رئيس مجلس النواب في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    ثمان نقابات بقطاع الصحة تعلن عن إضراب جديد وتحشد لإنزال بالرباط    تحليل آليات التأثير الثقافي في عصر الرقمنة    نظرة فلسفية حول مشكلة الدولة    تحقيق السيادة في مجال الذكاء الاصطناعي    من يجبر بخاطر المتقاعدين المغاربة؟!    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الإثنين    مصر تُهدد بإنهاء "كامب ديفيد" إذا لم تنسحب إسرائيل من رفح    تليسكوب "ليزا"...    كأس الكونفدرالية الإفريقية: نهضة بركان يفوز على الزمالك المصري في ذهاب النهائي (2-1)    أحوال طقس اليوم الاثنين في المغرب    قنصلية متنقلة لفائدة مغاربة إسبانيا    من البحر إلى المحيط.. لماذا يتحول مسار الهجرة من المغرب إلى أوروبا؟    بنموسى يكشف أسباب تسقيف سن ولوج مباريات التعليم    الأساطير التي نحيا بها    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    هل انفصلت فاطمة الزهراء لحرش عن زوجها؟    "المراهنة على فوضى المناخ".. تقرير يفضح تورط المصارف العالمية الكبرى في تمويل شركات الوقود الأحفوري    الاعلان عن اختفاء قاصر من بليونش بعد محاولة هجرة إلى سبتة سباحة    تراجع صرف الدولار واليورو بموسكو    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    لماذا قرر حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم أن لا يخوض الانتخابات في إقليم كشمير؟    ما الذي قاله مدرب نهضة بركان بعد الانتصار على الزمالك المصري؟    "إغلاق المعبر يعني أن أفقد قدمي الثانية" شهادات لبي بي سي من مرضى ومصابين في رفح    كرة اليد.. اتحاد طنجة يتأهل لربع نهائي كأس العرش    إبراهيم صلاح ينقذ "رين" من خسارة    جهاز الإحصاء الفلسطيني: مقتل أكثر من 134 ألف فلسطيني وأكثر من مليون حالة اعتقال منذ نكبة 1948    دفاتر النقيب المحامي محمد الصديقي تكشف خبايا مغربية عقب تحقيق الاستقلال    مدرب بركان يشيد بالفوز على الزمالك    لقاء لشبيبة حزب التجمع الوطني للأحرار بفاس حول الحصيلة المرحلية للعمل الحكومي    الانفصاليون في كاتالونيا يخسرون غالبيتهم أمام الاشتراكيين بقيادة سانشيز    خلاف مروري بساحل أكادير يتحول إلى جريمة دهس مروعة (فيديو)    إقليم العرائش يستعد لاحتضان الدورة الثانية عشرة للمهرجان الدولي ماطا للفروسية    المنتخب المغربي للتنس يتوج بطلا لإفريقيا    مطلب ربط الحسيمة بشبكة السكة الحديدية على طاولة وزير النقل    تفاصيل محاولة فرار "هوليودية" لمغاربة بمطار روما الإيطالي    "إيقاعات تامزغا" يرفع التحدي ويعرض بالقاعات السينمائية الأسبوع المقبل        باريس سان جيرمان يودع مبابي أمام تولوز بالدوري الفرنسي الليلة    عاصفة شمسية قوية تنير السماء بأضواء قطبية في عدة دول    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    معرض الكتاب.. لقاء يحتفي بمسار الأديب أحمد المديني    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    الدرهم يرتفع بنسبة 0,44 في المائة مقابل الأورو    تجرى على مستوى بنجرير وأكادير وطانطان وأقا وتفنيت تنظيم الدورة ال 20 من تمرين «الأسد الإفريقي» ما بين 20 و31 ماي    الصويرة : دورة تكوينية لفائدة أعوان التنمية بمؤسسة إنماء    المغرب الفاسي يبلغ نصف النهائي بفوزه على المغرب التطواني    الصين تطور أول نظام للهيدروجين السائل المركب بالسيارات من فئة 100 كيلوغرام    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    الأمثال العامية بتطوان... (596)    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هشام جعيط المؤرخ المنقّب في الإسلام المبكّر
نشر في الأحداث المغربية يوم 16 - 06 - 2012

المفكر التونسي الذي ارتبط اسمه كمحقق في مرحلة الإسلام المبكر، عالج موضوعات تاريخية لم يتطرق اليها إلّا قلة من المبدعين على ضفتي المشرق والمغرب. بدءاً من أطروحته «الشخصة العربية الإسلامية والمصير العربي» مروراً ب «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر» (دار الطليعة – 1989) وصولاً إلى مؤلَّفه الشهير «تاريخية الدعوة المحمدية في مكة» (دار الطليعة – 2007) خاض جعيط في أخطر المسائل الإسلامية تعقيداً.
منذ منتصف السبعينات انشغل بأسئلة الحداثة والإسلام، وعبر المنهج التفاكري والبحث العلمي الدقيق، عمل على إحلال معادلة الحوار العقلاني مع التاريخ، وبهذا المعنى يمكن وصفه بأنه مجدد في أكثر من ميدان سواء في مقاربته لأزمة المجتمعات العربية/ الإسلامية من الناحية الثقافية أو في معاينته الجديدة والثورية لحقبة الإسلام المبكر. وعلى قاعدة الإحياء العقلاني، الممزوج بالتدقيق والشك وأحياناً القطيعة، طبق جعيط هذه المنهجية، على التاريخ الإسلامي.
أصدر كتابه الأول «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» عام 1974، وعلى رغم أهمية الأفكار التي تطرق إليها، فإن انتشاره كمؤرخ عقلاني/ نقدي أتى مع كتابه «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر»، فقد أعاد كتابة تاريخ الفتنة في الإسلام وتجربة الانشقاق الكبرى التي عرفتها الجماعة الإسلامية الأولى، بعد اغتيال ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان. لم يسلك جعيط طريق التأريخ التوثيقي لهذا الحدث المفصلي الذي ما زالت تداعياته قائمة حتى الآن، لكنه مارس دور المحقق/ المشكك في المصادر، وعلى قدر الأخطار الدرامية لتجربة الانشقاق الأولى سعى إلى المزج بين علوم مختلفة من بينها التأريخ النقدي وعلم اجتماع الأديان.
الجزء الأكبر من مؤلفات جعيط كتبه باللغة الفرنسية، وقد عُرّبت وطبعت مرات عدة، لكن إعادة قراءة السيرة النبوية في ثلاثيته التي صدر منها حتى الآن جزءان هما «في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة» (دار الطليعة – 1999) «وتاريخية الدعوة المحمدية في مكة» (دار الطليعة – 2007)، فضل أن يكتبها بالعربية. ولا شك في أن المتتبع أعماله المعرفية يلحظ هذا التفاوت الزمني بين أطروحة وأخرى، وبهذا المعنى لا يعد جعيط كاتباً غزير الإنتاج، لأنه يحبذ التدقيق الصارم والعمل المنهجي الدقيق في دراسة أي إشكالية يتحرى عنها.
الإصلاح
في كتابه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» ينطلق من مشروع نظري من أجل الإصلاح، قوامه العلمانية كحركة ضرورية في المجتمع والدين والدولة والأخلاق. علمانيته لا تعادي الإسلام، بل تؤمن بالإصلاح على طريقة كانط، وفي هذا السياق يقول: «نقترح العلمانية بصورة من الصور، علمانية غير معادية للإسلام، بحيث لن تستمد دافعها من شعور لاإسلامي (…). نحن ندّعي العلمانية بمعنى أننا نعتقد بضرورة الفصل الجذري بين التشريع الديني والمؤسسات الاجتماعية والقانون والأخلاقية المُمارسة. لكن هذه العلمانية لها حدود، حيث نعترف بالعلاقة الجوهرية بين الدولة وبعض عناصر السلوك الأخلاقي والاجتماعي، وبنية الشخصية الجماعية والعقيدة الإسلامية. ونحن نؤيد بقاء هذه العقيدة ونؤيد إصلاحها. يجب ألا يتم الإصلاح على حساب الدين، بل يتم في الوقت نفسه بواسطة الدين وفي الدين ومستقلاً عنه».
لا يخفي جعيط، المعجب بمؤسس حزب البعث ميشال عفلق (الذي وصفه ب «نبي سياسي»)، تشاؤمه حيال الأزمة التي تمر بها الثقافة الإسلامية، وقد عبّر عن ذلك في كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» (دار الطليعة -2000)، وهو يرى أن من الصعب الحديث عن مشروع حضاري عربي، «نحن لسنا أكثر من عابري سبيل وبلادنا العربية والإسلامية صحراء ثقافية في كل المجالات، في التراث كما في استيعاب الثقافة الغربية، في الكتاب كما في الرسم أو الموسيقى أو المسرح، في المعرفة كما في الأدب. وبما أن جهاز الدولة قتل المجتمع المدني وأن هذا المجتمع أعطى رقبته للذبح والتذّ بموته، فلا أرى الآن خروجاً من المأزق». لكن جعيط المتشائم فقد هنا المقاربة السيوسيولوجية، صحيح أن العالم العربي أصابه التصحر لأسباب متداخلة، إلّا أن الجفاف السياسي والثقافي والديني والمجتمعي جزء أساسي من أزمة بناء الدولة الحديثة، وجزء من سيطرة القبيلة على المجتمع والسلطة، والبداوة هنا تمارس أخطر أنواع التفكيك، وتعيد إنتاج البنى ما قبل الدولتية في الثقافة والدين والسياسة والاقتصاد. هذا التصحر الذي أشار إليه صاحب «الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية» (دار الطليعة – 1986)، دفع الكثير من النقاد إلى اتهامه بالنزعة الاستشراقية وبميله المفرط إلى الثقافة الغربية، وبصرف النظر عن مدى دقة هذا الاتهام، فإن جعيط نفسه آمن بما يسميه «الإسلام الحضاري» وتصدّى في أطروحته «أوروبا والإسلام» للنظريات الاستشراقية قبل أن يضع إدوراد سعيد مؤلّفه الشهير «الاستشراق».
يميز المؤرخ الإشكالي بين «أوروبا التاريخية» و «أوروبا الكونية»، الأولى هي أوروبا الحروب الصليبية، والثانية، هي أوروبا النزعة الإنسانية وحقوق الإنسان، وهذا التمييز يطبقه على الإسلام الذي شارك في التاريخ الحضاري الكوني في العصر الوسيط، فنجده يتحدث عن الإسلام الكوني كفاعل حضاري والإسلام التاريخي. لكن لماذا تراجع الإسلام عن دوره الإبداعي؟ يحاول جعيط الإجابة عن هذا السؤال عبر المنهج النقدي، ويخلص إلى أن انتشار الإسلام السياسي، العنفي والإقصائي في الغالب، هو الذي أدى إلى تراجع الإسلام الذي وُظّف أيديولوجياً من أجل مواجهة أوروبا من جهة والتيارات القومية والتقدمية من جهة أخرى.
قيم الحداثة
يدعو صاحب «تأسيس الغرب الإسلامي، القرن الأول والثاني ه/ السابع والثامن م (دار الطليعة – 2004) إلى الأخذ من قيم الحداثة، من أجل إحداث تحول ثقافي. والحداثة عنده كونية، لا قيمة لأصلها الجغرافي «بل فقط لوجه الخير فيها». يرفض التصنيفات التي تتحدث عن حداثة غربية وأخرى إسلامية أو صينية أو هندية، فهي كلها واحدة في كل أبعادها، والكلام عن خصوصيات الحداثة ومنحها هوية محددة يهدف في رأيه إلى دحض قيمها و «هذا نفاق كبير وتضليل عظيم».
في كتابه «الوحي والقرآن والنبوة» يُعيد جعيط صوغ السيرة النبوية بالاعتماد على القرآن وحده، ويستخدم المنهج العقلاني/ التفهمي على طريقة ماكس فيبر في تفهم «سوسيولوجيا الأديان الكبرى»: الصينية والهندية واليهودية.
وفي الجزء الثاني من «السيرة النبوية/ تاريخية الدعوة المحمدية في مكة» (وإلى أن يستكمل الجزء الثالث المخصص لفترة المدينة) يغلب جعيط الجانب التاريخي، ويعتمد على القرآن كمصدر موثوق في التعامل مع سيرة الرسول في الفترة المكية، ليؤكد أن السور المكية تعكس مسار حياة النبي ودعوته وعلاقته مع محيطه، وهذا ما يسميه «ميتانص» الذي استطاع التعبير عن ذاته، فيقول «قسم كبير من سور الفترة المكية يستعرض فيه الصراع بين مشركي قريش، ويقدم جدالهم ورد القرآن عليهم. وثمة إشارات ثمينة إلى طفولة الرسول (صلى الله عليه وسلّم) ونزول الوحي ورؤى محمد، بل الأهم من ذلك هو تطور محتوى الرسالة والدعوة، وهذا موجود وواضح في النص».
لم يكن جعيط مشغولاً فقط في العمل الأكاديمي والبحثي، بل كانت له مواقفه السياسية، وفي إحدى المقابلات التي أجريت معه، وجّه انتقاداً لاذعاً للزعيم القومي جمال عبدالناصر وللرئيس التونسي بورقيبة. أما على مستوى تقويمه لبعض المثقفين العرب، من أمثال طيب التيزيني ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري وعبدالله العروي فقد رأى «أن التجارب التي تمّ ذكرها ليست أصيلة فهي تأخذ عن الأوروبيين مناهجهم، فواحد ينهل من فوكو والآخر عن دريدا، وبالتالي فهم لا يمتلكون فكراً أصيلاً حقيقياً. وإذا صح أن كثيراً من هؤلاء لهم صدى في العالم العربي، فذلك ليس لأنهم يستحقون هذا الصدى، بل لأن العالم العربي في حال متردّية إلى درجة أن لهؤلاء صدى، طبعاً باستثناء شخص واحد هو عبدالله العروي». وبصرف النظر عن النرجسية المعرفية/ الاحتكارية التي يتمتع بها جعيط حين ينكر التجارب الفكرية التي قدمها كثيرون من المبدعين العرب، لا ريب في أنه قدم الكثير للمكتبة العربية، وقد أثار حوله زوبعة من الردود خصوصاً في كتابيه عن السيرة النبوية.
يبقى أن هشام جعيط شكل علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، وتجربته الأوروبية أفادته كثيراً في دراساته، فهو استخدم مناهج عدة، منها على سبيل المثال التاريخ المقارن للأديان والأنتروبولوجيا والفينومينولوجيا (المقاربة الظواهرية). لقد انطلق جعيط دائماً من المسؤولية الأخلاقية في قراءته التاريخ قبل الهم المعرفي، كما يؤكد، وينطبق عليه لقب «المؤرخ المنقب» في الإسلام المبكر.
[Bookmark and Share]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.