تشهد المجتمعات العربية والإسلامية في العقود الأخيرة تحولات عميقة طالت المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية ،وقد كان للاستعمار الأثر الكبير في هذه التغييرات ،كما شكل خروجه فرصة سانحة لفتح نقاشات عميقة وحادة بين جميع الفاعلين في الحياة العامة لهذه المجتمعات تحولت في بعض الأحيان إلى صراعات دموية كادت تعصف بمستقبل بعض البلدان بسبب محاولة كل فاعل فرض تصوره المجتمعي وفق الخلفية الإيديولوجية التي يؤمن بها. والمغرب كبلد يربطه بهذه المجتمعات مكونا الإسلام و العروبة لم يكن في يوم من الأيام في منأى عن النقاشات و الصراعات فبمجرد حصوله على الاستقلال في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي حتى فتحت عدة مواضيع للنقاش كمسألة الإصلاحات الدستورية، وعلاقة الدين بالسياسة، وإصلاح التعليم ،وغير ذلك من المواضيع الأساسية في بناء صرح دولة مستقلة.وقد تجاذب هذا النقاش تياران أساسيان ؛تيار "محافظ"متمسك بالمقومات التي ارتكز عليها بناء الدولة المغربية عبر تاريخ ما بعد دخول الإسلام من دين و لغة و نظام للحكم وعادات و تقاليد ؛و تيار "حداثي"رأى في التخلص من إرث الماضي السبيل الوحيد في السير نحو خلق بلد متحضر على غرار الدول الغربية. ولعل أهم المواضيع التي خلقت نقاشا حادا بالإضافة إلى المواضيع الأنفة الذكر موضوع الأسرة بصفة عامة و المرأة على وجه الخصوص.وقد تفاقمت حدة هذه النقاشات مع تقديم الوزير السابق المكلف بالشؤون الاجتماعية والأسرة والطفولة على عهد حكومة التناوب الأولى سعيد السعدي خطة وطنية لإدماج المرأة في التنمية.و قد أبان ذلك عن انقسام المغاربة إلى التيارين المذكورين آنفا،حيث حاول كل تيار أن يعبر عن نفسه بحشد أنصاره للخروج إلى التظاهر في كل من الدارالبيضاء، بالنسبة للتيار المحافظ ،و الرباط بالنسبة للتيار الحداثي. كمحصلة لهذا التدافع خرجت إلى الوجود مدونة الأسرة التي كان قد أسند الأمر في إعدادها إلى زمرة من فقهاء الشريعة و القانون وناشطين حقوقيين و قضاة خبروا العمل القضائي و تعقيداته .وهي المدونة التي حملت في ثناياها الكثير من القواعد المنشئة لحقوق لم تعهدها المرأة المغربية من قبل وفق تركيبة إيديولوجية مركبة ومعقدة توافق عليها المشاركون في إعدادها ومن والاهم في التفكير، ليترجم نواب الأمة هذا التوافق و التراضي بالتصفيق على بنودها تحت قبة البرلمان لتدخل حيز التطبيق في فبراير من سنة 2004 . إن واقع الحال الآن يثير التساؤل حول المتغير بعد هذا التاريخ الذي هلل البعض به و اعتبره نقطة البداية في الثورة على وضعية مخزية عاشتها المرأة المغربية . إن قارئ الواقع ومحلله يخرج ،في رأيي المتواضع، بخلاصة مفادها أن لا شيء تغير في وضعية المرأة بل بالعكس حصل تقهقر فضيع في جودة مناخ حياتها حيث خرجت من كنف الأسرة التي كانت مستأمنة بين أحضانها لتعيش فريسة بين المخالب الحادة لمجتمع تسيطر عليه القواعد والمبادئ المجحفة للتفكير العولمي،قد يقول البعض أن المرأة حققت الكثير وتبوأت المقاعد و شغلت المناصب العليا إلا أنني أقول أن ذلك بقي محصورا في فئة قليلة من المجتمع ولم يخرج عن قاعدة إفقار الفقير وإغناء الغني كأحد مبادئ العولمة،إذ يمكن القياس على ذلك بالنسبة للمرأة حيث ثم إفقار وقهر الفقيرة وإغناء وترضية الغنية. التغيير الذي وقع في نظري يتمثل في تحريرها من السلاسل التي طوقتها لعصور داخل نسق أسري تقليدي يهيمن الرجل على اتخاذ القرار داخله، لتجد نفسها أسيرة قيود أخرى خارج هذا النسق ومستعبدة في يد بعض ممن حملوا اللافتات بمناسبة إعداد مدونة الأسرة مطالبين بتحرير المرأة و لسان حالهم يقول ما أحوجنا إلى أيد عاملة ناعمة رخيصة و صامتة . يكفي أن نستأنس هنا بالإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل بخصوص قضايا التطليق الرائجة أمام المحاكم،حيث سجلت سنة 2006 ما مجموعه 48282 ملفا بزيادة 15690 ملفا بالنسبة للعدد المسجل في سنة 2005 وهو 32592،وتشير أيضا الإحصائيات بالنسبة للسنة نفسها إلى أن عدد الطلبات المتعلقة بمسطرة الشقاق التي يقبل عليها الزوجان معا تمثل نسبة النساء فيها 78 كنسبة مئوية في مقابل 22 بالنسبة للرجل،كما أن نسبة إقبال الرجال على الطلاق الرجعي عرفت تراجعا بنسبة 12 في المائة حيث انتقلت من 8273 رسم طلاق سنة 2005إلى 7276 رسم سنة 2006،فهذه الإحصائيات تعكس بشكل جلي رغبة المرأة في التحلل من رابطة الزواج أكثر من الرجل بغض النظر عن المبررات التي تؤسس عليها طلب التطليق،وبوسعنا أن نتساءل عن مصير هؤلاء المطلقات في ظل النزعة الفردية التي باتت تهيمن على المجتمع المغربي وأفول شمس الأسرة الكبيرة التي كانت تحتضن كل من رمى به الدهر في الشارع. فدفاع هؤلاء عن المرأة لم تحركه سوى الرغبة في استغلال الانفراج الحقوقي في وضعيتها لأغراض اقتصادية محضة ،و يمكن الاستدلال على هذا الرأي بما يلي: - إن الحماس الذي خالج نفوس الكثير ممن بحت حناجرهم مدافعين عن المرأة أثناء إعداد مدونة الأسرة لم نلمسه أثناء إعداد مدونة الشغل التي تحبل بمقتضيات قانونية تمس المرأة بشكل مباشر كالحد الأدنى للأجور ،وساعات العمل ،ورخصة الولادة،والتغطية الصحية ،وشروط العمل في المعامل...وقد تتبعنا جميعا كيف لقيت مجموعة من المطالب المرتبطة بهذه المقتضيات معارضة عنيفة من "الباطرونا"الذين اصطف بعضهم في الصفوف الأمامية للمظاهرات المطالبة بتحرير المرأة،ومنهم من أسس جمعيات لأجل هذا الغرض. - من يتابع ملف الخادمات وما يعانينه من مآس على يد المشغلين يناجي نفسه ويتساءل عن المكان الذي غرس فيه مناضلو قضايا المرة رؤوسهم حتى ينبههم إلى أن الخادمة امرأة كسائر النساء. تشير بعض الدراسات التي قامت بها هيئات وطنية ودولية أن عدد الطفلات الخادمات بالمغرب يتراوح بين 60 ألف و80 ألف خادمة ،كما تفيد الدراسة التي قام بها الإتلاف من أجل حظر تشغيل الطفلات الخادمات في البيوت سنة 2010 أن 67 في المائة من الأسر المغربية المشغلة للطفلات الخادمات على علم بالأحكام القانونية التي تحظر تشغيل الأطفال وأن 61 في المائة من المشغلين يتوفرون على مستوى عال ومعرفة كاملة بحقوق الطفل،أضف إلى هذا إلى أن النقاش الذي راج في البرلمان حول قانون الخادمات في البيوت كان يدور حول تحديد 600 درهم في الشهر كحد أدنى للأجر،و هو رقم غني عن أي تعليق. . - دروس محو الأمية التي تنظم لفائدة النساء فى القرى و أحزمة الفقر المحيطة بالمدن سرعان ما تتحول إلى ورشات للإنتاج عن بعد ،وفي بعض الأحيان يتم نقلهن إلى المعامل القريبة لقراهم وأحيائهم ليشتغلن بأجر هزيل وفي ظروف تتناقض مع الشعارات التي كان يرفعها المدافعون عن المرأة دون أن نلمس استنكارا شديدا لهذا الاستغلال. - الدفاع عن حقوق المرأة باستماتة لم نلمسه في محاربة ظاهرة الدعارة المحلية أو تلك المرحلة إلى دول الخليج ،وهي الظاهرة التي باتت تستفز الإنسان المغربي أينما حل و ارتحل لتبرر اللواتي يمارسنها بكونهن سوى ضحايا استفزاز الفوارق الاجتماعية الشاسعة داخل المجتمع و أن أي عدول عن نشاطهن غير المشروع رهين بتراجع من كانوا سببا في تعميق الفوارق الاجتماعية عن ممارساتهم المبنية على خرق القوانين و الاعتماد على اقتصاد الريع و التهرب من الضرائب. أود أن أثير الانتباه بعد هذه الاستدلالات إلى أن موضوع حقوق المرأة لا ينبغي أن يختزل في علاقتها بزوجها أو خطيبها، بل تجب معالجته داخل النسق الأسري ككل و الذي تتجاذب أطرافه مجموعة من العلاقات (الزوجية،الأمومة،الأبوة،البنوة،الأخوة...). كما يجب أن يعالج في إطار النسق الاجتماعي الذي ترتبط فيه بمجموعة من الفاعلين(السياسي ،الإعلامي،الثقافي،الاقتصادي...).فالارتقاء بوضعية المرأة يقتضي من جهة الارتقاء بالنسق الأسري من خلال إقرار توازن في الحقوق والواجبات بين جميع مكونات هذا النسق،ومن جهة أخرى الارتقاء بجودة النسق الاجتماعي وتحسين وضعية المرأة فيه من خلال ضمان مشاركتها الفعالة والحقيقية في تدبير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الصعيد الوطني والجهوي والمحلي حتى لا تبقى عرضة لاستغلال بعض مكونات هذا النسق. وآمل في الأخير أن تكون الإصلاحات الدستورية التي صوت عليها المغاربة بنسبة مرتفعة مدخلا للنهوض الحقيقي بوضعية المرأة من خلال تفعيل ما أقرته من حقوق ومن خلال التأويل العادل و المنصف للمقتضيات الدستورية التي تخصها.