أثارت الرسالة التي وجهها عدد من الفاعلين السياسيين إلى جلالة الملك اهتماما واسعا، لما حملته من مواقف وتوصيات في سياق وطني يشهد توترا اجتماعيا متزايدا ومطالب إصلاحية ملحة. غير أن قراءة متأنية تكشف عن افتقادها لبعض الشروط الفكرية والسياسية التي تجعلها أرضية صلبة للنقاش الوطني المنشود. من الضروري التوضيح منذ البدء أن هذه الرسالة لا تعبر عن جيل الشباب كما قد يوحي عنوانها الضمني، بل تمثل موقف مجموعة من الناشطين السياسيين المعروفين (أكن لهم كل التقدير والمحبة). تعكس رؤية سياسية محددة، وهو أمر مشروع في حد ذاته، لكنه لا يعكس بالضرورة نبض الجيل الجديد بكل تنوعاته. وهذا يطرح سؤالا جوهريا، هل يمكن لمجموعة أن تختزل صوت جيل بأكمله؟ أم أن المطلوب هو فتح فضاء تشاوري أوسع يضم أطيافا فكرية واجتماعية متعددة لضمان بلورة رؤى متكاملة؟ صحيح أن الرسالة تلامس اختلالات حقيقية في التعليم والصحة والحكامة، إلا أن خلاصاتها بدت متسرعة، ولم تمر عبر نقاش عمومي أو مسار تشاوري. وكان الأجدر أن تُطرح في إطار حوار وطني جامع، يتيح مشاركة أوسع ويحول المطالب إلى مشروع متكامل بدل أن تبقى مجرد نداءات ظرفية. كما أن بعض مضامين الرسالة تعكس نظرة اختزالية للتنمية حين تُقابل بين الاستثمار في البنيات التحتية الكبرى والاهتمام بالقطاعات الاجتماعية. فالتنمية ليست معادلة صفرية، بل عملية تكاملية تتطلب توازنا بين المشاريع الاستراتيجية والخدمات الأساسية. فالمشاريع الكبرى في النقل واللوجستيك والرياضة ليست ترفا، بل رافعة اقتصادية تخلق فرص شغل وتدعم إشعاع البلاد إذا أُحسن ربطها بالعدالة المجالية. في مقالتي المنشورة سنة 2019 بعنوان "ما بين العدمية السياسية وعقلية المخزن السلطوية: معا من أجل الوطن والديمقراطية"، طرحت سلسلة من الأسئلة التي لا تزال راهنة: – ما الذي حال دون تحسين ظروف العيش اليومي للمواطنين؟ – لماذا لم تستفد الفئات الضعيفة من الأوراش الكبرى؟ – لماذا فشل النموذج التنموي في الحد من الفوارق وتحقيق العدالة المجالية؟ – لماذا آلت الممارسة السياسية إلى نفق مسدود رغم كل المشاريع الإصلاحية؟ هذه الأسئلة لم تجد بعد أجوبة مقنعة، والرسالة الأخيرة تعيد طرحها دون تقديم أدوات جديدة لتجاوزها، مما يبرز الحاجة إلى خطاب أكثر تجذرا في الواقع وأقل انفعالا باللحظة. وفي هذا السياق، يبدو أن المغرب في حاجة ملحة إلى إعادة ترتيب أولوياته الاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن توجيه الموارد والجهود نحو معالجة الاختلالات البنيوية التي تعمق الفوارق وتضعف الثقة في المؤسسات. فبدون مراجعة جذرية لهذه الأولويات، سيظل النموذج التنموي عاجزا عن تحقيق العدالة المجالية والاجتماعية، وستبقى الممارسة السياسية رهينة للفراغات التي تخلقها السياسات غير المتوازنة. ففي ظل هذا التعثر البنيوي، الذي يكشفه فشل النموذج التنموي في تحقيق العدالة المجالية والاجتماعية، تبرز الحاجة إلى مراجعة ليس فقط في السياسات العمومية، بل أيضا في أنماط التعبير السياسي وأساليب التفاعل مع المؤسسات. إن اختيار مراسلة الملك بشكل مباشر وتحميله مسؤولية الوضع والحل قد يُفهم، في بعض السياقات، على أنه توجه نحو التصعيد، مما قد يُضعف فرص خلق مناخ إيجابي يساعد على اتخاذ خطوات إصلاحية كبرى. كما أن توقيت الرسالة، قبل افتتاح البرلمان بيوم واحد، قد يُفسر كنوع من الضغط الرمزي، بقصد التأثير على مضمون الخطاب الملكي، ليتحول من تجاوب مع نبض الشارع إلى تجاوب مع أصحاب الرسالة، بما قد يُضعف الأثر المرجو منها. إننا بذلك نكاد نكرر بعض الأنماط التاريخية التي حالت دون تحقيق إصلاحات عميقة، حيث يغلب الحماس على التبصر السياسي، فنتعامل مع اللحظات الإصلاحية بروح متوترة، بدل السعي إلى بناء توافق وطني هادئ ومسؤول يمهد لمسار إصلاحي مستدام. أعتقد أننا بحاجة إلى استحضار الحكمة السياسية في اللحظات الإصلاحية، وتجنب إعادة إنتاج أنماط تعبيرية قد تُفقدنا فرصا ثمينة. فبدلا من الروح الصدامية، يمكن بناء توافق وطني هادئ ومسؤول يمهد لمسار إصلاحي عميق ومستدام، يُترجم الحماس إلى فعل جماعي راشد. كنت آمل من أصحاب الرسالة أو من غيرهم من الفاعلين أن يهيئوا أرضية فكرية لحوار وطني مفتوح، ويسمحوا للنقاش العمومي بالنضوج في فضاء مدني حر ومسؤول، بدل مخاطبة رأس الدولة مباشرة في لحظة حساسة، وبوثيقة ما تزال تفتقر إلى عناصر التوافق والتشاور. المغرب يحتاج إلى أصوات نقدية مسؤولة تُسهم في توجيه النقاش الوطني بروح اقتراحية بناءة، لا إلى بيانات متسرعة تختزل التعقيد في مطالب آنية. فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بالحوار الهادئ، وبالثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، من أجل بناء مستقبل مشترك أكثر توازنا وعدلا. وهذا يتطلب خطابا جديدا، لا يُخاطب السلطة فقط، بل يُخاطب المجتمع أيضا، ويُعيد الاعتبار للفضاء العمومي كشرط للديمقراطية.