بقلم :المهدي محمد- تاوريرت- المغرب إن أقل ما يمكن أم يوصف به حال إعلامنا المرئي هو اللامبالاة والاستهتار والاستخفاف بذكاء وفطنة المواطن ،فإعلامنا المنظور والمتمثل في قنواتنا الفضائية والأرضية معا ، يشتغل خارج السياق، و كأنه يخاطب أناسا من غير بلادنا ، أو كوكب غير كوكبنا .. ففي الوقت الذي تحترق فيه الأرض تحت أقدام أنظمة القمع و التسلط ، وما أفضى به ذلك من حراك و تدافع وتجاذب اجتماعي وسياسي، وأحيانا تطاحن مسلح بشكل دراماتيكي.. وفي الوقت الذي تقوم قائمة الفضائيات وكل وسائل الإعِلام ولم تقعد لتكون في مستوى الحدث ، نجد " قنواتنا السعيدة" منغمسة في جو من الرومانسية الطّاعنة في الخيال السمج ،عبر تمرير أفلام "خُرْدة" السينما التركية والهندية و المكسيكية المدبلجة بالعامية المغربية واللبنانية، غير مبالية بما تشهده ساحات التحرير العربية، وما تجود به من أرواح زكية بشكل يومي ،بل وحتى بما يمور به الشارع المغربي نفسه ، من تنازعات وتدافع اجتماعي وسياسي وفكري، و في أحسن الأحوال تمرُّ نشراتنا المسماة "إخبارية" مُرور "الكريم المُتعجل" على نتف من أحداث العالم من هنا وهناك ، على شكل مختصرات جد مقتضبة، بينما تُفيضُ وتسهب في بسط أخبار تسمى "وطنية" لا ترقى إلى اهتمام أو انتباه المواطن المغربي البسيط من قبيل "أسبوع الفرس" و مهرجانات الأولياء وما يواكبها من فلكلور وفانتازيا وطقوس عفّ عنها الدهر، واحيانا تتصيّد عن قصد و عمد، لبعض الأحداث النّشاز هنا وهناك من قبيل جرائم القتل أو حالات التحرش أو ..و غيرها من أخبار ثانوية تافهة لا صلة لها بما يمت للمواطن البسيط بحياته وبصراعه الأبدي مع لقمة العيش أو معاناته مع التطبيب و التعليم و البيروقراطية و التهميش. أما فيما يرتبط بالجانب التثقيفي و التأطيري، فحدث ولا حرج .. فلك أن تختار ما تشتهي من برامج الطبخ التي أَتْخَمَت وافسدتْ أذواق الناس ، ومن برامج المسابقات الغنائية و الكوميدية والتنشيطية التي تستفز ذكاء وإحساس المواطنين، هذه البرامج التي في مجملها ،ماهي إلا نسخ مدبلجة و مشوهة لبرامج غربية مستوردة، بعضها نجح في بلاده وغيرها كان مصيره الفشل الذريع.. يجري كل هذا على عكس الوعود والادعاءات الحالمة التي شنفت بها الحكومة أسماعنا، بخصوص إصلاح المشهد الإعلامي وتخليقه، وإرجاعه إلى الشعب الذي يؤدي ضريبة السمعي البصري، بعد أن تمت قرصنته لعقود من طرف ذوي النفوذ في المغرب من ساسة وأصحاب المال ، وبعدما كثر اللغط عما سمي "بدفاتر التحملات" التي اخذت من الدعاية الفارغة ما اخذت، إلا أن الكلام عنها توقف تماما وبقدرة قادر، دون تقديم أي تبرير مقبول من طرف أصحاب الشأن . وبينما تخصص مساحات واسعة للسهرات الغنائية الرّديئة، وبرامج وصفات المطبخ والتجميل والديكور،يتم التقليص المقصود في الحصص الزمنية الممنوحة للبرامج الثقافية والحوارية والوثائقية الهادفة. وهذا توجه كان سائدا إبان عهد وصاية الداخلية على الإعلام، ونعتقد أنه لا يزال معمولا به إلى اليوم. فالمواطن المغربي لم يعد يهتم بما يقدم على قنواته التلفزية لإيمانه المتزايد ، بعدم جديتها و مصداقيتها، فلا الخبر يقدم له في حينه ، ولا رأيه يُستمع له أو يأخذ به كما هو الشأن في فضائيات أخرى خارج الوطن ،تمنح مشاهديها فسحة يعبر فيها عن رأيه في ما يُقدم له وفي ما يرغب فيه، عبر استطلاعات شعبية وحوارات مباشرة مع المواطنين في الشارع، وهذا ما يبرر عزوف نسبة كبيرة من المواطنين عن مشاهدة قنواتنا الوطنية والتوجه بدل ذلك صوب القنوات الخارجية بحثا عن الخبر الطري والتحليل المستفيض و المفيد، وعن الرأي و الرأي الآخر.. وقد سبق أن عرت رياح "الربيع العربي" عورة إعلامنا الرسمي ، ففي الوقت الذي تشتعل فيه الساحات العربية بكل مظاهر الاحتجاج والرفض، بل و القتل والدمار والخراب ، و في الوقت الذي نمور فيه الساحة الوطنية بحراك سياسي واجتماعي غير مسبوق ، تمعن قنواتنا البئيسة في إدارة ظهرها لكل ذلك، وكأن الأمر لا يعني المغاربة ،في اصرار مقصود على عزل المغاربة عن محيطهم المعيش ، و عن امتدادهم العربي و الإقليمي. وفي الوقت الذي يتساقط الضحايا بالآلاف باليمن والعراق وسوربا وليبيا، نتيجة الاقتتال الداخلي او عبر التطهير العرقي والطائفي ، تمتلئ برامجنا التلفزيونية بسهرات الغناء الهجين وهز البوط، غير مبالية بما يحدث حولها أو في العالم، و غير آبهة بمشاعر المغاربة الذين يتابعون معاناة أشقائهم في سوريا والعراق واليمن بكل ألم وحسرة . "إن الأمر قد استفحل ، و صناعة الهوية يعتبر مشروع أمة ، بينما نحن قد غيبناه و تركنا المواطن ينشا انطلاقا من الصدفة ؛ خاصة أن التلفزة لا تجد مقاومة و ممانعة ايجابية من المدرسة المنهكة ، و لا من الجمعيات و النوادي المبلقنة" * إن الإعلام العمومي هو الواجهة الحضارية لكل أمة، وهو صلة وصل بينها وبين الأمم الأخرى، يعكس عمقها التاريخي والحضاري ، ويسوق مرتكزاتها العقدية والفكرية ، ويلبي في نفس الوقت رغبات أفرادها ويشبع نَهَمَهُم للمعرفة والتجديد والمواكبة الواعية ، وما لم يكن في مستوى التحدي و المسؤولية، فلن يسوق إلا الرّداءة و الإسفاف داخليا وخارجيا. -------------------------- * ياسين كني – أكابريس (التلفزة المغربية بين مجون الدبلجة و تشجيع الشواذ)