على الجرف المطل على مضيق جبل طارق، حيث يلتقي البحران وتضيق المسافات بين القارتين، يقف مقهى الحافة كأنه جزء من تضاريس طنجة نفسها. عند مدخله الصغير، لافتة قديمة وبسيطة كتب عليها "مقهى الحافة – Café Hafa" مع تاريخ التأسيس 1921، لوحة باهتة لكنها ثقيلة بالذاكرة، تذكر الزائر بأن هذا المكان شاهد على أكثر من قرن من الحكايات. - إعلان - الريح نفسها التي كانت ترافق زوار المكان منذ أكثر من قرن لم تعد قادرة على إخفاء علامات الإرهاق. هنا، على المدرجات الحجرية المتدرجة نحو الأفق، يجلس الزوار أمام منظر ساحر، لكن شيئا ما في التجربة لم يعد كما كان. الصور المثالية التي تزين حملات الترويج تصطدم بواقع يزداد تعقيدا كل يوم. المقهى الذي أسسه با محمد سنة 1921 لم يكن مشروعا تجاريا في بدايته، بل حكاية شخصية عن مدينة أحبها الرجل بكل تفاصيلها. اختار الهضبة المطلة على البحر ليصنع فضاء مفتوحا، بسيطا، بلا صخب ولا استعراض. كان يعرف زواره بالاسم، يحرس نكهة الشاي كما لو كانت سرا مقدسا، ويرتب الطاولات كما لو كان يكتب سطرا جديدا في ذاكرة المكان. وصية المؤسس لم تكتب يوما، لكنها كانت واضحة: أن يبقى المقهى وفيا لروحه الأولى. أن يبقى مكانا يشبه طنجة نفسها، حيث تختلط الثقافات بلا قيود، وحيث البحر لا يفصل بقدر ما يوصل. لكن بعد رحيل الرجل، بدأ الخيط الذي يربط الحافة بروحها يتآكل بصمت. وفي مطلع التسعينيات، انتقلت إدارة المقهى إلى أبي عبد الرحمن، الشاب الذي التحق بالمكان منذ مراهقته في بداية السبعينيات. حاول الرجل أن يحافظ على توازن صعب بين إرث المؤسس وضغوط واقع جديد. لكن مع مرور السنوات، أخذت التحولات السياحية في طنجة منحى سريعا ومتقلبا، وأصبح المقهى محاصرا بين زخم الذاكرة واندفاع الحاضر. ومن بين العلامات الأكثر وضوحا على هذا التحول فقدان هوية المقهى الأصلية في تفاصيله اليومية؛ فالمكان الذي اشتهر لعقود طويلة بتقديم كؤوس الشاي الشمالي بطقوسه الدقيقة ونكهته الخاصة، بدأ منذ سنوات بإضافة أطباق لم تكن يوما جزءا من ذاكرته. انتقل المقهى تدريجيا إلى تقديم "البيصارة"، ثم أدرج "الشندويتش" في القائمة، واليوم صارت الطاولات تحمل "الطاكوص" ووجبات الفاست فود، في انتقال صامت من روح الحافة إلى منطق استهلاكي جديد، لا يشبه فلسفة المؤسس ولا تقاليد المكان القديمة. وفي العقد الأخير، تغيرت الصورة جذريا. تحول مقهى الحافة إلى "أيقونة بصرية" في ملصقات السياحة وواجهات الحملات الترويجية. مقاطع الفيديو المصقولة، والبطاقات البريدية، وصور المؤثرين على الشبكات الاجتماعية جعلت منه رمزا عالميا لطنجة. لكن الزوار الذين يصلون حاملين وعود التجربة المثالية يصطدمون بتفاصيل لا تشبه الأسطورة: خدمات متراجعة، فوضى في التنظيم، وانطباع بأن المقهى يعيش على مجده القديم أكثر مما يصنعه اليوم. وقد استعر الجدل الأخير مع زوار قادمين من مدن الداخل. كثيرون منهم حملوا صورا رقمية تبشر بتجربة فريدة، لكن ما وجدوه كان مختلفا تماما. شكاوى عن فقدان الطقوس البسيطة التي صنعت شهرة المكان، انطباعات عن استقبال بارد، وأحاديث عن شعور بالخيبة يرافق المغادرين. لم يتأخر الغضب في التحول إلى محتوى علني. على المنصات الاجتماعية، انتشرت صور ومقاطع فيديو وشهادات غاضبة تكشف الفجوة بين "الصورة" و"الحقيقة". فجأة، أصبح مقهى الحافة عنوانا لنقاش أوسع عن هشاشة النموذج السياحي في طنجة، وعن تدبير المدينة لرأسمالها الرمزي الذي يصعب تعويضه إذا فقد. لكن الحافة لم يكن يوما مجرد مقهى. هو ذاكرة طنجة الحية، وشاهد على لحظة كانت المدينة فيها ملتقى الثقافات واللغات والفنون. جلس فيه كتاب عالميون مثل بول بولز، ومر منه شعراء وموسيقيون تركوا بصماتهم على رائحة الشاي وأصوات الأمواج. كل درجة من مدرجاته تحمل صدى حكايات عابرة للزمن، وكل زاوية فيه تشهد على طبقات معقدة من ذاكرة المدينة. اليوم، يبدو أن هذه الذاكرة تواجه اختبارا قاسيا. طنجة التي تراهن على صورتها العالمية تبدو عاجزة عن حماية رموزها المحلية. الرأسمال المادي يترك حتى التآكل، والرأسمال اللامادي يستهلك حتى الفراغ. حين يتحول المقهى من تجربة أصيلة إلى صورة براقة على بطاقة بريدية، يخسر المكان معناه، وتخسر المدينة جزءا من هويتها. ورغم الجدل، لا يزال المقهى يستقبل زواره كل يوم. الجلوس هناك، على المدرجات المفتوحة على المضيق، يمنح لحظة صمت لا يشبه أي مكان آخر في طنجة. لكن خلف الهدوء، هناك سؤال معلق: كيف يمكن للمكان أن يصمد إذا استمر الاستنزاف بلا حماية؟ وكيف يمكن للمدينة أن تحافظ على ذاكرة تتآكل أمام عيونها؟ ربما لم يكن با محمد يتصور أن وصيته ستختبر بعد أكثر من قرن. حلمه بمقهى بسيط، مفتوح على الأفق، كان أكبر من أي خطط تسويقية أو حسابات اقتصادية. واليوم، على حافة الجرف، يقف المقهى أمام امتحان أخير: إما أن يستعاد المعنى الذي صنع أسطورته، أو يتحول إلى ذكرى باهتة على شاشات مضيئة، بلا حياة ولا روح.