مؤلفاً في غضون عشر سنوات فقط.! وهذا المعطى الأولي كافي لمنحنا صورة أولية عن: أولا- نوعية المنتوج الأدبي للكاتب.. ثانيا- الإقبال المنقطع النظير عن الكاتب و رواياته يعطينا صورة عن ذوق ومزاج القارئ، الذي يميل لنوعية من الأدب أقل ما يقال عنها أنها من صنف «الأدب الأصفر» على غرار «الصحافة الصفراء» و«الأدب الأسود» على غرار «السحر الأسود»، والذي يعد صناعة تلموديه أتقنها بعض حاخامات اليهود.. وفي سياق البحث عن جذور و خلفيات الضجة، وجدت بأن للكاتب «المسلم» أحد «أتباعه» أو «عملاءه» بالمعنى التجاري والتسويقي على الأقل، ويدعى «بيرمون» والذي يملك قناة على اليوتيوب مخصصة لمحتوى يهتم بمواضيع «الجن» و«السحر» و«الشعوذة» ومواضيع الرعب والخوف والخيال.. هذا الشباب «بيرمون» يعمل على تحويل نصوص وقصص روايات الكاتب «المسلم» إلى أشرطة صوتية ويقدمها لجمهوره بأسلوب تسويقي أقرب ما يكون إلى أسلوب «الحلقة» بساحة جامع الفنا بمراكش.. وما زاد من «صدمة» الضجة تزامنها مع تراجع ملحوظ في مستويات القراءة خلال السنوات الأخيرة، بعد الانتشار المكثف للمحتويات السمعية البصرية التي تظل في جزء منها سلبية وغير لائقة بخصوص الناشئة.. لذلك، علينا الإقرار بأن «الكاتب السعودي» نجح بالفعل في استقطاب عدد من الشباب المغاربة، خصوصا فئة المراهقين، مع تفوق واضح للعنصر النسوي في هذا الإطار.. ولتفسير هذا الإقبال -ودون تقليل او تنقيص من مستوى القراء و أذواقهم- لكن ما يتم سرده في قناة الشاب المغربي «بيرمون» وما يكتبه الكاتب «المسلم» لا ينفصل عن مواضيع «الجن»، «السحر»، «الشعوذة»، «الرعب»، «الخوف» و«الخيال».. والأكيد أن أصحاب القلوب والعقول الضعيفة، لا تستطيع الصمود أمام طلاسم هذا العالم الغيبي المليء بالكائنات الخرافية والأحداث الخيالية والأماكن المظلمة والحكايات المثيرة التي ترفع دقات القلب، وتجمد الدماء في الركب، وتغلق خلايا العقل، وتجعل المستمعين يتسمرون في أماكنهم ويبدون إستعدادا لتصديق كل تفاصيل هذه الروايات والحكايات ويودون لو كانوا شهودا عليها ولما لا أبطالها، أو من أقارب صناعها !! والكاتب المسلم أحد أبرز هؤلاء، أي أنه صاحب القضية، ففي روايته الشهيرة المسماة ب «خوف» يحكي قصته الحقيقية -على حد قوله-باعتباره ابن مهاجر سعودي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، والأكيد أنه أضاف لقصة حياته الكثير من التوابل والبهارات على طريقة «هاري بوتر» وأفلام «الخيال العلمي» أو بالأحرى «الخيال الدجالي» .. وحتى لا أطيل عليكم سأرحل ما تبقى من نقاش للمقال الموالي، ولأكشف لشبابنا وقراءنا خيوط المؤامرة وأبعاد اللعبة و غاياتها… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. كاتب و أستاذ جامعي