بعد جولة صغيرة على القنوات الفضائية سواء الوطنية منها أو الدولية جذبني برنامج حواري يؤتثه مجموعة من الضيوف على اختلاف أعمارهم و جنسهم لكن يجمعهم إلمامهم الشامل بمرض التوحد أو تجربتهم معه,و قد قص شريط هذا البرنامج ربورطاج يكشف آراء الشارع و مدى معرفة أفراده بهذا المرض لكن الأمر الذي لم يكن في الحسبان هو أن أغلب المستجوبين إن لم يكن جميعهم لم يسمعوا قط بمرض التوحد باستثناء شريحة قليلة التي تتوفر على معلومات شحيحة عنه و التي لم تكن أحسن حالا من سابقتها وذلك بعدم قدرتها على إعطاء تعريف مناسب للتوحد الذي غالبا ما يوقع الفرد في خلط بينه و بين مرض الرهاب الإجتماعي الذي يعتبر عامله نفسيا بالأساس ,و أثناء الدردشة التي تبادلتها منشطة البرنامج مع ضيوفها استخلصت أن هذا المرض ليس كغيره من الأمراض النفسية أو العقلية بل هو إعاقة ذهنية تولد مع الطفل و تؤثر على الطريقة التي يتحدث بها و تحول دون إقامته لعلاقات قوية مع الأخرين,و تعتبر المملكة المتحدة من البلدان الأكثر معاناة من هذا المرض المستعصي لكن هذا لا يمنع المصابين به بإبرازهم لمؤهلات خارقة تساعد بلدهم على التطور على مستوى جميع المجالات ,و هنا يكمن الفرق بين معالجة الدول المتقدمة لهذا المرض و بين المغرب الذي لا يزال يغفل عن الخطورة اللامحدودة التي يتسبب فيها هذا المرض سواء على المرضى أو على المحيطين بهم. فالأمر الذي لم تستوعبه بعد جميع المكونات من حكومة و مجتمع مدني وأفراد هو أن هؤلاء المرضى لا تنتهي طاقاتهم الإبداعية بمجرد دخولهم لقفص هذا المرض بل إنهم قادرين على تفجير قدراتهم و مساعدة بلدهم و هم تحت سيطرة مرضهم ,نعم يمكنهم ذلك عبر تقديمنا لهم للدعم الكافي,عبر اعتبارهم كجميع الأفراد الطبيعيين الذين لا يمكنهم ربما مضاهاة هؤلاء المرضى في الإبداع و التميز,عبر مساعدتنا لهم معنويا و ماديا أمام ارتفاع أسعار العلاج من زيارات طبية و أدوية,عبر تحسيس المجتمع بالأهمية القصوى التي يجب أن نوليها لهم و ذلك ليس لأنهم فقط ضحية هذا المرض بل لأنهم كُرموا من الله تعالى و من واجبنا أيضا أن نقدر إنسانيتهم التي تفوق كل اعتبار,عبر تكويننا لجمعيات تندد بهذا التجاهل المتعمد التي تمارسه الحكومة خاصة تجاه هذا المرض,و بعد انتهاء الجزء الأول من هذا البرنامج دُشن جزئه الثاني بربورطاج آخر تمنيت لو أنني لم أشاهده و ذلك لما خلفه في نفسيتي من إحباط و حقد على كل الميسورين ماديا الذين لا يحركون ساكنا أمام المعاناة القاسية التي يتكبدها المرضى و عائلاتهم,و قد سرد هذا الربورطاج قصة طفلة تبلغ من العمر 11 سنة تعاني هي الأخرى من مرض التوحد الذي رافقها منذ نعومة أظافرها ,لكن الشئ الذي يحز في نفس كل من شاهد هذا الربورطاج هو كيفية المعاملة التي تتلقاها هذه الطفلة من أسرتها إذ يُبقونها طيلة اليوم طريحة الفراش في غرفة هي الوحيدة التي تشهد على معاناتها التي لم تعد نفسيتها قادرة على تحملها ,ثم يقيدونها بحبل سميك ككبش عيد الأضحى لكي لا تشكل أي خطر على كل من يحيط بها مخلصينها بذلك من إنسانيتها التي لم يتبقى منها شئ أمام هذه المعاملة التي لا تمت بأعرافنا و ديننا الحنيف أية صلة ,فمن المخجل أن تطال هذه الفئة التهميش و النسيان في هذا البلد مقابل توفر مرضى الدول الأخرى على كل وسائل العلاج التي تخول لهم الإبداع و الخلق الذي يفاجئون به يوما بعد يوم الوسط الذي يعيشون فيه و يقضون بذلك على تلك النظرة الدونية التي يقابلها بهم المجتمع,فلماذا نحن الآخرون لا نستفيد من الخطوات المتقدمة التي عرفتها الدول الأخرى في هذا المجال لمنح مرضانا فرصة العيش الكريم و التخلص بالتالي من المعاملة الإستفزازية التي غالبا ما يصطدمون بها ,فمرضانا ليسوا في منأى عن الآخرين الذين يبتكرون و يبدعون أشياء تفيد بلدانهم ,فلهذه الفئة أيضا قدرات و مؤهلات ستؤتي حتما نفعها في المساهمة الفعالة في تنمية هذا البلد,فتخيلوا معي لو اتبعت جميع المكونات سياستها في التعامل مع هذا المرض من حكومة تتجاهله و لا تبدي تجاهه أي اهتمام ,مجتمع مدني غير ملم بحقيقة المرض و الظروف التي يعيشها مرضاه,فكيف سيكون مصير هذه الشريحة من المرضى,كيف سيتابعون حياتهم بصفة طبيعية كباقي الأفراد,كيف سيحققون حلم ذويهم و أسرهم بوصولهم للعلاج و قدرتهم على الإبتكار ,كيف سيوصلون صوتهم و معاناتهم للمجتمع ,كل هذه المظاهر ستكون مصير هؤلاء المرضى إذا ترسخ هذا الوضع,فعلى كل الجهات المعنية أن تتحمل مسؤوليتها سواء مجتمع مدني بتكوينه لجمعيات مختصة بهذا المرض تساعد المرضى و تجلب إعانات المحسنين لتقليص معاناة المرضى,أو حكومة عن طريق تقديمها الدعم الكافي سواء ماديا أو بحث الأطباء على القيام بجولات لمراقبة حالات المرضى,أو الإعلام الذي سيكون له دور مهم إذا قام بالمسؤولية المنوطة به و ذلك بتحضير برامج تقوم بالتحسيس و التوعية بضرورة إعطاء الأهمية لهذا المرض و المساعدة على جمع الإعانات كالبرنامج الذي حدثتكم عنه سابقا و الذي أيقظ ضميري من سباته و جعلني أحرر هذا المقال كمساهمة مني للتعريف بهذا المرض في سبيل منحه القيمة التي يستحق. rafikayoub.blogspot.com [email protected]