نشرة إنذارية: طقس حار مع "الشركي" وهبات رياح مع عواصف رملية السبت والأحد بعدد من مناطق المملكة    مونديال الأندية .. الهلال يسقط بعد معجزة السيتي    الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة يكشف مستجدات الدورة السادسة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي الدولي    نقابة الأبناك تدق ناقوس الخطر بشأن اقتطاعات ضريبية خاطئة من معاشات المتقاعدين    المغرب التطواني واتحاد طنجة مدعوان لتسوية وضعيتهما المالية للقيام بانتدابات جديدة    فلومينيسي البرازيلي أول المتأهلين لنصف نهائي مونديال الأندية على حساب الهلال    دوار الزهارة يهتز على وقع فاجعة.. وفاة طفلة وإصابة أربعة أطفال في حادث انقلاب شاحنة    جماعة طنجة تعتمد نظاما حديثا لركن السيارات وتلغي "عقل المركبات"    آلاف المغاربة يتضامنون مع غزة ضد التجويع والتهجير الإسرائيلي    جمهورية الإكوادور تفتتح سفارتها في الرباط    "حماس" تردّ إيجابيًا على مقترح الوسطاء    لقجع يفتح ذراعي المغرب للجزائر: "أنتم في بلدكم الثاني خلال كان 2025"    وزارة التربية تكشف عن جدول العطل المدرسية للموسم الدراسي المقبل    قناديل البحر تغزو شواطئ الناظور والدريوش: المصطافون بين الحذر والانتظار    أسعار الذهب تحقق مكاسب أسبوعية    الناخب الوطني: كأس أمم إفريقيا للسيدات المقام بالمغرب رهان كبير جدا لكننا متحمسون لتحقيق إنجاز جيد    المناظرة الوطنية الأولى حول الذكاء الاصطناعي .. عمر هلال: المغرب تموقع مبكرا ضمن الفاعلين المؤثرين في الدينامية الدولية لحكامة الذكاء الاصطناعي    تشكيلة الهلال السعودي أمام فلومينينسي البرازيلي تعرف غياب حمد الله    مجلس النواب يساءل رئيس الحكومة الإثنين المقبل    تقرير أممي يتوقع ارتفاع إنتاج الحبوب العالمي إلى 2.9 مليار طن    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على أداء إيجابي    حركة تعيين داخل وزارة الخارجية تشمل أزيد من ثلث القناصلة ضمنهم، 45 %نساء    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    مصرع طفل دهسته سيارة بضواحي الحسيمة    أولاد تايمة.. توقيف مروج للمفرقعات والشهب النارية المهربة    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصوت ضد مشروع دمج CNOPS في CNSS وتنتقد "تهميش الحوار الاجتماعي"    فيلدا: المنتخب النسوي تطوّر كثيرا ويمكنه الذهاب بعيدا في الكان    "حماة المال العام" يرفضون ترهيب المبلغين عن جرائم الفساد ويطالبون القضاء بالحزم مع المفسدين    حمد الله يرتدي القميص رقم 10 مع الهلال    شبهات فساد وإخلاف للوعود ومغالطات.. "البيجيدي" ينتقد اختلالات ورش الحماية الاجتماعية        الصين والاتحاد الأوروبي يعقدان الجولة الثالثة عشرة من الحوار الاستراتيجي رفيع المستوى    هذا المساء في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية :أبوالقاسم الزياني، كاتب الدولتين ومؤرخ الحضرتين.    مسرح رياض السلطان يكشف برنامجه لشهر يوليوز أمسيات فنية مفعمة بالجمال والإبداع    قائمة الفائزين في "تصور مدينتك"    افتتاح خط جوي جديد يربط الصويرة ببرشلونة    الحرارة القاتلة: دعوات عاجلة لحماية عمال البناء والزراعة بالمغرب    إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة    بعد تألقها في موازين.. المغربية فريال زياري تستعد لتصوير عمل فني جديد    طوطو وصناعة المعنى على منصة موازين    الجديدة : ديوان شعري نسائي جديد "لآلئ على بريق التجلي"    حملة تحسيسية تحذر سكان سوس ماسة من السباحة في السدود    البحرية الملكية تشارك في تمرين عسكري لمواجهة التهديدات البحرية والهجرة غير النظامية (صور)    تفسيرات علمية توضح أسباب فقدان ذكريات السنوات الأولى    بنك المغرب: ارتفاع الإنتاج والمبيعات الصناعية في ماي.. وتراجع في قطاع النسيج والجلد    افتتاح خط جوي جديد يربط الصويرة ببرشلونة    والد البلايلي: يوسف لم يرتكب أي جريمة وما تعرض له غير مقبول تماما    بوريل: مرتزقة أمريكيون قتلوا 550 فلسطينيا في غزة خلال شهر    أمسية تحتفي بالموسيقى في البيضاء    تحركات احتجاجية تعلن الاستياء في أكبر مستشفيات مدينة الدار البيضاء    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    تغليف الأغذية بالبلاستيك: دراسة تكشف تسرب جسيمات دقيقة تهدد صحة الإنسان    أخصائية عبر "رسالة 24": توصي بالتدرج والمراقبة في استهلاك فواكه الصيف    دراسة: تأثير منتجات الألبان وعدم تحمل اللاكتوز على حدوث الكوابيس    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيقونة الشاعر أو «مديح الوجه العالي» محمود درويش.. قراءة ثانية

لا نسعى هنا إلى تنزيه الوجه البشري لدرويش، ولا إلى أسطرة صورته وحصر ملامحها المتعبة في صور أو أيقونات القديسين. إذ "لم يعُد القديسون أنفسهم مثلما هو معروف في إنجازات الفن المسيحي يتألمون ويذرفون الدموع". يتألم درويش ويبكي. يستنشق المتعة والحزن ملء رئتيه. إن ما تدعو إليه قراءة كهذه أو بالأحرى تقترحه هو الاحتفاء بوجه الشاعر في القراءة بالعين. قراءة تكون فيها للصورة (صورة درويش) باعتبارها أثراً جمالياً كما للعين (عين المصور الفوتوغرافي والقراءة)، ذاكرتان: ذاكرة قبلية، تحتفظ بها العين والأثر معاً
في لحمتهما، في زمنيتهما الخالصة، وذاكرة يؤسسها إيحائياً كل منهما
(العين والأثر) لحظة اقتطاع الصورة من الزمن
1
لم أسعد حتى بأن تصافحني يوما ما يده العميقة والعليمة بضوء الشعر ومداه. ذلك كان مطمحي منذ أن ارتطمت شغاف القلب والحواس الطرية للقراءة بظل هذا الرجل وصوته البهي: أن أزرع وفي حضرته أو حياته بعض الضوء في المدارات الشاهقة لشاعر ظل يمجد الأرض والحب وحقه في الحياة. صوتي موجود هنا بسطوة الغياب كذلك. والموت السيد وحده من أذن لهذه اللحظة أو الشهادة بأن تنوجد.
قطعا، ليست تجربة درويش الحياتية، ومساراته المضنية والفرحانة أيضا في ليل الكتابة أمرا مستحيلا أو مستعصيا على القبض. إذ تعمل العديد من الرؤى والمقاربات في ارتباكات النقد العربي خصوصا أو قصوره على تشهيق ظل الرجل عمدا كي تسقط وجهه الطفولي في الاستحالة والعدم. ومن المؤكد أيضا أن كل القراءات التي أنجزت حول درويش هنا وهناك لم ولن تستنفد أبدا ممكنها التعبيري والجمالي في تجربة هذا الشاعر. ولم تتبين بعد لممكن هذه القراءات بما يكفي من القرب والضوء والعمق الكثير من الملامح الخاصة لوجه درويش العالق والمتألق في الغياب كذلك. مازالت تجربته الكبرى في الكتابة والحياة في أمس الحاجة إلى أشكال وصيغ أخرى من الحفر والتقصي والمحاورة. ليس بمبضع النقد المهووس بالمعنى، والباحث أيضا عن وجه الالتزام والقضية لدرويش فقط. بل بالممكن الإنساني والجمالي لو يصح القول؟ هذا الممكن الذي يتماهى أيضا جماليا بوجه الشاعر وصورته الماثلة للعين وللضوء. مطمح هذه التحويمة الخفيفة مهووس بالدلالة أكثر من هوسه بالمعنى. لكن ليس بصوت درويش المقروء والمسموع ومحموله، بل بالدليل أو السند البصري للوجه الذي جعل الصوت والقصيدة الدرويشية تنوجد.
غايتي هنا أن أقترب قليلاً من صورة الشاعر، وأحدق بالكثير من الأسئلة والدهشة والاحتمال كذلك مادام درويش نفسه رجل الاحتمالات بامتياز في وجه درويش الممنوح للبصر، للفن وللفوتوغرافيا تحديداً. هذا الوجه الذي أصبح (خصوصاً في الغياب) مثل صاحبه في الصورة الضوئية أيقونة وعلامة فارقة تشير بالكثير من الدهشة إلى الشبيه. ولو أن ما يمكن التأشير به لوجه درويش وصورته الفوتوغرافية كعلامة أيقونية: هو ما يُسعف به التعريف السائد لهذه العلامة، من حيث إنها - تمتلك - على حد طرح " امبرتو إيكو" أو "شارل موريس": "بعض مظاهر الموضوع الذي تمثله"، فإن في هذا التعريف بالنسبة لي ولهذه التحويمة على الأقل ما "يرضي القراءة ولا يرضي السيميولوجيا" ليست هذه المحاولة تطبيقاً صارماً لدرس السيميولوجيا في تقعيد الدلالة أو إثباتها في المنطوق البصري لوجه الشاعر، بقدر ما هي استقصاء لما يمكن أن يعنيه حضور الشاعر في الصورة. خصوصاً أن درويش رجل الصورة بامتياز: الذهني منها والمرئي. رجل بحضور فيزيقي خاص وجاذبية تزيد من تضعيف أشكال حضوره الأخرى: في النص، في القراءة وفي لحظة ارتطام جسد الشاعر ووجه بمتلقيه. الصورة هنا (صورة الشاعر) إبدال آخر لتجربته الغنية والمُفعَمة بالوسامة والفرح والشرود والتقاسيم التي عمّق الألم أخاديدها في المرحلة الناضجة من العمر. إذ يؤسس الوجه الباذخ لدرويش في الصورة كما جسده الذي يشبه قشة في مهب الريح لجمالية خاصة تستحق التوقف والقراءة.
2
لا نسعى هنا إلى تنزيه الوجه البشري لدرويش، ولا إلى أسطرة صورته وحصر ملامحها المتعبة في صور أو أيقونات القديسين. إذ "لم يعُد القديسون أنفسهم مثلما هو معروف في إنجازات الفن المسيحي يتألمون ويذرفون الدموع". يتألم درويش ويبكي. يستنشق المتعة والحزن ملء رئتيه. إن ما تدعو إليه قراءة كهذه أو بالأحرى تقترحه هو الاحتفاء بوجه الشاعر في القراءة بالعين. قراءة تكون فيها للصورة (صورة درويش) باعتبارها أثراً جمالياً كما للعين (عين المصور الفوتوغرافي والقراءة)، ذاكرتان: ذاكرة قبلية، تحتفظ بها العين والأثر معاً في لحمتهما، في زمنيتهما الخالصة، وذاكرة يؤسسها إيحائياً كل منهما (العين والأثر) لحظة اقتطاع الصورة من الزمن. نفس الإيحاء يواصل هذا الأثر إحالته على عين أخرى قارئة، تبسط دلالته أو تكثف من رمزيتها، تحرّكها في الثابت والمعتم والمنسي، تغلقها أو تفتحها أيضاً على المدهش واللامتوقع واللامفكر فيه. من ثم، تستيقظ ذاكرة العين والأثر فقط، حين تباشرهما القراءة. ومن ثم تنهض أسئلة الشاعر ووجهه في الصورة، ومسألة التلاقحات الدلالية كذلك، باعتبار الصورة الفوتوغرافية نصاً تصويرياً Texte Pictural أو نصاً فوتوغرافياً Photographique Texte بامتياز. بين عيون ثلاثة مقترحة، متنازعة القصدية في توصيف وجه درويش وقراءته. بين عين ناسخة، عين قاطعة، وعين متعالية، يكمن رهان الأثر والقراءة معاً، يتراوح تدليلهما الجمالي والشعري أساساً. فبأي العيون الثلاث سنقرأ صورة درويش؟ بها كلها، أم بعين أخرى قد تقلب صيغة هذه القراءة رأساً على عقب.
في هذه التحويمة ما يشبه نصاً موازياً أو مصاحباً لصورة درويش ووجهه، أو هويته البصرية تحديداً. ولو أن الوجه وحده ليس بالضرورة كافياً للتأشير إلى هوية ما. للجسد أيضاً (جسد الشاعر) دوره في صنع هويته. والهوية "إبداع صاحبها، لا وراثة ماضٍ" على حد قول درويش نفسه في آخر المطاف. ووجه درويش في حد ذاته قصيدة بصرية. ضاجة بالمعاني والانزياحات. عمل الشاعر بالكثير من الذوق والوعي والعشق والمكابدة على نحت ملامحه وظلاله اليانعة، ليصبح دالاً ومدلولاً، علامة ومؤشراً في الوقت نفسه. رمزاً لقضية ولشعب بأكمله. شامخ مثل سروة وجميل مثل زهرة غاردينيا. هذه التحويمة حاشية تحاول أن تستقصي أو تشيد باللغة ما ليس منجزاً باللغة. إنها نوع من "الترسيخ" أو "الإيحاء" البارطي (نسبة إلى رولان بارت) للعلامة والأيقونة والدليل البصري. ولو أن الصورة الفوتوغرافية بشكل عام "قد ترغب أشد الرغبة في تضخيم نفسها، وأن تكون راسخة أكثر، ونبيلة مثل دليل: الأمر الذي يسمح بكرامة ككرامة اللغة" بتعبير رولان بارت نفسه.
3
لنشغل عين الأسئلة قليلاً. علّها تُسعفنا ببعض التأملات، وليس ببعض الأجوبة. باعتبار السؤال هو "رغبة الفكر" أيضا ًعلى حد تعبير "موريس بلانشو". لا يقيم درويش الآن بصرياً سوى في صورته التي أصبحت يانعة وأكثر قوة بعد الموت. تلك هي لعبة الموت أو معجزته كذلك. تجعل من رحلوا أو سقطوا في بؤرة العدم أشد حضوراً ربما في الصورة أكثر من حضورهم الواقعي؟ وتجعل ما يوجد في النسخة أو في الصورة أكثر قوة مما يوجد في الأصل. فقط لكون "الصورة هي الكائن الحي في أجود حالاته". ولكون "الصورة تحافظ على نفسها طويلاً" أكثر من الأصل: فإن "الأجسام تسقط دائماً، فيما تصعد النظائر إلى السماء". وحتما إن كانت الصورة لا تقود إلى الخلود، فإنها تضاعف من إعجابنا وحنيننا إلى الموضوع المصور أو الممثل وتزيد من إعجابنا به.
ماذا يصنع الموت بصورتنا، بوجوهنا وبأشكالنا "المجيدة" في آخر المطاف" ربما لا شيء سوى أنه يتلف أجسادنا العابرة والمؤقتة ليعيد خلقها وترسيخها في الصور والتماثيل والنصب، ويجعلها أكثر تجسيداً للحقيقة (ليست حقيقة الحضور، بل حقيقة الغياب) وربما أكثر بقاء أيضاً" ربما لا يقوم الموت هنا سوى بتجديد قيمتنا في الغياب، وجعل هذه القيمة أكثر جاذبية وأشدّ قابلية للحنين من غيرها في الحضور الواقعي. باعتبار "الصورة سليلاً للحنين" كذلك. وطالما نموت، فثمة أمل في أن نعود ونحيا في الصور. وربما يكون المغزى أو الحكمة في ذلك هو: أن نقبل بهذا القانون الصارم لحقيقة الموت ويقينه الذي يترجمه شرط الغياب أو المراهنة التالية: علينا أن نموت، أن نستبدل دليلنا الصوتي بدليل بصري؟ لكون الصورة بشكل أو بآخر هي "مدخل لأبدية ممكنة". و "مثلما اللغة تمجّد اللغة" ضمن نوع من تمركز الخطاب، فالصورة هنا أيضاً (صورة درويش) "تمجّد نفسها" وتستغيث بالفوتوغرافيا وبتقنيات التصوير كلها كي تحيا وتصبح أيقونة مقدسة في نظر معجبيه على الأقل. ثم: ألا تكون صورة درويش بهذا المعنى قلباً للمعادلة كلها ونوعاً من تأكيد لحقيقة أو إمكانية انتصار الحياة؟
بذلك أيضاً، تكون صور أو تماثيل أو النصب التذكارية لمن رحلوا هي أول ما نشيده أو نلجأ إليه لكي نحفظ أشباههم من التلف. نسجن صورة الغائب في الأيقونة كي تكون عودته بيننا دائمة ومتكرّرة. ولا حاجة للتذكير هنا بالعديد من الشواهد والتأملات العميقة التي ذهبت بعيداً في إضاءة بعض دلالات الصورة وربط علاقتها بالموت. الفن نفسه "يولد جنائزياً، ويبعث بعد موته بحافز من الموت". إذ يقترح التاريخ المعيش للنوع الإنساني هذا النوع من القناعة: "في البدء كانت الصورة"، وتزكي العديد من المعتقدات والطقوس والعادات والتأملات والحضارات هذا الطرح الذي يجعل من الصورة ومما هو مرئي تمركزاً حقيقياً حول الدليل البصري. لكن دائماً بحافز من الفناء ومن الغياب. باشلار نفسه يؤكد ذلك من خلال قولته الشهيرة: "الموت أولاً وقبل كل شيء صورة، وسيظل كذلك صورة". إذ تنسجم هذه الرؤى أيضاً إلى حد بعيد من خلال رغبتنا الملحة في تمجيد الغياب مع العديد من الأفكار التي ذهب إليها "ريجيس دوبري" في كتابه التدشيني "حياة الصورة وموتها" (ترجمة: فريد الزاهي).
ما علاقة كل هذا بدرويش ووجهه الذي أصبح ممكناً ومقيماً في الصورة فقط، ما معنى أن يكون للصورة كدليل وكإنجاز بصري هذا الدور الخاص في تعميق حضور الشاعر في الحياة حين تضاعف من درجة أيقنته في الغياب وفي الفقد، وما معنى أن يتحوّل وجه الشاعر في الصورة إلى دليل بصري يقود إليه؟ بمعنى أن الأمر يختلف بالنسبة لمآتي الشعراء القدامى الذين تواروا عن العين ولم يتركوا صوراً تدل عليهم، أو حتى شعراء محدثين ومعاصرين نقرأ لهم ونسمع أصواتهم، لكن لم نبصر أبداً لسبب أو لآخر صورهم من قبل. الصورة سواء كدليل أو كعلامة إن ترسخت بما يكفي في العين وفي ذاكرة البصر قد تساعد صاحبها أو مرجعها على الاحتفاظ باستمرار حياة وحضور رمزيين على الأقل في ذاكرة التلقي والمشاهدة أساساً. قد يبدو في هذا الطرح الكثير من التناقض في ما يخصّ شعراء من عيار أو قامة المتنبي مثلاً. إذ يواصل هذا الشاعر العملاق حضوره، وتتضاعف بل تتأكّد قيمته التعبيرية والجمالية من يوم لآخر في القراءة والمنجز الشعري العربي والإنساني بشكل عام، من دون حاجتنا كقراء إلى صورة المتنبي ووجهه في الدليل البصري. لكن ثمة فرق في ما ينبئ به المستقبل والحضارات المقبلة من حيث تشييدها لقداسة وجهها في الهيكل البصري وارتهانها الكلي بالصور. إذ في ظل تلاشي أو بالأحرى تراجع الدليل الصوتي وطغيان الصورة وتحوّلها إلى طوطم معاصر، قد يكون من الصعب استحضار أو تذكّر الأشياء من دون صور. وهذا ينطبق من دون شك حتى على الحضارات الراهنة أو المعاصرة. فالمتنبي نفسه أو غيره من الفاعلين في التاريخ البشري (بما في ذلك الأنبياء) ولم يخضعوا لشرط الصورة واختراعها وضعت لهم هذه الحضارة صوراً ووجوهاً متخيّلة، فقط لكي تؤكد صورتهم صوتهم، وتظل وجوههم حاضرة في الغياب.
4
ما الفرق إذن أو ما العلاقة بالأحرى بين صورة درويش وقصيدته؟ وما معنى أن يتحوّل وجه درويش إلى دليل بصري يقود إليه؟ كيف يحضر درويش أو بالأحرى كيف يرتّب حضور وجهه وجسده في الصورة وفي العين؟ ماذا استطاعت عين الفوتوغرافي أو الكاميرا التقاطه والقبض عليه في وجه هذا الشاعر الذي يكفي أن ترى صورته لتتذكّر قصائده وملحمة أو تراجيديا شعب بأكمله؟ ثم ألا يكون درويش بهذا المعنى هو الشاعر العربي الوحيد الذي تسمع قصائده بالعين؟ هذه أيضاً واحدة من فضائل الصورة أو معجزاتها. إذ استطاع هذا الشاعر أن يجعل صوته وصورته غير منفصلين بتاتاً. أي بمعنى أنك حتى حين تسمعه ولو من غير مشاهدة فلا مناص لك من استحضار وجهه وصورته ذات الدلالات أو الرسائل القوية: جاذبيته، وسامته، أناقته، ابتسامته، حزنه، نخوته، شروده، ذكاؤه، دلاله الخاص، نرجسيته، بساطته، تعاليه أو استعلاؤه الجميل الذي يشبه نشوة العظماء، سهوه، قسماته، أساريره، عينه الصقرية ونظرته المسهبة، الساهية، الثاقبة، المتشهّية، العاشقة، المشرعة على الحب والأرض والمتعة والألم والنشيد خلف النظارات التي لم تغيّر تقليعات الحداثة والموضة من شكلها سوى بشكل طفيف. كيف يحضر درويش في وجهه؟ وليس في صورته إن صحّ القول؟ هل هو الذي صنع بمكره الجميل وبوعي مسبق منه هذه الصورة كي نمجدها بعد رحيله، أم نحن الذين نتوهّم أو نُصرّ على أن يكون وجه درويش في الصورة أثراً فنياً وإنسانياً بهذه القيمة، وفقط داخل تبجيل العين والقصيدة التي شيِّدت لهذا الوجه كما التراجيديا المعاصرة لأرض فلسطين العزيزة والسليبة دلالته الباذخة ورسخت سطوته في النظر؟
هناك المزيد من الأسئلة التي لا يسمح المقام ببسطها هنا. ولا أملك الآن أجوبة جاهزة لها قطعاً. هذا مطمح قراءات أخرى متأنية، مكابدة وصبورة أيضاً قد تسعف الأيام المقبلة باستجلاء مغالقها بالمزيد من الأسئلة كذلك. فقط يحلو لي في نهاية هذه التحويمة المستعجلة لشكلها وغايتها أن أعيد استحضار تأمل أو توصيف جميل للمفكر الفرنسي "ريجيس دوبري" في ما يخص الحضارات والثقافات المولَعة أو الشغوفة بالبصر. لم يكتب "دوبري" الفيلسوف عن درويش ولا عن صورته في ما أعلم. لكن لذلك علاقة بما أتحدّث عنه. باعتبار درويش كشاعر عربي محبّ للحياة ينتمي أيضاً إلى حضارة عريقة أفردت لمباهج العين ودلالتها الكثير من الوقت والعشق والمباحث والتدوينات. بالرغم مما فرضته أو سيّدته المتعاليات وأشكال التمركز حول الدليل الصوتي (وهذه إشكالية أو معضلة الحضارة الغربية نفسها أيضاً يكفي الرجوع إلى تأملات "دريدا" بهذا الخصوص وغيرها من الإبداعات والتأملات المطمورة أو المضمرة في المتن النقدي العربي). كان درويش يعشق الشمس والبحر والجمال وصورة الحياة والسفر باعتباره تمظهراً حقيقياً لبهجة العين ومتعتها حد الهوس أو الجنون. فهو وإن كان عربي الأصل والمولد فثقافته وإبداعه لم يغفلا أبداً هذا البعد الكوني، وعشقه الخاص لكل الحضارات والثقافات. خصوصاً الثقافة الإغريقية في بعدها الفني والعقدي المفتون بتجليات العين ومباهج البصر. هي الثقافة التي يتأملها "ريجيس دوبريّ" كفرنسي بالكثير من الحفر ومتعة الفكر. تأكيداً فقط لقوة الدليل البصري وارتباطه بالحياة وبالموت. تلك الثقافة المشمسة كما يقول "دوبري" العاشقة للحياة وللرؤية. والحياة بالنسبة للإغريقي القديم ليست كما هي لدى الفرنسي مثلاً مرتبطة بالنفس، بل بالرؤية والموت وفقدان البصر. يقول الفرنسيون عن الميت: "لفظ نفَسَه الأخير". أما الإغريقي فيقول "أطلق نظرته الأخيرة".
هذه أيضاً كانت رؤية درويش المشبعة عينه وروحه بضوء الحضارات المشمسة والفارهة. وقبل أن يغادر أو يطلق نظرته الأخيرة على الأصح. كان قد قال في ما يشبه التأكيد لصورته ولوجه نرسيس الجميل في الماء وفي القصيدة:
"كن نرجسياً إذا لزم الأمر".
وقال:
"أنا ما أنا/ وأنا آخريّ/ في ثنائية/ تناغم بين الكلام وبين الإشارة".
وقال:
"أنا حبّة القمح التي ماتت/ لكي تخضرّ ثانية/ وفي موتي حياة ما".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.