تودع بلادنا السنة الميلادية 2018 بحلوها ومرها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بمنجزاتها المتحققة وقيد التحقيق وانتظاراتها المتبقية، وتستقبل سنة جديدة بأمل في استدامة النَّفَس الإصلاحي الملهم لنموذجها التنموي الجديد المنتظر إرساؤه خلال هذه السنة، باعتباره تتويجا لحصيلة التشخيصات والتقييمات لأبرز التعثرات وأهم المكتسبات التي عرفها النموذج التنموي القائم. وتعتبر السنة الجديدة منعطفا حاسما وبالغ الأهمية في ضم الأوراش القطاعية والبرامج والمشاريع الاستراتيجية الكبرى في إطار رؤية شمولية ومقاربة تكاملية ومندمجة ومؤسستية، تستجيب لتحديات التنمية الوطنية، ولتطلعات الفئات والجهات إلى الإنصاف. وقد شرع عدد من المتتبعين والملاحظين والمهتمين والمحللين بجرد حصيلة المنجزات خلال السنة المنصرمة ما بين مثمن لها ومقلل منها، إلا أن الإجماع حاصل على وجود وفرة من المبادرات والمشاريع التي تتناسق مع الرؤية الإصلاحية المؤسستية الوطنية، غير أن ما يضع علامات استفهام حول كثير منها، يرجع إلى أمرين اثنين، من المفروض أن تباشر جميع الجهات المسؤولة خلال السنة الجديدة النظر الحاسم فيهما بما يدرأ عن المشاريع والمبادرات ما يعتريها من تعثرات وتخبطات في مسارات تنزيلها وتنفيذها: الأمر الأول: غياب التعبئة سواء للموارد البشرية الكفأة لتدبير زمن الإصلاح، أو للموارد المالية الكافية والمحددة التي تغطي احتياجات البرامج والمشاريع في كل مراحل إنجازها، وغياب هذه التعبئة القبْلِية جعل عددا من أوراش البرامج والمشاريع رهينة بالارتجال والخصاص والتعطيل والتوقف والتأجيل، مثلما جعلها لا تفي بالتزاماتها، وحَوَّل مؤسساتٍ معول عليها في النهوض بصلاحياتها في تنزيل الإصلاحات إلى مجرد “حبر على ورق” كما جاء في ملاحظة الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى الملتقى البرلماني الثالث للجهات، على عمل الجماعات والمؤسسات الترابية الجهوية. ولا يعني غياب تعبئة هذه الموارد البشرية والمادية والمالية، في كثير من الأحيان عدم توفر هذه الموارد، بل توفرها مع ضعف في تدبيرها، وعدم تنويع مصادرها، وعدم حفز الاستثمارات فيها. إذ الأمر يتعلق بإهدار للمتوفر وإحجام عن تجديد الرصيد بإبداع وابتكار طرائق متجددة في استدامة أمداد المشاريع بالتمويلات الضرورية، ومنها تلك التي أشارت إليها الرسالة الملكية المذكورة آنفا، حينما حث الجماعات والجهات الترابية على تنويع مصادر وقنوات تمويلها للمشاريع التنموية، بما في ذلك استقطاب شراكات مع القطاع الخاص والانفتاح على المجتمع المدني وفعالياته وكفاءاته، وعدم الاكتفاء بانتظار الحصول على الموارد المالية المحدودة للدولة. ومثلما تنطبق هذه الدعوة على الجماعات الترابية لابتكار حلول من أجل تعبئة الموارد المالية لمشاريعها التنموية المحلية والجهوية، فإنها تنطبق أيضا على جميع المؤسسات الحكومية والعمومية التي تضطلع بمسؤوليات تنزيل مشاريع الإصلاح وترجمتها إلى أوراش ملموسة في ميدان البناء والتشييد والإنتاج، فبدون ابتكار للحلول الإبداعية في تعبئة الموارد البشرية والمادية والمالية المتوفرة، والمبادرة إلى خلق قنوات جديدة لاستقطاب تمويلات مستدامة للمشاريع، واستقطاب كفاءات المجتمع وتعبئتها لزمن الإصلاح، لا يمكن لهذه المشاريع أن تفي بالتزاماتها وأن تحقق رهاناتها المحددة الأهداف والآجال والنتائج. ولعل هذه السنة الميلادية الجديدة أن تكون فرصة لاستدراك هذا الخصاص وسداد هذه الثغرة التي تتكرر ملاحظتها في برامجنا ومشاريعنا ومخططاتنا التنموية في كل المجالات، ولسنا في حاجة للتذكير إلى أن سوء تعبئة الموارد البشرية وتأهيلها، وسوء تدبير التمويلات، حتى المتوفر منها وبوفرة، لبرامج حيوية، كالبرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين، كانا سببين مباشرين في ضعف تحقيق النتائج والتطلعات المرجوة. الأمر الثاني: عدم تهيئة الأرضية المجتمعية لتكريس زمن الإصلاح، وذلك أن النسيج المجتمعي الذي يعرف احتقانات وتوترات متناسلة على المستويين السياسي والاقتصادي، لم يستطع الفاعل الحكومي التفاعل معها إيجابيا، بالاستجابة قدر الإمكان لمقتضيات الحوار بشأن إزالتها والتخفيف من حدتها، من شأنه أن يُعَرِّض البرامج والمشاريع التنموية للتعطيل والتراجع. إذ لا يمكن لعجلة الإصلاح أن تتحرك في طريق غير معبدة ولا تكفل لها الحركة اللازمة لتقدمها. إنه لا يمكن في ظل الانحباس المستمر للحوار الاجتماعي، وضعف المبادرة بين أطراف هذا الحوار، من حكومة ونقابات عمالية ومقاولات، لوضع ميثاق لتدبير المطالب والإكراهات، والتداول بشأن التخفيف من حدة المواجهات، إلا أن يزيد من مفاقمة أزمة تنزيل المشاريع الاستراتيجية الكبرى، وأن يحول التباري على تنفيذها إلى تراشق مستمر بالاتهامات، مع ما ينتج عن سوء تقدير لزمن الإصلاح وللمسؤوليات المشتركة على الانخراط التام فيه، مِن تيئيس وتشكيك، ينعكسان سلبيا على مسارات البرامج والمشاريع. وفي هذا الإطار لا بد من التذكير أن التعنت والجمود والإحجام عن مأسسة الحوار الاجتماعي والدفع به في اتجاه دعم السلم الاجتماعي، وإيجاد الحلول الواقعية والناجعة للمشاكل المطروحة، والاستجابة لانتظارات المواطنات والمواطنين خصوصا فئات الشباب والنساء، يشي بانعدام الحكامة السياسية والاجتماعية، وهو الذي مهد الطريق أمام الفوضى والاضطرابات والاحتجاجات التي عرفها المشهد الاجتماعي خلال السنة المنتهية، ويمهد الطريق أمام نزعات العدمية والتيئيس والتطرف التي يتم تأطيرها وتوجيهها لضرب استقرار البلاد وأمنها والتشكيك في مؤسساتها. لا يمكن تفسير تنامي مظاهر الاحتجاج والاحتقان وارتفاع حدتها ونبرتها بكثرة المطالب الاجتماعية والفئوية خلال السنة المنصرمة، وظهور جيل جديد منها، بل بتجدد المطالب المعلقة نفسها من عام إلى آخر، ومراكمة العجز عن معالجتها والاستجابة لها، إذ أن عددا منها يعود إلى تركة سنوات من التدبير التأجيلي لها، وعدد منها لا يتطلب غلافا ماليا تعجيزيا، وبعضها يستدعي فتح الآذان فحسب لسماعها وبرمجتها في تركيبة التدخلات العلاجية والتصحيحية للمدبر السياسي والحكومي، وبعضها الآخر يتطلب قوة تفاوضية إيجابية من الأطراف المعنية بالحوار الاجتماعي، وفن إدارة الأزمات والمخاطر وفن تدبير الممكن. وعلى هذه الأطراف المعول عليها في دعم الاستقرار الاجتماعي بمزيد من التفاوض والحوار حول كل الملفات العالقة، أن تدرك أن الحوار الاجتماعي المستديم والمؤسستي، ليس نزهة وفضلة وتفضلا، بل ضرورة حيوية لتأمين الشغل والعمل والإنتاج والاستثمار، ولتمنيع تنزيل المشاريع التنموية وضمان التعبئة والانخراط في عملياتها، وهو قبل كل ذلك اختبار للمدبر ولكفاءته ومسؤوليته في تدبير الشأن العام، وأي فشل للحوار الاجتماعي لا يمكن اعتباره إلا فشلا في التدبير وفي تقدير المسؤولية. فلنجعل السنة الميلادية الجديدة فاتحة خير وأمل على هذا الاستحقاق الجماعي الذي بات تعطيله يهدد مشروع وطن بأكمله، وبات عدم التحكم في تداعيات تفاقم مشاكله منذرا بمخاطر كبرى، أقلها إضعاف الثقة في ثقافة المواطنة والحقوق والحريات. إن حجم الانتظارات بشأن التعبئة البشرية والمالية والمادية لإنجاح أوراش الإصلاح، وبشأن التهيئة الجماعية لأرضية حوارية وتفاوضية وتوافقية لحل المشاكل وتذليل الصعوبات ورفع العراقيل، والاستجابة للمطالب المشروعة والمستعجلة للفئات والجهات التي تشكو تهميشا أو إقصاء، هو أكبر من المبادرات والعروض الضعيفة المقدمة خلال السنة الفارطة، ويتعين في السنة الجديدة تعزيز آليات التدخل بما في ذلك آليات الحوار والتفاوض المستمرين، من أجل رفع معنويات الفاعلين والشركاء والمستثمرين وكافة المواطنين للتنزيل للنموذج التنموي المندمج المنشود.