إن جمال الخلق من أعظم نعم الخالق، ومن شكرالنعمة الإلهية المحافظة عليه وصيانته، لكن الممارسات اللاإنسانية تجاه البيئة المحيطة بالإنسان، والتي خلقها الله تعالى بأبهى جمال وتوازن وانسجام، تتناقض مع هذا المبدأأو الواجب. وبقدرما تزداد شراسة الإنسان في تعامله مع البيئة ضراوة وقبحا، تتفاقم المعضلات البيئية وينجم عنها اضطراب واختلال لاالتوازن الحيوي والبيئي فقط بل يترتب عليها كذلك - وهذا أمر طبيعي - اضطراب واختلال الحياة الإنسانية بصفة خاصة. لقد أكدت الشريعة الإسلامية من خلال النصوص القرآنية والحديثية والسيرة النبوية على ضرورة حفظ الإنسان للبيئة وصيانته لجمالها، حتى يعيش هووالمخلوقات التي تحيط به والتي سخرهاالله له في هناء وانسجام وظروف مريحة تساعد على بقاء النوع الإنساني والأنواع الحيوانية والنباتية الأخرى. فالكون مسخرللإنسان، ومن واجبه المحافظة على طبيعته الأصلية، فقدزود الإنسان بالعقل الذي يمكنه من التمييز بين الضاروالنافع، ومن ثم يسهل عليه أن يميزبين ما يضربالبيئة و به فيجتنبه، و بين ما ينفعها وينفعه فيفعله. والغريب أن الحيوانات والنباتات التي ليست في مرتبة الإنسان تقوم بمقتضيات هذاالتوازن البيئي والحيوي أحسن قيام، بينما بلغ من طيش الإنسان في اعتدائه على البيئة أنه خرقفي الغلاف الجوي ما يسمى بثقب الأوزون وعرض نفسه من ثم للكوارث كتاب«البيئة بين جمال خلقها وتحذيرالشريعة من إفساد طبعها»للدكتورالحسن صدقي، والذي صدرعن مطبعة النجاح الجديدة في الدارالبيضاء، معالجة رصينة لهذا الموضوع المصيري، وعرض لضوابط وقواعد حماية البيئة بجمالها وتوازنها ونظامها الطبيعي العجيب. نظرة عامة يقول المؤلف إن في خلق السماوات آيات، فيها النجوم والكواكب والأفلاك، فيها ملايين المجرات، فيها الشمس والقمر، يتحركان عبرالفلك الدوار، وبتعاقبهما يكون الليل والنهار، وبحركاتهما تتوالى الشهوروالأعوام، وعبر تواليها تفنى الأمم والعديد من الأقوام، والكل سيسأل عما فعل فيها على مدى الأيام، وسيجازى عن عمله من لدن الخبير العلام، لأن البشرمستخلف في الأرض ومسؤول عن أعماله، وكل تصرفاته في هذه البيئة المحيطة به. إن هذا الكون والملكوت خلقه الله فأحسن صنعه، بل جمله وزينه، زين السماء بالكواكب والنجوم، وزين الأرض بالشجر والأزهار، وأضاء الشمس وأنارالأقمار، وأخرج الحب والشجروالفواكه، وجعل منها طعاما للإنسان، وأنبت البقل والعشب وكل غداء للحيوان، وبما أن حياة الإنسان مبنية على ما تنبته الأرض وما يخرج منها، ولا غنى للإنسان والحيوان عن النبات، أمرالرسول صلى الله عليه وسلم الناس بغرس الأشجاروإحياء الموات، فقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» . هذه شريعتنا تأمربالإعماروالتعمير، وغرس الأشجارورعاية التشجير، حتى تصبح الأرض مخضرة كما أراد لنا العليم الخبير، من هذا المنطلق جاءت دعوة الشريعة الإسلامية إلى رعاية البيئة، والمحافظة عليها من الفساد والإفساد، بل أرشدتنا إلى الطريق السليم للا ستفادة منها والا ستمتاع بخيراتها، من غيرإفراط ولاتفريط،لأن الإفراط والتفريط خرق لتوازن البيئة، وهدم لنظام طبيعتها، وهدرلمدخراتها، وإذا ما حصل فيها الخرق والهدر فسدت الحياة، وضاقت بالناس كل الفضاءات وربما كان ذلك من أسباب التهالك أو المهلكات. قسم المؤلف هذا الكتاب إلى الفصول الآتية: الفصل الأول: وحدة الخالق وجمال الخلق وفيه تمهيد، وثلاثة مباحث وفي كل مبحث عدد من المطالب، المبحث الأول: الخلق والخالق، المبحث الثاني: تسخير الكون للإنسان، المبحث الثالث: جمال الإنسان والبيئة، المبحث الرابع: الكون خلق محكما وبتقديرمتوازن . الفصل الثاني: الفساد والإفساد في البيئة، وفيه خمسة مباحث، المبحث الأول: العصيان بسبب الحرمان، المبحث الثاني: الإفساد في البيئة، المبحث الثالث: الغلاف الجوي أوالهواء وما يتعرض له من إفساد،المبحث الرابع: إفساد المأكولات والمشروبات، المبحث الخامس: العبث بالدواب . ويتمحورالفصل الثالث حول علاج البيئة والمحافظة عليها، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: دور العبادة في حماية البيئة، المبحث الثاني: الطهارة أناقة ونظافة، المبحث الثالث سنن الفطرة. ويتمحور الفصل الرابع حول المحافظة على البيئة من التلوث، وفيه مبحثان: المبحث الأول: النهي عن التبرزفي الماء، والمبحث الثاني: الأماكن المنهي عن تلويثها. أما الفصل الخامس والأخيرفعن الحسبة وإصدار الفتوى، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: المحتسب مراقب للمجال البيئي، المبحث الثاني: دورالمفتي والفتوى في المحافظة على البيئة، المبحث الثالث: تلويث البيئة بالأصوات، المبحث الرابع: وسائل العلاج. البيئة خلقت محكمة وبتقدير متوازن ونود أن نقف هنا عند ما كتبه المؤلف في مبحث :البيئة - أي الكون - خلقت محكمة وبتقدير متوازن، فقد جاء في المطلب الأول منه وهو بعنوان «تقديرالأقوات والأرزاق»: «يقول الله جل جلاله: «قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا، ذلك رب العالمين وجعل فيهارواسي من فوقها وبارك فيها وقدرفيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين» [فصلت] . وفي هذه الآية توضيح وبيان لما قدره الله في هذه الأرض من أقوات وأرزاق، بل بارك فيها وفيما تنتجه منذ عشرات المئات من السنين، إن لم نقل الملايين، ونتعلم من الآية أن من أراد أن ينجزعملا لابد له من وقت معين لإنجازه، لأن قدرة الله لا تحتاج إلى زمان، بل هي فوق الزمان والمكان، ومع ذلك أخبرنا أنه قدرفيها أقواتها في أربعة أيام، ليس ذلك عجزا منه ولكن تعليما لنا. وقد هيأ الله أسباب العيش لكل المخلوقات، فما عليهم إلا اتخاذ الأسباب والسعي لها:«وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين» [ هود]، ولو تأملنا تعبيرالقرآن بلفظ الدابة هنا لا ستخلصنا منه شيئا ذا أهمية كبيرة في حياتنا، ألا وهو الحركة والسعي في كسب الرزق، لأن لفظ دابة، مأخوذ من دب يدب دبيبا بمعنى تحرك من مكان إلى آخر، والمثل يقول: في كل حركة بركة . وفي تقديرالله لأقوات الخلق الكفاية لكل الكائنات بشرط ألا يكون الإسراف والتبذيرفي هذه المدخرات، وقوله: « وكأين من دابة لا تحمل رزقها اللله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم» [العنكبوت] . ولكن لحكمة يعلمها الله ولأمر اقتضاه، ينزل هذا الرزق بمقدارمعلوم، لأن علمه أحاط بكل شئ، فلو أغدق على الناس لربما بغواوطغوا، يقول عزمن قائل: «كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى» [العلق]، والله عز وجل لا يريد البغي ولا يحب الطغيان. ولقد أخبرنا القرآن أن كثرة الغنى قد تكون سببا في الطغيان والبغي، وصرح بذلك في محكم تنزيله فقال:«ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرما يشاء إنه بعباده خبير بصير» [ الشورى] . ولعل في ذلك تعليم لنا وتنويرلتصرفاتنا، حتى لا نستهلك أو نستنزف كل مدخراتنا من الثروات المخبأة في باطن الأرض والثروات التي على ظهرها». وفي المطلب الثاني الذي تحدث فيه المؤلف عن تقديرالزمان ذكر قول الله تعالى:«والله يقدرالليل والنهار»[المزمل]، فتقديرالليل والنهارمن الدلائل على عظمة الله وقدرته، حيث مرعلى وجود ذلك ملايين السنين . وصدق الله العظيم الذي يقول: «الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا» [الفرقان]، والقرآن يحدثنا عن تقديرالزمان وضبط حركاته. قال الله تعالى: «الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان» [الرحمان] . فهذا التوازن المتكامل الموجود في البيئة يجب على كل إنسان حراسته والمحافظة عليه، فالله عزوجل أوصانا أن نقيم الوزن، وأن لا نخسر الميزان، لأن الميزان به تقاس الأوزان، فإذا ما اختل الميزان اختل الموزون. ويتسبب ذلك في اختلال التوازن. وما دوران الشمس والقمرعبرالفلك ليل نهار، إلا من أجل تقديرالزمان، قال الله تعالى:«هو الذي جعل الشمس ضياء والقمرنورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق، نفصل الآيات لقوم يعلمون» [ يونس] . التوازن في كل مظاهر الحياة ويتناول المؤلف في المطلب الثالث موضوع التوازن في كل مظاهر الحياة ويستهله بقول الله تعالى: « والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون» [الحجر] . ومن الأدلة العلمية على أن كل شئ مقدرموزون نسبة النيتروجين والغازات الأخرى، كل هذا التوازن لمصلحة الإنسان ولصلاحه وصلاح بيئته، ولكن نظرالكثرة الغازات التي تنفثها المعامل والمصانع والحافلات، بدأ هذا التوازن يختل وظهر ضرره على العام والخاص بنسب مختلفة. و زود الله البيئة بكل الأسباب الطبيعية لخلق توازن دائم، فإذا ما ابتعد البشرعن التدخل في مسارها، حافظت على توازنها، قال أحد الباحثين: الا تزان البيئي «ديناميكي وليس ثابتا، فإذا كثرالحيوان فإنه يستهلك العشب أكثر، فيقل العشب فتهلك بعض الحيوانات ثم يعود التوازن للعيش وهكذا» . البيئة المائية أكثر اتزانا من اليابسة، لكن تدخل العوامل الخارجية أحدثت فيها تغييرا ملحوظا وأثرا سلبيا على الأحياء البحرية، وتعدى ذلك إلى الحياة البرية، وأكبر دليل يمكن الا ستدلال به هو ما أحدثته حرب الخليج على البيئة البحرية والبرية، بل على الكون برمته، فالله خلق البيئة صالحة مهيأة للعيش وقدر فيها كل ما يسعد الإنسان ، ولكن عبث العابثين وتفكير المستبدين لم يترك الخلق كما خلق ، فأحدثوا دمارا ، ومن الدلا ئل على توازن الكون الذي خلقه الله من أصغر ذرة فيه حتى آخر مجرة، لنأخذ عنصرا من عناصرهذه البيئة ولنقارن بين النسب الموجودة في بعض الفواكه والخضروات، بعد البحث والتنقيب والمقارنة توصل العلماء إلى أن عناصرالكون متوازنة في حركاتها ومواد تركيبها، لنأخذ عنصرا من عناصرتكوين مجموعة من النباتات، وهذا العنصرهو البوتاس الذي يدخل في حبة الدرة وفي قصب السكروفي البطاطس بمقادير معينة، وبهذه النسب المتفاوتة صلح كل منها لأن يكون له ذوق خاص بعضه يستسيغه الإنسان، وبعضه لا يستسيغه إلا الحيوان، وبعضه يصلح لهما معا كما قال محمد كمال عبد الصمد في كتابه «الإعجاز العلمي في الإسلام» فجميع ما خلق الله له حكمة علم ذلك من علمه أو خفي عن من جهله، قال تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا فقنا عذاب النار} [ آل عمران] . وأشارالمؤلف في المطلب الرابع من هذا الفصل إلى أن توازن البيئة ليس على الدوام بل له نهاية إذ خلق التوازن في البيئة هومن صنع الله تعالى، والذي صنعه أخبرنا أن ذلك ليس على الدوام، وإنما يدوم إلى أجل مسمى: { ولكم في الأرض مستقرومتاع إلى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [ الأعراف] . فكل هذا التوازن وهذا التفاعل والتجاوب مع البيئة يعيش في تناغم مع حياة الناس وتطلعاتهم ، ولكن إذا ما بدلوا أو غيروا في منهج الله، إما بالإسراف أوالتبذيرأوالعبث في هذه البيئة ، فإنها تتمرد عليهم وتصبح وبالا بعد ما كانت أمنا وسلاما، وقصص القرآن عن الأمم السابقة خيرشاهد على ذلك، فقد تحدث القرآن عن قصة سبأ وما هيأ الله لها من النعم ولكن لما أعرضوا عن منهج الله تغير كل شئ قال تعالى: «لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفورفأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدرقليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلا الكفور » [ سبأ] . لأن الله عز وجل لا يغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالتغييرقد يكون إلى الأعلى وهو الأحسن، وقد يكون إلى الأسفل، وهو الأخبث والأخشن . الكون يتجاوب مع المطيع ويذلل له، ويدمرالعاصي بأمرالله وينفر منه، والدليل قوله تعالى: «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بماكانوا يصنعون» [ النحل] . وعندما ينسى الإنسان أو يتناسى نعمة الله فقد يتعرض بسبب ذلك للدماروإن كان ما يتراأى له في الظاهر خير ، قال الله تعالى: «فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون» [الأنعام] . ومن أجل المحافظة على نعم الحياة الدنيا، لا بد من شكر المنعم عليها، ولا بد من توظيفها في ما يصلح البلاد والعباد ، فمن سعى لتحقيق الشكرأغدق الله عليه بمزيد الفضل، وأسعده في الدنيا والآخرة وجعله من المصلحين، فالدار الآخرة والفوزبنعيمها لا يكونان إلا للذين يصلحون في الأرض ولايفسدون، قال تعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا» [القصص] . آثار الإفساد في الأرض على البيئة وعلى الإنسان فالفساد في الأرض والإفساد فيها قد يعرض البشرللخطر فتصبح هذه البيئة متمردة -بعد أن كانت مسخرة مسالمة - عن طاعة الإنسان ومتحدية له لما فعله من فساد وعصيان، وكلنا نعلم أن في البيئة من جنود الله ما لا يحصى عددا، فالرياح قد سخرها الله تجري بأمره رخاء، والقرآن يتحدث عن أهميتها وسرعتها بل كانت تعتبر السرعة القصوى قبل هذه التطورات الحديثة، قال الله مخبرا عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام: «فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب» [ص] . هذه الريح التي كانت رخاء لينة سهلة بتسخيرالله، هي نفسها قد أصبحت مهلكة مدمرة لمن اعتدى وطغى وخرج عن الطاعة، يقول الله عزو جل: «وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم» [الذاريات]، وقال أيضا: «وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية » [الحاقة] . بل أصبحت هذه الريح مخربة بعد أن كانت تحمل البشرى والغيث : « تدمر كل شئ بأمرربها » [ الأحقاف] . وهذا الماء الذي كان ينزل غيثا للسقي والشرب قد يصبح وبالا وخسرانا، والقرآن يحدثنا عن قوم نوح، قال تعالى: «فدعا ربه أني مغلوب فانتصرففتحنا أبواب السماء بماء منهمروفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدرفحملناه على ذات ألواح ودسرتجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر» [القمر] . إذا كان القرآن أخبرنا عن مآل الفساد والمفسدين، و ما نالوا جزاء أعمالهم ، وحذرنا أن نسلك مسلكهم، ترى هل استجبنا أم قصرنا ؟ ذلك ماتحدث عنه المؤلف في الفصل الثاني حيث بين أن العصيان يسبب الحرمان وأوضح أن الفساد نوعان: فساد تبذيروفساد عبث، فساد التبذيريكون في استهلا ك المواد والمدخرات الطبيعية من أجل الحصول على الأموال والثروات بغية المتعة واللذة التي تفوق الحد المطلوب والمسموح به شرعا . وفساد العبث هو إتلاف الأشياء، ويفعله الإنسان ليس بقصد الا نتفاع به، بل يفعل ذلك لغيرفائدة منه ترجى، كاتخاذ الطير هدفا للقتل، أوإتلاف المنتجات الزراعية بغية الحفاظ على الأسعار، وكلاهما - أي فساد التبذيروفساد العبث - محرم منهي عنه شرعا وقدم المؤلف أمثلة لكل منهما. ومما يدخل في هذا الإطار حديث المؤلف عن الغطاء النباتي والغابات، حيث إن الغطاء النباتي بمختلف أحجامه وتنوع إنتاجه له من الفوائد ما لا يحصى، منها الغداء والدواء. والنباتات تحمي من انجراف التربة وتحافظ على تلطيف الجو، وفي مخلفاتها سماد للأرض ووقود للتدفئة وطهي الطعام، بل إن هناك ما هو أعظم مما يرى . فقد أثبت العلم الحديث أن الغلاف النباتي يساهم بشكل كبيرفي تنظيف الجو البيئي وتخليصه من غازات سامة، فهو يهضم - أي يستهلك- الغازات السامة وينتج الأكسجين الذي يساعد على استمرار الحياة . ففي غرس الأشجار والنبات جمال للبيئة وسرورللناظرين، ولهذا يجب أن نوجه عنايتنا للإكثارمن الحدائق وصيانتها، والحفاظ على أشجارالغابات والمحافظة على عدم تلا شيها واندثارها. ولكن ما نسمع به ونشاهده عكس ما نريده، فلنستمع إلى بعض المسؤولين في بعض الدول قال: «هناك استنزاف للغابات في البرازيل حيث عبروزيرالبيئة هناك عن أسفه لما يحدث للفضاء النباتي من تحويله إلى صناعة ورق، ليس القصد منه استعماله في ما ينفع الأمة ولكن القصد منه الترفيه بنشر صورتافهة وكتابات ترفيهية وهي أكوام من الأوراق تشبه الجبال» ويقارن المؤلف بين تشريعات فقهائنا وما قدموه من أحكام تتعلق بالحفاظ على العهود والا تفاقيات بين الأفراد والجماعات وبين ما يرتكبه الإنسان اليوم من فظاعات. قال ابن رجب فصل«ولو أخذ الأرض للزرع فبنى فيها فعليه الخراج» ذكره القاضي في الأحكام السلطانية، وقال وهو ظاهر كلام أحمد، وقال أيضا: «إذا أخذنا أرضا بخراجها للزرع فمضت مدة الزرع ولم يزرع وجب عليه الخراج» [كتاب الا ستخراج لأحكام الخراج] . إذا تأملنا هذ االحكم الفقهي الذي قدمه ابن رجب حول الزراعة والمزارعة وما يجب على من أخل بالتزامه حولها، وقارناه بما وقع أوتحدث عنه بعض المسؤولين البرزيليين حول الغابات وما أصابها من تدميرسيظهر لنا أن الفرق شاسع بلا مجال للمقارنة لأن الفقهاء يتحدثون عن مشاريع لم توجد بعد، وهؤلاء يدمرون مشاريع قائمة الذات، بل هي من صنع الله ولا بد للبشر في إيجادها، وكان من الواجب عليهم الحفاظ عليها، ولكنهم على العكس من ذلك يسعون في تخريبها وتبديد خيراتها.