من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحياة الدنيا دار اجتهاد وعمل ، وجعل الآخرة دار حساب وجزاء ، يحاسب فيها الناس، فيجزى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته ، قال تعالى :{ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب} (سورة إبراهيم -51)، ففي ذلك اليوم يقف العباد بين يدي ربهم خاضعين أذلاء ، يكلمهم ربهم شفاها من غير ترجمان ، فيسألهم عن الصغير والكبير ، والنقير والقطمير ، مع ما هم عليه من العنت والمشقة ، ومعاينة أهوال ذلك اليوم العظيم ، فياله من موقف ، وياله من مقام تخشع فيه القلوب ، وتنكس فيه الرؤوس ، نسأل الله الثبات حتى الممات . ويبدأ الحساب بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الخلق يطول بهم المقام في الموقف ، وينالهم منه تعب وشدة ، فيذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليقضي بين العباد ، ويبدأ الحساب ، فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يأبى عليهم ، ويذكر لنفسه ذنباً – إلا عيسى عليه السلام - ويحيل على غيره من الأنبياء ، حتى يحيل عيسى عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وسلم ، فيأتي الناس النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها ، أنا لها ، فيشفع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليبدأ الحساب ، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه .
وتختلف محاسبة الله لعباده تبعاً لأعمالهم في الدنيا ، فقسم لا يحاسبهم الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته وإنما تعد أعمالهم وتحصى عليهم ، ثم يُدْخلون النار، وهؤلاء هم الكفار ، قال تعالى :{ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا }( النساء:168- 169) . وقال أيضا :{ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } (الرحمن:41) .
وقسم يدخلهم الله الجنة بغير حساب ، وهم المؤمنون الموحدون الذين تميزوا عن سائر الأمة بحسن التوكل على الله جل وعلا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب . هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ) متفق عليه . ومعنى لا يسترقون أي : أنه لا يطلبون الرقية من أحد توكلا على الله سبحانه ، وإن كانوا يرقون أنفسهم أو يرقون غيرهم ، ومعنى لا يتطيرون أي : لا يتشاءمون، ومعنى لا يكتوون : لا يتداوون بالكي لتوكلهم على الله.
وقسمٌ يعرض الله عليهم ذنوبهم عرضًا ويقررهم بها ثم يدخلهم الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم: (يدنوا المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه – ستره - فيقرره بذنوبه ، تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، رب أعرف مرتين، فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم ، ثم تطوى صحيفة حسناته) رواه البخاري و مسلم.
وقسم لم يتحدد مصيرهم بعد وهم أصحاب الأعراف ، وهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فهؤلاء يوقفون على مرتفع بين الجنة والنار ، ثم يدخلهم الله الجنة برحمة منه سبحانه ، قال تعالى : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون} (سورة الأعراف - 46).
وقسم غلبت سيئاتهم حسناتهم فاستحقوا العقاب وهم عصاة المؤمنين ، وهؤلاء تحت مشيئة الله سبحانه ، إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم يخرج من عُذِّب منهم بالنار بشفاعة الشافعين أو بكرم أرحم الراحمين جلا وعلا ، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} (سورة النساء - 48).
هذا عن حساب المكلفين من الإنس والجن ، أما البهائم فإنها تحاسب ويقتص لبعضها من بعض كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم . والشاة الجلحاء هي التي لا قرون لها ، والقرناء هي ذات القرون.
وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من حقوق الله الصلاة، وأول ما يحاسب عليه من حقوق العباد الدماء، قال صلى الله عليه وسلم : (أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء) رواه النسائي وصححه الألباني . والحقوق المتعلقة بالخلق من أشدِّ ما يحاسب عليه العبد بعد الشرك بالله ، وذلك أن العفو عنها مرتبط بالمظلومين أنفسهم ، والناس في ذلك اليوم أحرص ما يكونُ على الحسنات ، لذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالتحلل من المظالم في الدنيا قبل أن يكون القصاص بالحسنات والسيئات ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم . إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري .
ومن كمال عدل الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم أنه يحاسب العبد فيقرره بذنوبه ، فإن لم يقر أشهد عليه أعضاءه، فتشهد عليه بما عمل ، قال تعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون }( النور: 24)، وتشهد عليه الملائكة الكرام الكاتبون كما ثبت ذلك في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن كمال عدله سبحانه أيضاً أنه يقيم للحساب ميزانًا يزن به أعمال الخلق ، حتى يعلم العبد نتيجة حسابه معاينة ، فإن الله لا يظلم الناس شيئا ، قال تعالى : {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} (سورة الأعراف -8 : 9).
فإذا علم المسلم ما يكون في ذلك اليوم من الحساب والعقاب ، وكيفية القصاص في المظالم والسيئات ، كان حريَّاً به أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، كما قال عمر رضي الله عنه : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر".