“يشمخ الفن عندما يستعيد طائفة من الأحاسيس والحالات النفسية التي خلقها الدين، يفتح لها قلبه ويبلغ بها أعماقا جديدة وفيضا روحيا يجعلانه قادرا على إشاعة السمو والإلهام”، فريدريك نيتشه. التصوير حرام ومكروه شرعا، رأي المتزمتين الذي حقن الإسلاموفوبيا بجرعات حيوية، وأيضا فصائل الإسلام السياسي التي مهما تباينت تلتقي عند المكون نفسه، كالماء في أشكاله (ثلج/سائل/بخار)، ظاهريا مختلفة لكن بالتركيبة الكميائية نفسها: H₂O. الدكتور محمد عبد الله الخطيب، عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين، اعتبر التصوير حبسا للظل أفتى العلماء بكراهيته، ووحدها الضرورة القصوى قد تبيحه بشروط. هل انساقت غالبية المسلمين وراء هذا الادعاء؟ لماذا إذن قلت حاجتنا قديما إلى الحلول التشخيصية في مقابل براعة قل نظيرها في كل ما هو مقابل للتجسيم؟ شبهة تحريم بحجة محاكاة للخالق والتشبه به كان التفسير الجاهز، ولكنه لا يفسر هذا التراث الهائل من المنمنمات والتصاوير التوضيحية في المخطوطات والكتب، أو الرسومات على الجدران والعمائر، هل حقا أعرض المسلمون بمختلف فرقهم ومذاهبهم عن الرسم؟ اعتقاد واهم، لأن المسلمين لم يتوقفوا عن الرسم في أي عصر من العصور، بل برعوا فيه براعة غيرهم، وإنما كانت الحاجة إلى التجسيم تتوارى دوما خلف التجريد الذي كان مكمن عبقريتهم، توارت الصورة في الفنون الإسلامية خلف حضور جامح للعلامة بسبب فلسفة الدين حول الموت، ولا تنشأ الحاجة إلى الصورة إلا عندما يحضر الموت كإشكال وجودي. يصنع الإنسان صورة لشيء ما لكي يبقيه حيا بعد الموت، يقول ريجيس دوبري Régis Debray: “لولادة الصورة علاقة وطيدة بالموت، لكن إذا كانت الصورة العتيقة تنبعث من القبور، فذلك رفض منها لك، كلما انمحى الموت من الحياة الاجتماعية غدت الصورة أقل حيوية، وغدت معها حاجتنا للصور أقل مصيرية”. لا تولد الصورة إلا جنائزيا وبحافز من موت الجسد بغية تخليده (دوبري)، هذا قد يفسر تعاطي فرق من المتشيعين للتصوير أكثر من غيرهم بفعل معتقدهم بتجسيد المهدي المنتظر الذي هو في تصورهم الخاص صورة/نظير للإمام علي، لكن ماذا لو انتصر الإيمان على الموت كما هو حال غالبية المسلمين الذين اعتبروا موت الجسد حقا حتى لو كان موت النبي نفسه؟ ماذا سيتبقى للتمثيل الفني آنذاك غير التجريد؟ تعامل السواد الأعظم للمسلمين مع موتاهم بطريقة مخالفة تماما للحضارات الأخرى، فلم يبالغوا في المظاهر الجنائزية وفي تزيين القبور بالصور والتماثيل لأن الحياة الخالدة لا تتعلق بما هو مجسم (الجسد) بل بما هو مجرد (الروح)، وهل بالإمكان نحت وتصوير المجرد؟ انتصر فنانونا للحلول التجريدية لتمثيل فكرة الزمن والفضاء عبر التوسل بقوة الزخرفة والتوريق والخط الذي اعتبره أبو حيان التوحيدي هندسة روحية بآلة جسمانية، ومن ثم، لم تكن القبور والأضرحة هي متاحف المسلمين الأولى بل المساجد والبلاطات والحدائق، كما لم تكن المومياوات أولى أعمالنا الفنية لأن موت الجسد في ثقافتنا لا يشكل غموضا يذكر، بل أولى أعمالنا كانت القبب المزكرشة والمنفتحة على السماء حيث الحوار مع التنويعات الزمنية والضوئية، بما يرمز للمجرد واللانهائي، وليس الكفن المصور أولى لوحاتنا التشكيلية كما هو حال الغربيين، بل هي السجادة باعتبارها الرابط بين الجسد والروح، بين الفاني والخالد فسر محمد بن سيرين رؤية سجادة الصلاة في الحلم بصلاح أحوال الرائي في الدنيا والآخرة، وتميزت الفانطازيا الإسلامية بالبساط الطائر الذي يطوي المسافات ويعين على تحقيق الأمنيات. وإذا كانت أول قطعة ديكور غربي هي أواني حفظ الموتى وخابيات الأموات، فإنها بالنسبة لنا كانت حامل المصحف، انشغلت الفنون الإسلامية بالهم الجمالي المتعلق بالروح وعمدته باسم الجماليات، ولذلك فهي تمتلك اليوم قدرة هائلة على اختراق حداثة العالم لأنها نابعة من حضارة العلامة. عظمة هذه الفنون أنها تشكلت كفن للعيش، أي كانت ممرا للانعتاق من التعصب نحو الدنيوة Sécularisation، إذ لم تبشر بمذهب أو بنقاء عرق، تطورت بفعل تلاقح ثقافات وأجناس مختلفة داخل وعاء حضاري اتسع ليستوعب الجميع في عصور مظلمة سادها الانغلاق، هي إذن هندسة روحية ساهمت في تشييدها شعوب مختلفة لم تدن بالضرورة بتعاليم الإسلام، ففي النهاية ليست صلابة اليقين Fibre logique هي التي تضعنا في صلب العصر، بل الرخاوة والروحانية المفعمة بالجمال Fibre spirituelle والانتصار للمرئي Fibre optique هو ما قد يشكل اليوم عظمة الإسلام والحضارة المتصلة به. كثر الحديث سنة 2012 حول مبادرة نخبة من الملوك والحكام العرب لإنشاء جناح دائم للفنون الإسلامية بمتحف اللوفر بباريس، بقيمة إجمالية بلغت مائة مليون يورو، كانت بلادنا في قلب الحدث من خلال إسهام كبير لملك المغرب في هذا الاستثمار الناجح الذي استشرف النهوض بالفنون الإسلامية والمغربية وتحقيق وضع جديد للإسلام والمسلمين في مجتمع دولي حقق الخروج من المنظومة الشمولية. تجسد هذا الطموح عمليا باحتضان الجناح بعد افتتاحه سنة 2014 معرضا أشرفت عليه المؤسسة الوطنية للمتاحف حول فنون مغرب القرون الوسطى، قدم في قلب باريس قطعا ثمينة تعتبر من بين الأغنى والأجمل في العالم في مجال فنون الإسلام من أصل مغربي. عرف المعرض إقبالا غير مسبوق، ونجح في التعبير عن روح الثقافة المغربية الإسلامية التي تستلهم معاني التعددية والكرامة الإنسانية من روح الدين، ولا تنغلق إزاء منجزات المعاصرة. هل نعيد اجترار السؤال حول جدوى الإسهام في هذا الجناح وحول مردوديته؟ قد يذهب الاعتقاد إلى أن الأمر لا يتعدى افتتاح جناح في متحف، أو تنظيم معرض فني ليس إلا.. ولكن، لا.. قيمة الاستثمار في جناح إسلامي بأكبر متحف في العالم هي في تحقيق قيمة مادية للتحف الإسلامية والمغربية القديمة خارج المقدس، لم نكن في السابق نملك سوى المساجد والقصور لاستعراض عبقريتنا البصرية، ولكن المجتمعات المعاصرة لا تنهض إلا بتبادل الأدوار بين المعابد والمتاحف، فعندما يخفي الإنسان إبداعه البصري في أماكن التعبد، فإنه بذلك يواري الجمال تحت ستائر المقدس ويختزله في الصنم، ومن ثم يضعف الجانب اللامرئي للمجتمع في عصر ينهض على الفرضية البصرية. مشكلتنا أننا لم نبارح شغفنا بالنظم اللغوية نحو توسيع الاهتمام بالموروث البصري، فأغفلنا برغم نبوغنا الشعري عظمة التواصل البصري في ثقافتنا، فجمالية الخط والتوريق والمنمنمات وفن السجاد لم تلهم أبدا فقهاء اللغة، وفي مقدمتهم دعاة الحداثة الشعرية، ولم تحفزهم على نسيان النظم الكلامي مؤقتا حتى يتعلموا قليلا من فن النظر، ربما كان هذا نتاجا طبعيا لعصر المخطوط حيث هيمنة الكلمة وتسيدها، ولأن المرئي ليس مقروءا، فإنه لم يكن بالإمكان ترهين قيمة فنونا قبل عصر الشاشة، لهذا تركت أشكال الفن الإسلامي لوظائف تزيينية، فظلت بمثابة الثروة النائمة التي راكمت القيمة لا الربح وكرست الإشباع الروحي دون المادي، وانتهى ذلك بمجتمعاتنا للوقوع في شرك الاتباع عوض الإبداع. مبادرة ملك المغرب ومعه حكام وأمراء آخرون في إحداث المتاحف والاستثمار فيها هي بمثابة تحول جذري في سياساتنا التمثيلية وانقلاب كوبرنيكي للشعور الديني، فهو يبشر بثورة إيمان روحاني في خدمة غايات دنيوية، هذا حسب غوشيه Gauchet هو السبيل لتغلغل فكرة الديمقراطية داخل صلب الدين؛ إذ سيعمل على ربطنا بمنظومة القيم الكونية ذات الطبيعة الاستعراضية. مثل هذا الاستثمار هو العماد الذي يمكن أن تنهض عليه حضارتنا من جديد في عصر لا يؤمن سوى بالفرضية البصرية للوجود، حيث يمكن أن نصير الورثة المجددين لهذا التراث العظيم بروح قوامها الرخاوة لا التصلب، في عصر لا يبدو فيه من أفق للعولمة من دون إسهام هذه الحضارة الإسلامية التي تقف شامخة أمام خمس حضارات أخرى، والمطلوب في كل الأحوال التشبع بالأمل لا إشاعة اليأس، الإصلاح لا الثورة، التقويم لا الهدم، التجاور مع التعايش لا التجاوز: التطور قصد التوحد مع منظومة القيم الكونية وليس توحيد الصف لمجابهة أي كان، فالتقديس العالمي للفن هو الرابط الوجودي الأسمى لإنسانية مشتتة. ملحوظة: كل مقولات ريجيس دوبري مأخوذة من كتاب (حياة وموت الصورة)، ترجمة فريد الزاهي.