الرباط.. تتويج الفائزين بجوائز القدس الشريف للتميز الصحفي في الإعلام التنموي في دورتها الثانية    الملك محمد السادس يستقبل الأمير تركي حاملا رسالة من العاهل السعودي    سكوري يطلع مدير منظمة العمل الدولية على استراتيجية المغرب في التشغيل والحوار الاجتماعي    باريس سان جيرمان يخطط للتعاقد مع نجم المنتخب المغربي    تفاصيل الرحلة المباشرة لنهضة بركان إلى مصر    الداخلية تفتح باب الترشح لخلافة بودريقة في رئاسة مرس السلطان    بنموسى يكشف عن مصير الأساتذة الموقوفين    إسرائيل تمنع الأمم المتحدة من دخول معبر رفح    رئيس روسيا يأمر بمناورات نووية    قتلى وجرحى في هجوم بالصين    طلب "أخير" من الاتحاد الجزائري بخصوص أزمة قميص نهضة بركان    الجزائر تعاقب إسبانيا وتوظف ورقتها الضاغطة    انطلاق تكوين أساتذة مادة الأمازيغية بجهة الشمال    عبد النباوي ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الكويتي يتفقان على وضع إطار اتفاقي للتعاون    الشرطة الفرنسية تصادر مليون قرص مخدر    الاتحاد الآسيوي يوقف حمد الله 3 مباريات    إدارة إشبيلية تحتفي بالمدرب الركراكي    المغرب يقتحم الحدود الممنوعة في صناعة السلاح الفتاك    مجلس المستشارين يناقش حصيلة الحكومة    القرطاس تضرب فتيزنيت باش البوليس يسيطرو على مسلح نشر الرعب فالمديمة    وكالة تنمية اقاليم الشمال تعقد مجلسها الإداري ال12    نصف ساكنة السجون المغربية شباب.. وعدد المعتقلين يتجاوز 102 ألفا    شبكة كتنشط فالتلاعب فامتحانات الحصول على بيرمي طاحو فيها 10 بتنسيق بين بوليس وجدة والديستي    حملة بيطرية تختتم "مهرجان الحمار"    بوريطة يستقبل وزير خارجية مملكة البحرين    مطار أكادير المسيرة…ارتفاع بنسبة 23 في المائة في حركة النقل الجوي    تداولات الافتتاح في بورصة الدار البيضاء    خمس سنوات نافذة لضابط أمن في ملف وفاة مواطن بمفوضية بن جرير    نشرة نذارية…موجة حر مرتقبة من اليوم الثلاثاء إلى غاية الجمعة بعدد من مناطق المملكة    وزارة الداخلية السعودية تعلن تطبيق عقوبة مخالفة أنظمة وتعليمات الحج    "غارديان" تكشف مستجدات زياش وتشيلسي    وزير الصحة يعلن تسجيل أزيد من 32 ألف حالة مرض سل في المغرب    رابطة الأندية الإفريقية لكرة القدم تقرر نقل مقرها إلى المغرب    متلازمة رومهيلد .. مشاكل في القلب تحدث بسبب تراكم الغازات    مناسبة لتأكيد تمسك الأمة بمبدأ الوفاء للعرش العلوي المجيد.. الذكرى الواحدة والعشرون لميلاد ولي العهد الأمير مولاي الحسن    "حماس": 54 شهيدا خلال 24 ساعة في غزة    غلاء ثمن دواء سرطان الثدي يسائل الحكومة    مبابي غادي بحالو كيفما كان مصير PSG فالشومبيونزليگ وريال مدريد وجدو له ال10    احتفاء المهرجان الدولي مسرح وثقافات بسنته ال 20 : كوميديا موسيقية ومسرح أمازيغي وعودة مسرح الحي، لتتويج هذا الاحتفاء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    تقرير رسمي: معدل الاكتظاظ بالسجون يبلغ 159% والسجناء قدموا 5153 شكاية خلال 2023    بمناسبة شهر التراث: ندوة في موضوع "دور الرواية في تثمين المواقع التراثية بالقصر الكبير"    تارودانت ربيع المسرح في نسخته الثانية يكرم نزهة الركراكي    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    الأمم المتحدة تحذر من أن مخزونها من الوقود يكفي ليوم واحد فقط في غزة    فرقة "أتيز" الكورية تتصدر نجوم مهرجان موازين    إحداث أزيد من 16 ألف مقاولة جديدة في المغرب    سلسلة "اولاد إيزا" الكوميدية تثير غضب رجال التعليم وبنسعيد يرد    سيمانة قبل ما يبدا مهرجان كان.. دعوة ديال الإضراب موجهة لكاع العاملين فهاد الحدث السينمائي الكبير وها علاش    صعود أسعار الذهب من جديد    إبراز فرص الاستثمار بالمغرب خلال مائدة مستديرة بالولايات المتحدة    "العرندس" يتوج نفسه وينال جائزة الأفضل في رمضان    زيلينسكي يستعجل استلام أسلحة غربية    الدورة الثانية عشر لعملية تأطير الحجاج بإقليم الناظور    الأمثال العامية بتطوان... (591)    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    الأمثال العامية بتطوان... (589)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجاز الرقمي وبلاغة الصوت والصورة.."تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق أنموذجاً"
نشر في طنجة الأدبية يوم 30 - 01 - 2016

لا ينفصل الحديث عن الشعر الرقمي عن الحديث عن أزمة الشعر في عصرنا الحالي، فثمة أزمة تلقي الشعر، وأزمة في الشعر نفسه على الرغم من العدد الكبير للشعراء وإصداراتهم. وقد حدثت أزمة علاقة بين المبدع والشعر والمتلقي حتى غدا الشعراء المتميزون ضيوفاً عابرين في العصر الحالي.
ويتخلى الشعر الرقمي1 عن الكلمة، فلا يقتصر عليها؛ ذلك لأنه يستعين بوسيط تكنولوجي؛ لذا لم يعد الشاعر شاعراً فقط، بل صانعاً للنص، ولم يعد المتلقي متلقياً فقط، بل مشارِكاً في صنع النص، ومستعمِلاً للحاسوب ببرامجه.
ويتولد الشعر الرقمي من التقاء الشعر المعلوماتيةَ، فيغدو الحاسوب حامل القصيدة التي صُمِّمت لشاشته، وهي قصيدة تفاعلية، ذات سمة تشعبية، فيستثمر صانع النص شاشة الحاسوب ببعديها، وينشر نصّه مترافقاً مع الصوت والصورة، ويعني هذا الكلام أن الشعر الرقمي لا يمكن نقله على الورق؛ لأنه يقوم أساساً على دعامة حاسوبية أو شبكية معتمداً على تنشيط الروابط من قبل المبحِر الذي يتولد لديه أفق توقع مع كلّ نقرة على رابط، فيتولد سحر لحظة وهو يكتشف، ويستمتع.
إنه الأدب المولود من رحم التكنولوجيا2، فهل يمكن أن تعيد التكنولوجيا للشعر ألقه بعد أن خبا في عصرنا الراهن؟
الشاشة في الأدب الرقمي فضاء حركي تكتب فيه الكلمة، وتُرسم، وتُصوَّر، وتتحرك إيقاعياً. ويرى بعض النقاد أن ثمة فنوناً قريبة إلى الأدب، ويختلفون في أقرب هذه الفنون إليه، فبعضهم يرى أن الرسم أقربها إليه من جهة المحاكاة والتصوير، فالرسم –كما يقول سيمونيدس الإغريقي "556-468 ق.م"- شعر ناطق، والشعر رسم صامت. وبعضهم الآخر يرى أن الموسيقى أقربها، والمهم أن جميع النقاد متفقون على حاجة الأدب إلى الأنواع الأخرى الأدبية وغير الأدبية. ويجمع الشعر الرقمي فنون الموسيقى والتصوير والرسم والفن التشكيلي، ويثير اعتماده على الصورة إشكالاً، فالشعر قائم على التكثيف والإيحاء والرمز والتعريض بالكناية، فكيف تستطيع صورة واحدة أن تحمل هذه الأبعاد؟
تشترك الأنواع الأدبية في التصوير، لكنها تختلف في استخدام الصورة. فما علاقة الشعر الرقمي الذي أوجد مجازاً خاصاً به بالصورة، والصوت؟
وسنتخذ من قصيدة تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق للشاعر العراقي مشتاق عباس مادة للدراسة، ويختلف النقاد في ريادته3 في ميدان القصيدة الرقمية، ومع ذلك تبقى هذه القصيدة من أوائل القصائد الرقمية العربية القائمة على نظام التشفير اللغوي وغير اللغوي القائم أساساً على التشعب النصي عبر العقد المترابطة بروابط، والوسائط المتشعبة بإدخال وسائط سمعية وبصرية إلى نص القصيدة.
وقد اعتمد مشتاق عباس على قرص مدمج C D مع إمكان عرض نصه4 على الشبكة العنكبوتية بيسر.
-وصف القصيدة
ثمة طريقان للولج إلى تباريح رقمية، الأول خط عمودي ممثَّل بأيقونتين تحملان عبارة "اضغط فوق ضلوع البوح"، وبالضغط فوق ضلوع البوح يحصل المبحِر على خيار شعري يميزه بوح خاص عبر مقطع شعري، ويحيل النص على نصوص أخرى بما يظهره للمتلقي من أيقونات تحمل عبارات توافق أفق توقع المبحِر الذي مرَّ على النصوص السابقة، وتولدت لديه انفعالات خاصة في أثناء مروره.
أما الطريق العمودي في الواجهة الرئيسة فيتضمن خمس أيقونات مصفوفة رأسياً كثُب عليها بالتسلسل أيقنتُ، أنّ، الحنظل، موت، يتخمر، وكل كلمة تنضوي على نص شعري ينفتح بتحريك المؤشّر على كل واحدة.
وتعدّ الأيقونة عتبة نصية للمتن الشعري، وتضمر جملة اضغط فوق ضلوع البوح أكثر من نص، يجمع هذه النصوص رابط محوري واحد، وتتألف المجموعة من تسعة نصوص، ففي الصفحة الأولى جملة "اضغط فوق ضلوع البوح" تكررت مرتين، بالنقر عليها تظهر أيقونة أولى بعنوان "المدار العتيق"، تدور حول معنى الطريق الذي سلكه بعد طول شتات، فوجد أنه طريق دائري لم يوصله إلا إلى طريقه نفسه، وتنفتح أيقونة "حاشية" على نص عمودي في معنى الرحلة التي تكرِّر ذاتها، ثم تنفتح أيقونة "مكابرة" على نص تفعيلة، فقد حاصرته رحلته بأنواع الألم، لكنه قرر المواجهة؛ ليصل إلى الخلاص، وتنفتح أيقونة "هامش" على نص نثري في معنى أوجاع رحلته التي لم توصله إلى بر الأمان، وهذه المعاني متحصلة من النقر فوق ضلوع البوح، أما النقر فوق ضلوع البوح الثانية فيوصل إلى أيقونات جديدة تضمر نصوصاً شعرية، فثمة أيقونة بعنوان "يعقوب والوطن المحاصَر بالعمى"، وأيقونة "الهامش" المنفتحة على نص عمودي، وأيقونة "نصيحة" في معنى رحلته، وشعوره بالضياع، وهكذا، وفي أعلى الشاشة شريط "بلا عجلة.. الطيور التي تعشق لا تستحق الجناح".
وقد جمع فيما احتوته أيقوناته بين الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر التي كان حضور الجانب الفني فيها ضئيلاً، ومنها قوله:
في قريتي بعض من الثمر الضال/ والثمر الناضج/ والثمر القابع في الأغصان/ لكن الساكن أدرد
ومن نماذج الشعر العمودي قوله:
تمهَّلْ أيها الجسرُ الأعفُّ
سيسرقُ ماءك الرقراقَ جرفُ
وتسرقك السواقي آسناتٍ
وتحفرُ في محاجركَ الأكفُّ
ويخنقُ وجهَك المجدافُ سراً
وفي مرساكَ كلُّ الغدرِ يغفو
يكوِّرُ في حناياكَ المنايا
ليُغرقَك الخريرُ المستخَفُّ
ترجّلْ فالصحارى فاغراتٌ
وحضنُ الرملِ أودية يزفُّ
وهذه القصيدة عمل رقمي في لحظة مخاض، يقوم على تعالقات الموت والبعث. فتحمل الأيقونة الجانبية العمودية عنوان "أيقنتُ"، يتفرع منها خمس أيقونات فرعية "أيقنت، أن، الحنظل، موت، يتخمر":
-أيقنت:
أيقنتُ
حين قرأتُ (كتاب الدنيا)/ أن الناس توابيت/ وأحلام برأس الموتى/ ك (طراز القبر/ المنقوش بأحلى مرمر/ والعطر المنثور على أبواب اللحد/ وبخور الأعواد الثكلى/ تنزف عنبر/ أيقنتُ أن المولودين ضحايا/ ونعيش/ لكن.. لكي نقبر)
-أيقونة أنّ:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها/ وأرضي تنث ملوكاً/ كان آخر من أورق فيها ملك الموت.
-أيقونة الحنظل:
الحنظل أدمن شرب بوح المنصاعين لبوح الحزن.. فتحنظل!
-أيقونة موت:
موت يعدو.. ماذا يبغي هذا العدّاء المسكين؟
-أيقونة يتخمّر:
يتخمّر ظلي في الغرفة.. وأنا عار في طرقات الروح/ أتلمّسني/ لعل الغربال المتلفّع جلدي/ يوقظ ظلي/ الموغل في التوحيد بدوني/ كي يشرك بي.
ثمة ترابط ثيمي ودلالي بين العبارة العمودية وما يتفرع عنها من مقاطع أفقية بعد النقر على الأيقونات، فالأيقونة مصدر، والمقطع متفرع منه.
وقد فصل بين المقاطع الخمسة وعباراتها بعلامات السلاش، وهي العلامة التي تختزل بها الأسطر الشعرية في النصوص التقليدية، ويعني ذلك أن المقاطع الشعرية تستحضر الأسطر الشعرية التقليدية القائمة على سيميائية البياض والصمت، ولعبة البياض والسواد مع أنها توحي بغير ذلك. ويعني ذلك أن الكتابة الرقمية امتداد للكتابة الورقية، لا انقطاع عنها، تحمل ذاكرة الكتابة الورقية، وتنزاح عنها في حدود معينة.
وفي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر يصبح المعنى أكثر ثراء حين يتفاعل مع اللوحات والحركة، فقد وظف لوحة الساعة المائعة لسلفادور دالي في أيقونة قصيدة التفعيلة بحمولتها الدلالية.
لقد ترافق النص اللغوي مع الوسائط الالكترونية، والمؤثرات الصوتية والتصويرية، وهي ذات حضور فاعل يضفي دلالة على النص، وليست تزيينية، لكن المبحِر يستقبل الفكرة المكتوبة نصياً مدعمة بتأكيداتها السمعية والبصرية، فهل في هذا العمل مصادرة لخيال المتلقي وحدوده؟
-مجاز الصوت والصورة في التباريح الرقمية:
يتولد المجاز الرقمي في التباريح من حوارية الأنواع الأدبية: السمعية، والبصرية، فثمة شعريةُ لون حين اختار ألوان الخلفيات، وألوان الحروف، وألوان اللوحات، وما تحمله هذه الألوان من قيمة إيحائية مؤثرة في تلقي النص. وثمة شعريةُ صوت بالشعر الذي يؤدَّى مترافقاً مع الموسيقى، والمعزوفات الموسيقية المرافقة لعرض النصوص، وشعرية الأيقونات وما تنضوي عليه، والمنحوتات، وما يرافق النصوص من صور فنية، وشعرية متولدة من ترقب المبحِر، وأفق توقعه وهو يبحر عبر الأيقونات، ويشعر بضرورة التفاعل مع النصوص، وضرورة الذهاب في أحد الخيارات التي تظهرها الأيقونات. وما عليه سوى النقر على الأيقونة، وتتبع الأيقونات بدقة، اختيار نهاية القصيدة بنفسه.
فالقصيدة نص لغوي يتكون من معزوفات موسيقية، وأناشيد مترافقة بالموسيقى، ومساحات لونية، وصور فوتوغرافية وفنية معبرة، ولوحات تشكيلية، ومنحوتات وتماثيل، وثمة هندسة أيقونية، ويعتمد البوح الشعري على نسبة حضور المكونات الفنية في تفاعلها مع المبحِر، فيبلغ أفق التوقع ذروته، ويتبادر إلى ذهنه أفكار وآفاق توقّع عبر ظهور الدوال الموحية واختفائها.
وثمة عنصر الاختيار، فالمبحِر يختار ما يريد، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: أي نقد يمكن أن يواكب النص الرقمي؟
تمثل القصيدة الرقمية ثقافات فنية متنوعة، وتحتاج لمقاربتها نقدياً إلى نقد منفتح على تنوع الثقافات وتنوع الفنون معاً مما يعني أنه نقد ثقافي رقمي يحاور فنون الهندسة الرقمية، ويتعامل مع الفنون المتنوعة المشاركة في بناء القصيدة الرقمية، ويوسع مفهوم النصية، فيشمل كل ما يستطيع التأثير في المبحِر، ويهتم باللون والصوت والصورة والحركة والكلمة، ويجعل الهندسة الرقمية حجر الأساس في تحليل النص الشعري.
ولغة التباريح الرقمية أدبية، لكن أدبيتها لا تمنعها من أن تصوَّر وترسم. والصوت المصاحب للصورةجزء من المضمون الذي يكتسب مؤثرات صوتية متعددة الدلالات، فثمة مزاوجة بين القدرة الإبداعية، وقدرة الذاكرة على الاحتفاظ بانطباعات بصرية من جهة، وما يحمله النص من صور صوتية من جهة أخرى. فالقصيدة الرقمية قصيدة تشكيلية قائمة على حوارية الأنواع، تستخدم مبدأ الإدراك البصري المرتبط بالخط، والرسم، والصورة الفوتوغرافية والتشكيلية؛ لإيجاد قصيدة هندسية بصرية سمعية.
فما مدى قدرة الكلمة على مزاحمة الصورة في التباريح التي هيمنت فيها مفردات الصورة والصوت على مفردات الكلمة.
الغلبة في القصيدة الرقمية لصالح الصورة مع أن الكلمة أهم أدوات التعبير، لكنها أضحت كلمة تكنولوجية جديدة.
لكن الحوار بين ثقافة الصورة، وثقافة الكلمة مشحون بالصدام في ثقافتنا العربية، فماذا قدّمت الصورة للكلمة؟ وماذا قدمت الكلمة للصورة؟
تبدأ القصيدة بصورة لتمثال يتطاير منه شظايا الغضب والاندفاع، فمه مفتوح صارخ، عيناه مطبقتان بألم شديد، جبهته مقطبة تحيل على الألم المبرح. إنه قناع فني للشاعر الرقمي، لونه يتدرج من الأسود مروراً بلون التراب.
صورة هذا التمثال الصارخ بصمت تم تجميدها سعياً للقبض على اللحظة الشعرية، وجعل هذه اللحظة فاتحة للدخول إلى المقاطع الشعرية ببوحها الخاص، فيتوازى الصوت والصمت، والموت والحياة، ويتقابلان في ثنائيات ضدية توضح عمق الألم الناجم عن الشاعر.
ثم تفتح التباريح الرقمية لسيرة بعضها أزرق بمقاطع موسيقية مقصوصة، تذكّر بالأصل، وتتوازى مع صمت الصراخ في المقدمة، ويرتبط سماعها في ذاكرة المبحِر بوجه التمثال الصارخ في صمت، وألوانه.
وتأتي ألوان التمثال متدرجة من الأسود إلى ألوان أخرى مروراً بلون التراب، وتتراسل الألوان مع خلفية الصفحة الزرقاء الداكنة. إنه يضغط على الحزن، ثم يلوّن بالأحمر موحياً بدورة الموت والحياة، الألم والأمل، لهج المشتاق وضغط الأشواق. فثمة بوح شعري خاص.
أما الجمل اللغوية فتوحي بالحيرة والاستسلام القدري لدورة الموت، فهو ابن العراق الجريح، لكن هذه التباريح احتقان يتأهب لولادة جديدة.
ويحقق التقطيع المونتاجي إثارة، فيلتقي الواقع الحلم، وتغتني اللحظة الشعرية، وتتكثف، وتحضر الفكرة بالصورة، فتتنحى الكلمة لصالح الصورة باستخدام تقنية تقطيع المشاهد والتوليف بين الحواس انطلاقاً من حاسة البصر.
لقد هيمنت الصورة على القصيدة، وللصورة بلاغة خاصة، لها لغة إشارية مختلفة عن الكلمة المكتوبة، فالكلمة المكتوبة ذات حمولة تكثيفية إيحائية، والكلمة المصوَّرة ذات حمولة سمعية بصرية تخضع لبناء حركي صوتي، تختزل كلاماً كثيراً يمكن أن يوجد في الخطاب الوصفي.
إن الشراكة بين فن الكلمة وفن الصورة في التباريح يخصب أدوات التعبير الفني المشتركة بين الطرفين، فقد استفادت التباريح الرقمية من فن الصور المتحركة، والفن التشكيلي، والتقانات المتطورة، وحررت النص من الذاتية، وجعلته خطاباً إعلامياً اكتملت دورته: رسالة- مرسل- حاسوب- متلق، فثمة حوارية بين الأنواع، فلا يرى الشعري مانعاً من حضور السردي، والتصويري، والموسيقي، وصار الشعر سمعياً تصويرياً بعبور النوع.5
الشاعر الرقمي ليس شاعراً فقط، بل صانع نص، يحوّل باستخدام التقنيات كلماته إلى صور بصرية سمعية مقروءة. فالكلمة تصوَّر بالصورة التشكيلية والفوتوغرافية، وعليه إتقان لغة الرقمنة HTML وعليه معرفة الإخراج، فلا يُستكمَل الشعر الرقمي من غير مؤثرات صوتية تصويرية، فلغة الشعر العادي تكثيفية إيحائية، فهل استطاعت هذه الوسائط نقل الكثافة الإيحائية بالصوت والصورة؟
الشعر العادي كلمة حافلة بالموسيقى وصورتها، تولد صوراً شتى في خيال المتلقي، ويوصل النص الرقمي الصورة إلى المتلقي، فيحصره في صورة واحدة حمّالة دلالات وإيحاءات، فالقصيدة مترافقة بصورة الآخر، وموسيقاه، إضافة إلى مؤثرات تضاف إلى النص ليست من مكوناته البنيوية6.
وحاول الشاعر قديماً أن يرسم بالكلمات، وهو ما يعرف بالشعر الهندسي، كالشجري والمسمط والدائري، فتنجم قصيدة على شكل مربع أو دائرة أو شجرة، ويستثمر الورق أداة لإنتاج نص لا يقدّم الكلمة فقط، بل الكلمة والشكل. وقد تكون وظيفة الشكل وظيفية، وقد تكون شكلية خارجية.
لكن التكنولوجيا شكّلت مبدعاً مختلفاً، ومتلقياً مختلفاً له وظيفة في بناء النص، فيسهم المتلقي في بناء النص الأدبي، ويتحقق في النص روح التفاعل7، فلم يعد مهماً في الشعر الرقمي ماذا يقول الشاعر، بل المهم كيف يقول؟ وفي هذا الأمر ردّ اعتبار للمبحِر على حساب الذات المنشئة صانعة النص.
واهتمت البلاغة التقليدية بالصورة وحمولتها الإيحائية، وقصدت الصورة الجزئية المجازية، أو الإيحائية، وكانت عاملاً مهماً لفهم النص من جهة، وفهم صيغ الحياة السائدة من جهة أخرى. والصورة علامة سيميائية، أما الصورة الفوتوغرافية فهي علامة أيقونية تقوم على علاقة التشابه.
واللغة في التباريح الرقمية غير كافية، وللتماثيل والمنحوتات والصور لغة خاصة تتجاوز اللغة إلى ما هو أعم، تنقل رسائل المبحِر، فالصراخ المتعالي في وجه التمثال الصامت معادل لانبعاث الحياة من الموت.
ويتماهى النص السردي بالسرد المرئي ليصل المبحر إلى جماليات خاصة متحررة من سلطة الكلمة ومحوريتها، فصورة التمثال الصارخ الصامتة تمثيل عياني محسوس للكلمة، ومكوّن بصري للقصيدة. إنها صورة ثابتة لكنها متحركة حين يستقبلها المبحِر؛ إذ تؤثر فيه من الناحيتين الفنية والسيكولوجية؛ لذا تعدّ محاولة للإفلات من قيد اللغة لتوسيع نطاق التعبير.
لكن عباساً لا يوظف الدوال غير اللغوية بالمستوى نفسه في النص الرقمي كله، ففي "بناء البيت الرقمي" تُحصَر الحركة في تمرير شريط العنوان يميناً، فلا تمتد الحركة إلى الخطاب البصري إلا بالإيحاء، ويُحصَر الصوت في المقطع الموسيقي الجارح، فثمة تكرار رتيب للمقطع الموسيقي يتناسب والتمرير الرتيب لشريط العنوان.
وتلامس المقاطع الموسيقية المختارة المشاعر، وتناسب الكلمة، وهي تترافق مع العناصر التكنولوجية الأخرى؛ إذ تعبّر عن خبرة جمالية خاصة حين تُنقَل الكلمة مترافقة بالصوت المؤثر.
ويعد التصوير تنظيماً للألوان، وفن تمثيل الشكل باللون والخط، ويتم الرسم بالخط، والتصوير باللون، والشعر الرقمي إعادة إنتاج العلاقة بين الكلمة والصورة والصوت، فانتقلت سلطة التعبير من الكائن اللغوي إلى النظام التعددي التكنولوجي بأدواته المؤثرة، فيرتفع الحوار بين الكلمة والصورة، وكلما ارتفعت وتيرة هذا الحوار كان التأثير إيجابياً، فالصورة وحدها قد لا تعبر عن الحمولة الإخبارية، فتتوحد الصورة والكلمة في تفاعل جدلي، ويصبح للصورة وجود خاص تأثيري لوجود الكلمة.
وثمة مفارقة ألوان في الصور، فثمة الأزرق المتدرج إلى الأسود، والأحمر، والأصفر، والأبيض، وفي أيقونة تالية يطغى اللون الأصفر، فيشوش على الرؤية مع أنه أراد أن يعبر عن مرارة الوجود القاتم، والحياة التي تشبه الموت المتخمر.
وتأتي عبارة "انقر فوق ضلوع البوح" استعارة؛ إذ يتخلى النقر عن وظيفته الحسية ليخاطب المبحِر المتأهب، والمتوجس من النقر فوق ضلوع البوح، فينجم شلال من بوح جديد، فالنقر فوق الأيقونات معادل لانبعاث الحياة من الموت، وتحليق بعيداً عن الغرفة الزرقاء الضيقة إلى أبعاد أكثر رحابة.
إن انفتاح الكلمة على الصورة والموسيقى منحها أبعاداً دلالية، وفنية بفضل المؤثرات التعبيرية المرافقة لها بفعل التحول التكنولوجي، فتخلت الكلمة عن دورها المعهود، وبعد أن كانت أداة تحاور وتأثير أضحت لها قدرة مختلفة؛ لامتزاجها بالصورة. لكن الناظر إلى التباريح بعيداً عن الوسائط، واللوحات، والروابط المتشعبة يجد أن تجربة الشعر الورقي مكتملة لدى الشاعر، وقد زادتها التكنولوجيا غنى وتكاملاً؛ لذا تعدّ تجربة مشتاق عباس عملاً رقمياً بسيطاً قياساً إلى التجارب التفاعلية العالمية كتجربة روبرت كاندل التي لا يمكن قراءتها ورقياً؛ لأن المتلقي يتفاعل مع النص، ويكون قارئاً، ومسهِماً في كتابة النص الرقمي، ولو بصورة جزئية.
ويمكن أخيراً أن نسجل ملاحظة تتعلق بالوسائل التقنية الموظفة في بناء النص الرقمي، فثمة تشابه بين هذه التقنيات، وهو أمر أدى إلى تشابه في التجارب الرقمية على مستوى القصيدة العربية وغير العربية، فالتقنية واحدة، وتبقى الخصوصية في استخدام هذه التقنية بما يتناسب والحال النفسية للمبدع الرقمي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.