دعا جلالة الملك من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى (الانخراط من الآن في تفكير مستقبلي، وعمل استباقي، لما بعد سنة 2015، لتحقيق استمرارية مبادرتنا والتأهيل لرفع التحديات الجديدة). والمقصود بمبادرتنا، الأهداف الإنمائية للألفية التي أطلقتها القمة العالمية التي عقدت في الأممالمتحدة في عام 2000، والتي جاءت متزامنة تقريباً، مع بدء العهد الجديد الذي يقود مسيرته الإنمائية جلالة الملك، والذي تميّز ولا يزال بسلسلة من الإصلاحات العميقة في عديد من القطاعات التي تتكامل أهدافها وتترابط حلقاتها، ومن أهمّها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي انطلقت في عام 2005. وهي المشروع الوطني للبناء الاجتماعي وللنماء الاقتصادي اللذين يؤسسان للنهوض بالمغرب في جميع المجالات، وعلى نحو ينسجم مع الخطة الدولية المتمثلة في الأهداف الإنمائية للألفية. ولقد كان الخطاب الملكي أمام القمة العالمية لأهداف الألفية للتنمية في نيويورك، مستوعباً بدقة، على قصر فقراته، للمضامين العميقة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومعبراً في الوقت نفسه، عن تطلعات الأسرة الدولية إلى المستقبل. وقد ختم جلالة الملك خطابه بقوله : «سبيلنا إلى ذلك (أي تحقيق أهداف الألفية) العملُ الجماعيُّ الهادف لتوطيد نموذج تنموي بشري ومستدام، تضامني، ومتناسق، وذلك في نطاق حكامة عالمية منصفة وناجعة، وتوفير العيش الكريم لأجيالنا الصاعدة، وبناء مستقبل مشترك يسوده الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار». ولقد وضع المغرب كما قال جلالة الملك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأهداف الإنمائية للألفية في صلب سياسته الوطنية، وسلك إلى ذلك النهجَ القويم بإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مع ما يواكبها من إصلاحات عميقة، ومخططات قطاعية، وأوراش هيكلية، قطع بها المغرب أشواطاً متقدمة لبلوغ الأهداف الإنمائية للألفية، خاصة ما يتعلق منها بمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، وتحسين ظروف العيش في العالمين الحضري والقروي، لاسيما بتعميم الاستفادة من الكهرباء والماء الصالح للشرب، بموازاة مع إحداث نظام التأمين الإجباري الأساس ضد المرض، ونظام المساعدة الطبية لفائدة الأشخاص المعوزين، والمساواة والإنصاف بين الجنسين في مجالات الأسرة والصحة والتعليم وسوق الشغل، وتعزيز التمثيل السياسي للمرأة وحضورها الفاعل في الحياة العامة، وتعميم التعليم الابتدائي، ومراعاة البعد البيئي في التنمية، والاستغلال الأمثل للتكنولوجيات الجديدة والنظيفة. وتلك هي أهم القطاعات وأكثرها حيوية، التي عرفت تطوراً إيجابياً شاملاً ملموساً يحسب لهذا العهد المزدهر السائر في طريق التقدم والنمو المتوازن، بقيادة جلالة الملك. وهو تطور بالغ الأهمية، واسع المدى، ممتد الآفاق، عميق التأثير في التأسيس للنهضة الحضارية الشاملة التي تمثل في العمق المشروعَ الوطنيَّ الذي يجتمع حوله الشعب، ولا يخرج عنه إلاَّ من عميت بصيرته، فلا يرى ما يتحقق يومياً في أرض الواقع من إنجازات متميزة تترى، ومشاريع كبرى تغطي جميع القطاعات على امتداد التراب الوطني. إن السياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي التي تواصل الحكومة تنفيذها، تتكامل تكاملاً منسجماً مع السياسة الإنمائية الشاملة المتصاعدة وتيرتها التي تنفذ في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. فالعمل الحكومي يتوزع في هذه المرحلة، كما يقول الأستاذ نزار بركة وزير الشؤون الاقتصادية والعامة، على سبعة أوراش كبرى، هي : (مراعاة البعد الجهوي في السياسات العمومية تمهيداً للجهوية المتقدمة، وسياسة إرادية في التشغيل رغم تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، وجعل المدرسة وسيلة للارتقاء الاجتماعي، وضمان تكافؤ الفرص، وإنصاف العالم القروي والمناطق الجبلية، وبرامج واعدة لتقليص تبعية الاقتصاد الوطني لضمان الأمن الغذائي والطاقي، والاستهداف المباشر للفئات الفقيرة باعتباره منطلقاً أساساً لإصلاح صندوق المقاصة). وهذه السياسة العمومية القائمة على أسس قوية، التي تستجيب لتطلعات المواطنين كافة، في أبعادها الإنسانية القريبة والبعيدة وفي آفاقها الحضارية التي تستشرف المستقبل، تتطابق وتنسجم مع الأهداف الإنمائية للألفية التي تبناها رؤساء الدول في عام 2000 ومن المفترض أن يتم تطبيقها بحلول عام 2015. وهي أهداف إنسانية انعقد حولها الإجماعُ الدوليُّ واعتمدها قادة العالم. ولا بأس أن أضع القارئ في الصورة، وأستعرض فيما يلي وباختصار، هذه الأهداف التي تعبر عن الإرادة الدولية، حتى تتبين أبعاد ما أقصد إليه في هذا المقال. «أولاً : خفض الفقر المدقع والجوع : خفض نسبة السكان الذين يقل مدخولهم عن دولار واحد في اليوم إلى النصف بين 1990 و2015، وتأمين العمل الكامل وإمكان أن يجد الجميع بمن فيهم النساء والأطفال، عملاً لائقاً ومنتجاً، وخفض نسبة السكان الذين يعانون من الجوع إلى النصف بين 1990 و2015. ثانياً : تأمين التعليم الابتدائي للجميع : إعطاء كل الأطفال في العالم، صبياناً وبنات، الإمكانات لإتمام التعليم الابتدائي بحلول عام 2015. ثالثاً : تعزيز المساواة بين الجنسين واستقلالية النساء وإلغاء الفوارق بين الجنسين على كل مستويات التعليم بحلول 2015 على أبعد تقدير. رابعاً : خفض نسبة وفيات الأطفال : خفض نسبة وفيات الأطفال ما دون الخمس سنوات بمقدار الثلثين بين 1990 و2015. خامساً : تحسين صحة الأم : خفض نسبة وفيات الأمهات بمقدار الثلاثة أرباع. سادساً : مكافحة الإيدز والملاريا وغيرهما من الأمراض : وقف انتشار فيروس ومرض الايدز والبدء في قلب الميل الحالي بحلول 2015، وتأمين حصول جميع المرضى على العلاجات لفيروس ومرض الإيدز بحلول 2010، والسيطرة على الملاريا وغيرها من الأمراض والبدء في قلب الميل الحالي بحلول 2015. سابعاً : تأمين بيئة مستديمة : تطبيق مبادئ التنمية المستديمة في السياسات الوطنية : قلب الميل الحالي في خسارة الموارد البيئية، وتقليص تراجع التنوع البيولوجي وإعادته إلى مستوى أقل بشكل ملحوظ بحلول عام 2010، وتحسين ظروف حياة 100 مليون شخص على الأقل من سكان مدن الصفيح بحلول 2020. ثامناً : إقامة شراكة عالمية من أجل التنمية : مواصلة إقامة نظام تجاري ومالي متعدد ومنفتح يقوم على مبادئ ويكون قابلاً للتوقع وليس فيه تمييز، وتلبية الحاجات الخاصة للدول الأقل تقدماً، وتلبية الحاجات الخاصة للدول الجيوب والدول-الجزر الصغيرة النامية، ومواجهة مشكلة ديون الدول النامية بشكل شامل من خلال اتخاذ تدابير وطنية ودولية تجعل الديون أسهل على المدى الطويل، وجعل الأدوية الأساس متوفرة وبسعر مقبول في الدول النامية، وذلك بالتعاون مع شركات تصنيع الأدوية». تلك هي الأهداف الثمانية للألفية من أجل التنمية، التي تختصر السياسات الدولية التي تتبناها الأممالمتحدة من خلال مؤسساتها ووكالاتها والمنظمات التابعة لها، في مجال محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، وتعميم نشر التعليم وتمكين المرأة من القيام بدورها في تنمية المجتمع وحماية البيئة، ومن أجل بناء مجتمعات إنسانية آمنة ومستقرة، تحترم فيها كرامة الإنسان التي كفلها له الله الخالق سبحانه وتعالى. إن انخراط المغرب في التعاون الدولي من أجل تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، يجعله يرتقي إلى مستوى الدولة الفاعلة في تعزيز السياسات التي تتبناها الأممالمتحدة على الصعيد العالمي. وهو مستوى راقٍ يؤكد أن قاطرة المغرب تسير في الاتجاه الصحيح. فالحكومة تتبنى سياسة تقوم على ركيزتين أساسَيْن، هما وكما عبر عن ذلك الأستاذ نزار بركة (أنسنة اقتصاد السوق، وتقوية الاقتصاد التضامني) اللتان تشكّلان القاعدة العريضة للتنمية الشاملة المستدامة، إعمالاً للمبادئ القويمة التي تستند إليها الاختيارات المغربية، والتي تمثل العمودَ الفقريَّ للمشروع الوطني المغربي، من أجل بناء المستقبل الآمن المشرق المزدهر الذي يعيش فيه المواطنون المغاربة أحراراً في وطن حر؛ أحراراً من قيود التخلف عن مواكبة العصر، وأحراراً من ضغوط التبعية الاقتصادية التي تؤثر على القرار السياسي، وأحراراً من الخوف على مصير الأجيال القادمة ومن المستقبل. فعمل الحكومة متواصل بإرادة سياسية قوية ورؤية وطنية ثاقبة، بقيادة جلالة الملك، في قطاعات شديدة الحيوية، تدخل ضمن المجالات الثمانية الواردة في الأهداف الإنمائية للألفية، وهي خفض الفقر المدقع، وتأمين التعليم الابتدائي للجميع، وتعزيز المساواة بين الجنسين واستقلالية النساء وإلغاء الفوارق بين الجنسين (في إطار الضوابط الشرعية التي لا تتغيَّر بتغير الظروف المحلية والعالمية)، وخفض نسبة وفيات الأطفال، وتحسين صحة المرأة، ومكافحة الإيدز والملاريا وغيرهما من الأمراض، وتأمين بيئة مستديمة. وتلك هي القطاعات التي توليها الحكومة بالغ اهتمامها وغاية عنايتها، والتي تشهد تطوراً متواصلاً وتعرف تقدماً مطرداً، وإن كان الإعلام المغربي، في جل منابره، لا يقوم بواجبه كما يجب، في نشر المعلومات عن هذه الإنجازات. إن تركيز الخطاب الملكي في الأممالمتحدة، على ضرورة (توطيد نموذج بشري مستدام تضامني ومتناسق، في نطاق حكامة عالمية منصفة وناجعة)، يعكس إرادة الدولة المغربية في (أنسنة) السوق الاقتصادي وتقوية (الاقتصاد التضامني)، ليس فحسب على الصعيد الوطني، وإنما على الصعيد الدولي. فالمغرب يسير، بخطى واثقة وببوصلة سليمة، في الطريق التي تؤدي إلى الخروج من أنفاق الفقر المدقع الذي يعد خفض معدلاته إلى النصف إلى حدود عام 2015، أول هدف استراتيجي ضمن قائمة الأهداف الثمانية للألفية من أجل التنمية. وإزاء ضخامة هذا التحدي الذي يواجه الإنسانية اليوم وغداً، دعا الخطاب الملكي الذي يعدّ بكل المقاييس خطاباً تاريخياً المجتمع الدولي إلى «تحمّل مسؤولية مشتركة لرفع التحدي الكبير، سواء من لدن شركائنا من الدول المتقدمة التي يتعين عليها الوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بتمويل التنمية، أو من قبل الدول النامية التي يجدر بها وضع الأهداف الإنمائية للألفية في صلب سياساتها الوطنية» وفي ذلك تحقيق لأنسنة الاقتصاد العالمي، بتغليب الأهداف الإنسانية، والمعايير الموضوعية، والقيم الأخلاقية على اقتصاديات العالم. لقد قال جلالة الملك مخاطباً قادة العام : «إن ضمير الإنسانية يسائل لقاءنا : ماذا تحقق من الأهداف المحددة في هذا الإعلان التاريخي؟». وقد أجاب السيد بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، عن هذا التساؤل، بطريقة غير مباشرة، بقوله في الكلمة التي افتتح بها القمة العالمية، إنه في الإمكان استكمال تحقيق الأهداف خلال السنوات الخمس القادمة إذا توفرت الجدية، معبراً بذلك عن التفاؤل الذي ينبغي أن يهيمن على العمل السياسي على جميع المستويات. وتأكيد الخطاب الملكي على ضرورة (توطيد نموذج بشري مستدام تضامني ومتناسق) يعبر عن فهم عميق مستنير لمتطلبات تغيير السياسة العالمية في المرحلة الحالية والقادمة، في اتجاه الصعود إلى المستوى الراقي باعتماد البعد الإنساني التضامني أساساً لتعاون الأسرة الدولية وقاعدة لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية. وذلك هو جوهر الرسالة التي وجّهها جلالة الملك إلى المجتمع الدولي من فوق منبر الأممالمتحدة.