الطالبي العلمي يؤكد على ضرورة تعزيز السيادة الوطنية لتحقيق تنمية مستدامة في إفريقيا    "ماركا": الوداد يقتحم سباق التعاقد مع كريستيانو رونالدو استعدادا للمونديال    الخدمة العسكرية 2025.. تعبئة مجموعة من الوسائل التكنولوجية لمساعدة الأشخاص الذين تعذر عليهم ملء استمارة الإحصاء بوسائلهم الخاصة    بورصة البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    التامني تنتقد "هيمنة أمنية" في مشروع المسطرة الجنائية وتوسيع صلاحيات الضابطة القضائية دون رقابة    طنجة تحتفي بالثقافات في أولى دورات مهرجان الضفاف الثلاث    البرازيل في ورطة صحية تدفع المغرب لتعليق واردات الدجاج    المغرب يمنح أول ترخيص لشركة خاصة بخدمات الطاقة    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تجدد دعوتها لإحياء "سامير" وتحذر من خطر وطني بسبب تعطيل المصفاة    حجيرة: أمريكا الوجهة الأولى لصادرات الصناعة التقليدية المغربية    "سي.إن.إن": معلومات أمريكية تشير إلى أن إسرائيل تجهز لضرب منشآت نووية إيرانية    اجتماع الرباط يعزز الزخم الدولي بشأن حل الدولتين    مجلس المستشارين يعقد الثلاثاء المقبل جلسة مساءلة أخنوش    الوداد ينفصل عن المدرب الجنوب إفريقي موكوينا    طائرة خاصة تقل نهضة بركان إلى تنزانيا لملاقاة سيمبا في النهائي    وزارة التربية تطلق برنامجا لتكوين مدرسي الهيب هوب والبريك دانس بالمؤسسات التعليمية    توقيف ثلاثيني للاشتباه في التغرير بقاصرات ومحاولة الاعتداء الجنسي    نقابة أساتذة ابن زهر: حملة مغرضة تستهدف الجامعة وما حصل من فساد كنا قد حذرنا منه لسنوات    بإذن من أمير المؤمنين.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته الربيعية العادية بالرباط    في مجاز الغيم: رحلة عبر مسجد طارق بن زياد    اعتقال رئيس سابق لجماعة بني ملال ومتهمين آخرين باختلاس أموال عمومية    الدفع بالبطاقات البنكية يتفوق على الدفع النقدي في أوروبا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الأربعاء    لقاء دبلوماسي بطابع ودي جمع ولي العهد المغربي آنذاك وسفير الصين سنة 1992    المغرب يعزز التعاون مع بوركينا فاسو في مجال الأمن العسكري    حكيمي ضمن تشكيلة الموسم في أوروبا    هذه تفاصيل إجتماع المجلس الاستشاري مع المكتب الحالي للرجاء بخصوص إنشاء شركة رياضية للنادي    الإماراتية ترسل مساعدات لقطاع غزة    ألمانيا تفكك خلية إرهابية متطرفة    سطات.. "بزناسة" يطلقون الرصاص على الأمن    العثور على جثة امرأة في ثانوية والتحقيق يقود إلى اعتقال الزوج    إنذار رسمي لأرباب المقاهي بالناظور.. الأرصفة يجب أن تفرغ قبل الخميس    إيداع رئيس جماعة بني ملال السابق سجن "عكاشة" رفقة مقاول ومهندس    إصلاح الجامعة ضرورة ملحة    واشنطن تُعيد رسم سياستها تجاه سوريا: دعم مشروط ولقاءات رفيعة المستوى تمهد لمرحلة جديدة    تعاون مغربي-أمريكي يجسد الجاهزية العسكرية خلال مناورات الأسد الإفريقي 2025    الصين تطالب الولايات المتحدة بوقف الإجراءات التمييزية ضد منتجاتها من الرقائق الإلكترونية    مرصد: النسيج المقاولاتي يستعيد ديناميته بإحداث نحو 24 ألف مقاولة سنويا    ترامب يعلن بناء الولايات المتحدة درعا صاروخية تحت مسمى "القبة الذهبية"    الاتحاد العام لمقاولات المغرب يطلق علامة "المقاولة الصغرى والمتوسطة المسؤولة"    طقس الأربعاء: أجواء حارة نسبيا بعدد من المناطق    لقجع لنجوم منتخب الشباب: الجماهير المغربية كانت تنتظر أداءً أكثر إقناعًا واستقرارًا    المغاربة... أخلاق تُروى وجذور تضرب في عمق التاريخ    وفد من مركز الذاكرة المشتركة يزور الشيخة الشاعرة والمفكرة سعاد الصباح    حديث الصمت    بعد مشاركتها في معرض للصناعة التقليدية بإسبانيا.. مغربية ترفض العودة إلى المغرب    نقل إياب نهائي كأس الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم إلى زنجبار    تلك الرائحة    موريتانيا تقضي نهائيا على مرض الرمد الحبيبي    هذا المساء في برنامج "مدارات" : لمحات عن علماء وأدباء وصلحاء منطقة دكالة    نداء إلى القائمين على الشأن الثقافي: لنخصص يوماً وطنياً للمتاحف في المغرب    مسرح رياض السلطان يواصل مسيرة الامتاع الفني يستضيف عوزري وكسيكس والزيراري وكينطانا والسويسي ورفيدة    مستشفى صيني ينجح في زرع قلب اصطناعي مغناطيسي لطفل في السابعة من عمره    تفشي إنفلونزا الطيور .. اليابان تعلق استيراد الدواجن من البرازيل    مهرجان "ماطا" للفروسية يحتفي بربع قرن من الازدهار في دورة استثنائية تحت الرعاية الملكية    تشخيص إصابة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بنوع "عدواني" من سرطان البروستاتا    من المغرب.. مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة"    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الثورات العربية" تنتقل على متن رحلة قطرية.. وهي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي
نشر في تليكسبريس يوم 25 - 07 - 2012

يلومني الكثيرون على تجاهلي لما يسمونه "ثورة الربيع العربي" وإصراري على إشاحة نظري عنها بازدراء .. ويسوق لي البعض المقالات والمقابلات وصورا من اليوتيوب .. لكنني لم أستطع ابتلاع هذه الثورات ولا هضمها ولا استساغتها.. وموقفي ليس عنادا ولا تشبثا بنظام ولا بعهد بل هو انحياز نحو عقلي وقلبي أولا وانحياز نحو كل ما تعلمته وقرأته.. وأنا قرأت كل ما قرأت في حياتي كي أتمكن من استعمال عقلي في حدث مفصلي كهذا .. وكي لا أسلّم بالأشياء فقط لأن الجمهور يريد ذلك ولأن بوصلة الشارع لا تخطئ حسب ما يزعمون .. إنني لا أحب السير مع القطيع الذي تقوده الذئاب.. بل وتسير بينه الذئاب.. ولا أحب الثورات التي لا تعرف نكهة الفلسفة ولا نعمة الفكر.. فهذا برأيي ذروة الكفر..

لا تلام الديكتاتوريات إذا لم تكن لها فلسفة ولا فلاسفة يعتد بهم وبفكرهم.. فالثيران لا ضروع لها لتنتج الحليب.. ولا أتوقع أن تنتج الديكتاتوريات فلسفة ذات أثر.. لكن لا يغفر للثورات فقرها بالفلسفة وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها وهم الذين يضيئون ويتوهجون بالأفكار.. والثورات العظيمة يوقدها عظماء وتضيئها عقول كالشهب وتتكئ على قامات كبيرة ترسم بالنور زمنا قادما بالقرون.. وغياب هؤلاء يسبب تحول أي ثورة إلى مجرد تمرد أهوج وانفعال بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي..

الثورات الشعبية عادة هي انعكاسات لصراعات اجتماعية عميقة.. وسلوك الثورات انعكاس لفلسفة بعينها تغذيها.. فلكل ثورة صراعها وفلسفتها وقاماتها.. وبالتالي لها أبطالها على الأرض وفلاسفتها.. وغياب الفكر والفلسفة يجعل الثورة تمردا ليس إلا ولا تحمل إلا صفات الانفعال الشعبي والغوغائي.. فالثورة الفرنسية كانت رغم عنفها وجنونها ثرية بالفلاسفة والمفكرين الذين صنعوا من فعل الثورة حدثا مفصليا في التاريخ عندما تحولت هذه الثورة إلى وسيلة صراع اجتماعي مسلحة بالفكر الثرّ وبالمنطق الذي لايزال يجري في عروق قيم الحضارة الإنسانية.. كان الدم يسيل في طرقات باريس ومن مقاصلها ومن جدران الباستيل لكن كذلك كانت المصطلحات الثورية والمفاهيم الكبرى الفرنسية الصنع والصياغة عن المساواة والحرية تطل من الشرفات وتضيء مع شموع المقاهي.. وتفوح كالعطر من مكتبات الثورة ومؤلفاتها.. فكدنا نرى مفكرين وفلاسفة وكتبا أكثر من أعداد الغوغاء التي اجتاحت باريس.. فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكروها كانوا أكثر عددا من الثوار الذين زحموا الطرقات ..

وكذلك كانت ثورة البلاشفة في روسيا فبرغم أن من قام بها كانوا على درجة كبيرة من الأمّية (الذين أطلق عليهم البروليتاريا) فإنها اعتمدت على فلسفة عملاقة هي الماركسية والماركسية اللينينية وكل متخماتها من جدلية هيغل ومادية فيورباخ.. ويروي المؤرخون حادثة تدل على أن من قام بالثورة البلشفية لم يكن يعرف ما تقول فلسفة الثورة لكنه كان منجذبا إلى حد الانبهار بفلاسفتها وفلسفتهم دون أن يفقه منها شيئا لكن مفكري الثورة كانوا يعرفون عن البروليتاريا كل شيء.. فقد كان لينين الساحر المفوّه يخطب في حشد من الناس ويبشرهم بأن البروليتارية ستقوم ببناء القاعدة المادية الفولاذية للثورة.. وهنا اندفع احد المتحمسين من المحتشدين وصاح بتأثر وحماس: أيها الرفيق لينين.. إنني حدّاد وأنا سأضع كل إمكانياتي وخبرتي في صناعة الحديد في بناء هذه القاعدة الفولاذية.. بالطبع ما قصده لينين كان غير "المصطبة الحديدية" التي قصدها الحداد ..

واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف أن يكون تمردا اجتماعيا متشظّيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه لا يختلف عن الحدّاد الذي أراد أن يبني "مصطبة" القاعدة المادية الفولاذية للينين.. فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية "المترامية الأطراف" من شمال أفريقيا إلى اليمن السعيد والى سوريا شيئان مهمان هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها.. وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة.. واللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات ولا فكر.. هذه ثورات أوقدها النفط والجهل وحديث التعصب والتدين السياسي.. وليس القهر والحرمان والديكتاتوريات.. أما فلاسفتها الحقيقيون فلا يتكلمون العربية !!..

البحث عن ماهية فلسفة ثورة الربيع العربي عمل شاق للغاية.. والأكثر شقاء هو البحث عن فلاسفة الثورة والخزانات الفكرية الضخمة التي تستمد منها الثورات الكبرى طاقتها الخلاقة.. وقد حاولت ولشهور طويلة متابعة شخصيات هذه الثورة وكتاباتها وكتابها ولاحقت عيناي كل المقابلات الصحفية والبرامج التحليلية لكنني ما التقيت سوى الخواء وما وجدت نفسي إلا في صحراء قاحلة بلا واحات وبلا نخيل عالي القامات.. وبلا قوافل المؤلفات الكبيرة.. ولم أجد قامات مفكرين ناهضين في الثورة كأنصال السيوف.. عجبا هل أقفرت الثورات العربية العابرة للقارات من تونس إلى سوريا مرورا بمصر واليمن من أية مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير.. وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها..؟؟

من جديد يعاتبني الكثيرون على إنكاري لوجود ثورة ويبعثون إلي بالمناشير ومشاهد اليوتيوب والمقالات ومقاطع المقابلات.. ولكن عذرا أيها السادة فلا أزال مصرا على انه لا توجد ثورة عربية ولا ربيع عربي بل انفعال اجتماعي وقوده مال ونفط وفلاسفته أوروبيون.. هذه حقيقة مؤلمة ..

إن كل ما رأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر.
. وهنا كمنت الكارثة الوطنية.. فالربيع العربي "العظيم" لم ينتج أكثر من منصف المرزوقي في تونس التي ذهب فيلسوفها الصغير الغنوشي سباحة إلى نيويورك ليقايض كتبه في "ايباك" بثمن بخس هو "السلطة".. وهذه ليست من صفات فلاسفة الثورات الذين تأتي إليهم الدنيا لتسألهم عن فعل الثورة ولا يذهبون إلى تسول الاعتراف بثوراتهم ..

ولم ينتج الربيع العربي في ليبيا سوى "مصطفى العبد الذليل" الليبي فيما لم يكن هناك مفكرون إسلاميون من وزن المفكر الصادق النيهوم الذي كان قادرا على قيادة ثورة فكرية تقود الجمهور الغاضب.. وفي كل ثورة مصر لم نسمع بمرجعية ثورية واحدة.. سوى شاب عشريني يسمى وائل غنيم !! .. والفجيعة كانت أن كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا أكثر أمية من الدهماء في شوارع الثورات وأكثر عددا من المتظاهرين في أحياء الثورة السورية.. وكانت هذه الثورات مجهزة بقاذفات الفتاوى الدموية الرديئة المخجلة والخالية من الإنسانية والمليئة ب "الإسرائيليات" والأساطير..

في كل يوم يحاول "فقهاء" الثورة العربية حل هذه المعضلة والإشكال عبر ضخ أسماء عديدة ومنحها ألقابا مفخمة من باحث إلى أستاذ العلاقات إلى بروفيسور إلى رئيس مركز إلى ..إلى ....والحقيقة هي أن صنّاع الثورة والمدافعين عنها يحاولون تجاوز هذه المعضلة الحقيقية خاصة بعد انهيار أسطورة المفكر العربي عزمي بشارة واحتراقه حتى التفحّم ..

عزمي هو الوحيد الذي لعب دور فيلسوف الثورة والربيع العربي بإتقان .. كان مفوها وكان في منتهى الدهاء فهو يوصّف الثورات وأمراضها بمكر وكان من الخبث لدرجة انه لامس الوجع الاجتماعي العربي وجعل الناس تنسى أنه كان عضو كنيست إسرائيلي و مدير الأبحاث في معهد فان لير الإسرائيلي في القدس.... والأكثر من ذلك أنه أنسى الناس أنه المفكر الذي يعيش في كنف اللافكر وتحت إبط الانحطاط الأخلاقي والثقافي وتحت رعاية أكثر الأنظمة جهلا وقمعا.. وبعد تلك المقابلة المهينة مع أخيه علي الظفيري وتوسلاته بتجنب الأردن في منظر صدم كل من شاهده رأى الناس احتراق الفيلسوف الوحيد للثورات العربية كبئر نفط وقعت عليه كتلة من اللهب.. ولم تتمكن الجزيرة وكل المعارضات العربية من إنقاذ حريق الفيلسوف رغم كل سيارات الإطفاء.. الفلسفة قد تسقط لكن لا تحترق.. والفلاسفة قد تحترق أجسادهم لكن لا تحترق أقوالهم وقاماتهم.. واحتراق الفيلسوف يدل على تفاهة قيمه وأنه مجرد ثرثار يردد مقولات الفلاسفة.. وعزمي كان يحترق بشدة وتنطلق منه غمامة كثيفة سوداء كاحتراق الفوسفور المتوهج على أجساد أطفال غزة.. وسط دهشة الجميع وانفغار الأفواه المذهولة ..

قللت الجزيرة من حضور الفيلسوف المحترق لكنها عجزت منذ تلك الحادثة عن تصنيع فيلسوف آخر وكانت كل محاولاتها لنفخ الأبطال والمفكرين تصطدم بعقبة غريبة.. وهي.. أنه يمكن لهذه الثورات والربيع العربي أن ينتجا مقاتلين ومتظاهرين وراقصين في الطرقات ومصورين وممثلين على اليوتيوب لكن يستحيل إنتاج فلسفة أو خلق فيلسوف.. لسبب بسيط أنها ليست ثورات طبيعية وليست ثورات قائمة على تطور منطقي يصنعه جهابذة فكر وعصارات عقول المجتمعات.. فالثورة عادة تأتي بعد نهوض الفلاسفة و اضاءاتهم وزرعهم البذور واختمار أعنابهم.. أما أن ينهض الفلاسفة بعد الثورات فمحال.. ومستحيل.. والأكثر استحالة أن تنتج ثورة فلسفة.. لأن الفلسفة هي التي تنتج ثورة.. ولذلك انتبه الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل إلى هذه الحقيقة وحاول إنقاذ ثورة عبد الناصر بحقنها بالفلسفة.. فكانت محاولات إطلاق فلسفة الثورة التي نجحت نسبيا لسبب واضح وهو أن ثورة عبد الناصر تميزت أنها لم تكن دموية ولم تكن ثأرية.. لكنها كانت تعكس إضاءات فلسفات أخرى مجاورة في الهند (غاندي) وفي روسيا (الاشتراكية).. وكانت تالية لانكسارات وحطام الإمبراطوريات الكبرى بعد الحرب العالمية ..

المعارضة السورية حاولت نحت شخصيات رمزية وقدمت برهان غليون بطريقة دعائية صارت عبئا عليه وعبئا علينا فهو رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر وهو مؤلف وهو بروفيسور سوربوني وهو كل شيء.. لكن أداءه الرديء وتناقضاته الفجة مع ما كتب في السابق طوال عقود ضد الإسلاميين لم يجعله مفكر الثورة ولا فيلسوفها.. فمن غير الممكن أن يكون غليون فيلسوف الثورات الدينية وهو من خرّق المفاهيم الإسلامية وسفّه تياراتها عملا وقولا وكتابة.. علاوة على ذلك فان الفيلسوف هو من يرفض الانضواء في قيادة الثورة بل يغذيها ويضيئها .. لكن غليون بدا صغيرا وضئيلا وهو يستمتع بلقب الرئاسة لمجلس لا قيمة له.. وبدا أن أقصى طموحات الفيلسوف هو السير على سجاد أحمر وإمضاء الأيام في الفنادق الفخمة والحديث إلى كل الفضائيات وقطف النجومية الإعلامية ولقاء مذيعات العرب وليلى وخديجة وبسمة و و.. ولذلك لوحظ أنه بعد توليه رئاسة المجلس الوطني السوري طارت عنه صفاته العلمية الخارقة فجأة وذابت توصيفات عبقرياته وانجازاته الفكرية وتحول من مفكر وفيلسوف للشعب السوري وثورته إلى رئيس مجلس معارض ينتظر راتبه وتجديد عقد عمله شهرا بشهر.. وكان سقوط كل صفاته العملاقة التي أسبغت عليه هو نتيجة منطقية لأن كل ما منح له من صفات كان مثل باروكة وألبسة وأقنعة مسرحية طارت مع عاصفة مواجهة الميدان الفكري للفلسفة الثورية.. فانكشفت صلعته بعد أن اقتلعت الريح الباروكة التي وضعتها له الجزيرة.. ولن يجديه بعد اليوم الهرولة خلفها ..فلن يظفر بها .. في هذه الرياح العاتية التي لا ترحم.. وربما كانت غلطة عمره لأنه انخرط شخصيا في العمل السياسي بدل بقائه بعيدا كرمز فكري وملهم للثورة.. وكان من الممكن أن يكون في مرحلة ما ضمير الثورة وأن يوصل الجميع إليه كأب فكري للثورة.. لكنه ولغياب عبقرية الفيلسوف وسطحيته الفكرية قبل أن يستعمل كالغطاء لوجه الثورة الديني.. وقبل بالعمل لدى أعرابي جاهل مثل حمد.. وبالعمل لدى هيلاري كلينتون بوظيفة مصطفى العبد الذليل.. باسم برهان الفيلسوف الذليل..

ومن سوء طالع الثورة السورية انه لا توجد أسماء أخرى يمكن تصنيعها لملء الفراغ.. والسبب هو غياب أي فكر خلف هذه الثورة.. ولكن السبب الأهم كما أعتقد هو أن الفلسفة الحقيقية للثورة والفلاسفة الحقيقيين للثورة ليسوا في صفوف الثوار بل في أعضاء مجلس الأمن الغربيين.. وبنبش المزيد من الأتربة التي تغطي وجه هذه الثورة سنصل إلى مفكر الثورة وفيلسوفها الرئيسي وهو الفيلسوف برنار هنري ليفي.. وفلسفة ثورته هي في الحقيقة اللجوء إلى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية عن طريق إطلاق التمرد الشعبي وحرمانه من الفكر الذي يوجه سديميته.. فيتحول إلى فوضى يتحكم بها فلاسفة الثورة الحقيقيون في الغرب وعلى رأسهم ليفي نفسه ..

بالطبع ما يثير السخرية الشديدة هي الثورات المدججة بالهزال الفكري والقحط والتي تشبه مواليد المجاعات الإفريقية. .ويكفي الاستماع للفيلسوفة رندة قسيس مثلا وتعذيبها للغة العربية وحروف الجر وإرغام الفعل المضارع على أن يكون مجرورا من رقبته بالكسرة ومضموما إلى فعل أمر !! .. بل إصرارها على إطلاق زخّات العلم والمعرفة بالحرية حتى كدنا نظن أنها ابنة توماس مور.. ويكفي الاستماع للفيلسوفة فرح أتاسي ومرح أتاسي وكل رهط الأتاسي حتى نعرف إلى أين وصلت بنا المآسي عبر فلسفة الأتاسي.. أما الإصغاء أو قراءة فيلسوف الثورة السورية الذي يرتدي قبعة "ايمانويل كانت" أي - محمد عبد الله - فيوحي أن الفلسفة تمر بأزمة نفسية خطيرة خاصة عندما نقرأ تحليله لأسباب الفيتو الروسي الأخير.. فقد كدت أقوم من جلستي لأصفق له لأنه الوحيد الذي هزم دونالد رامسفيلد.. لأنني لم أفهم كلمة واحدة مما قال وذكرني ما قاله هذا الفيلسوف بما قاله دونالد رامسفيلد عن المجهول والمعلوم عندما قال: "هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها" ..

ولا أبالغ إن قلت أن ما قاله رامسفيلد أكثر ثراء من مقالة محمد عبد الله عن الفيتو الروسي.. وأنصحكم بقوة أن تتجنبوا قراءة ما كتبه فيلسوف الثورة السورية (نسخة ايمانويل كانت) محمد العبد الله لأنه مقال شديد الثقوب والعيوب والرتوق والفتوق والرقع الفلسفية كما تعودنا منه.. وقد تنفتقون ضحكا.. ولا رتق لمن ينفتق فتقا فلسفيا.. ثوريا..

في غياب مفكري الثورة الكبار وفلاسفتهم العقلاء وفلسفتهم تجد أن الجماهير العربية تعيش أقصى حالات التعتيم والظلام والتوهان.. لدرجة أن مثقفين كثيرين ومتعلمين وليبراليين ومهاجرين في مؤسسات علمية من أطباء ومهندسين يساندون الثورات دون أن يواجهوا أسئلة فلسفية مخيفة من مثل:

كيف لثورة أن يقودها قطري جاهل وسعودي يؤمن بنقاب المرأة أن يقود تحررا ديمقراطيا؟ وكيف يمكن لمن اقتحم الفلوجة العراقية بالسلاح الكيماوي وارتكب الفظائع وأكل لحوم البشر فيها وروى مياهها الجوفية بالمواد المسرطنة.. كيف له أن يبكي على مدينة حمص السورية المحشوة بالمقاتلين المغرر بهم والقتلة وسلاح بلاكووتر الذي أحرق الفلوجة العراقية السنية؟ كيف نصدق الأمريكي الذي يبكي على حمص وهو بالأمس حوّل الفلوجة "السنية" إلى هيروشيما الشرق..؟؟ كيف نصدق هذا الغرب في بكائه على حمص وهو منذ أشهر قليلة أمسك غزة من عنقها لتذبح وثبّت أيدي وأرجل لبنان على الأرض كي يتمكن الإسرائيلي من ذبحه..

في غياب مفكري الثورة تجد أن لبيراليين عربا وسوريين ملئوا صفحات الانترنت بالشعارات الثورية وأعلام الثورات وصور اليوتيوب دون تبين.. اليوتيوب الآن بكل ما فيه من فقر توثيقي وفبركات - هو من يقود النخب المثقفة لأن الصورة لا الفكر ولا المفكرين هي من يحرك العقول عندما تغيب الفلسفة والمنطق والمنهج العقلي.. ولم تسأل هذه النخب إن كانت الثورة تضرب المنشآت النفطية للبلاد وتحرق المعامل وتنتقم من النظام بقتل عماله وإفقار شعب الثورة؟ وفي غياب الغطاء المنطقي الفكري للثورة لا يسأل هؤلاء أسئلة سهلة من مثل:

إذا لم تؤيد منطق العرعور فلماذا لا تدينه علنا وتطلب لفظه من المجلس الوطني؟ وكيف لرجل مزواج مطلاق كل صوره السعيدة مع الزعماء العرب وهم يستقبلونه بحفاوة ويبارك حكمهم (وهو القرضاوي) أن يكون ملهم الثوار ولينينهم؟

بل وفي غياب العامل المنطقي لا نستغرب إن وصل الأمر ببعض المهرجين الناطقين باسم الثورة أن يستبدلوا السيد حسن نصر الله بإسرائيل.. ويصل الأمر أن علم إسرائيل يرفع في حمص ويتسلل متحدث ثورجي لجعل تدخّل إسرائيل لحماية الشعب السوري في حمص مقبولا.. فقر المنطق هنا أبقاه جلدا على عظم.. فالتخلص من نظام يبرر بيع وطن.. وفق فلاسفة الثورة ..

الديكتاتوريات التي ترحل لا يؤسف عليها لكن ما يؤسف عليه هو أن هذه الثورات تشبه فارسا مقطوع الرأس.. انه فارس مخيف بلا ملامح.. وبلا حياة.. جثة تتنقل من بلد إلى بلد على متن راحلة قطرية فيما هي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي.. والذباب والدود والموت والاستعمار الجديد.. ولذلك لن نقول "فهاتوا برهانكم أن كنتم صادقين".. بل خذوا "برهانكم" وثورتكم إن كنتم صادقين مع أنفسكم.. وارحلوا ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.