قبل 18 سنة قمت بإعداد وإخراج مسرحية بعنوان «باي باي عرب»، من ضمن المشاهد التي كانت تتضمنها المسرحية جلسة محاكمة لأحد المناضلين بتهمة تافهة من جنس تلك التهم التي تكيلها الأنظمة الديكتاتورية لمواطنيها ممن ينشدون الحرية، المشهد كان غاية في الجدية حيث كان البناء الدرامي وطبيعة الشخصية والقضية المتابع بها تقتضي ذلك..عندما كان القاضي ينادي على الشهود وينطق عون المحكمة « شاهد عيان «، كان الممثل أنس مشراوي الذي كان يلعب دور الشاهد وبحسه الفكاهي وفي اللحظات التي نشعر فيها بالتعب في التداريب، يحور كلمة عيان من الفصحى إلى الدارجة المغربية، فيباشر خنق عون المحكمة بتهمة السب فننفجر جميعا ضاحكين... تذكرت هذه الحكاية وأنا أطالع مساء أول أمس الصحف الصادرة يوم الخميس، وقد لفت انتباهي أن ثلاث جرائد يومية تحدثت عن الحلقة الأخيرة من برنامج « قضايا وآراء « الذي يبث على القناة الأولى ويعده ويقدمه الصحفي عبد الرحمان العدوي، وقد كان كاتب هذه السطور واحدا من ضيوف الحلقة التي ناقشت الدخول السياسي وعددا من القضايا التي طرحت للنقاش بين الأحزاب السياسية في الأسابيع القليلة الماضية وتعرض حاليا على دورة استثنائية للبرلمان، وكعادة البرامج السياسية التي تجمع قوى سياسية مختلفة كان النقاش يحتد في بعض اللحظات بين ضيوف الحلقة وهو أمر عادي في جميع القنوات في العالم، المهم هو أن حدت النقاش لم تتخذ طابعا شخصيا خاصة تلك التي جمعتني مع ممثل الأصالة والمعاصرة أو تلك التي جمعت هذا الأخير بالسيدة بسيمة الحقاوي من حزب العدالة والتنمية، حيث بقي الجميع في دائرة الدفاع عن مواقفه السياسية وتقييمه للأداء السياسي للطرف الآخر ولم تستعمل قط أية عبارات أو ألفاظ يمكن أن تكون مسيئة للنقاش السياسي، بل على العكس من ذلك كان السجال صريحا وبدون مساحيق ودون مجاملات كاذبة، وقدم الواقع كما هو وليس بصفة مصطنعة خادعة وماكرة تستبلد المشاهدين اللذين بمقدورهم وحدهم الحكم على ما راج في الحلقة. بعض من يكتبون بصفتهم صحافيين في جرائد يومية ونظرا للضحالة الفكرية والمهنية التي لا يحسدون عليها، لم يثرهم في نقاش استمر زهاء ساعة ونصف، سوى دقيقة أو دقيقتين من سجال بيني وبين السيد بنعزوز من الأصالة والمعاصرة، قلت فيه تعليقا على ما اعتبرته مغالطات للمشاهدين، أن حزب الأصالة والمعاصرة كان يحمل مشروعا خطيرا على المغرب، وأننا نحمد الله أن التحولات التي عرفها محيطنا في شمال إفريقيا والعالم العربي أعلنت بشكل واضح عن سقوط هذا النموذج الذي كان ينظر له رفاق الهمة خاصة النموذجين التونسي والمصري، وهي مواقف كتبتها وصرحت بها في أكثر من مناسبة لأكثر من وسيلة إعلامية، وأن نموذج الحزب الأغلبي فشل في المغرب منذ تجربة « الفديك « في بداية الستينات مع رضا جديرة، وفشلت بعده كل تجارب الأحزاب الإدارية التي خلقت لتلعب دور الحزب الأغلبي...كل هذه المواقف لم تلفت إنتباه بعض « الصحفجية « بتعبير أحمد فؤاد نجم، وبدل ذلك تم خلق أوهام وأحداث لا توجد سوى في مخيلة هؤلاء « الصحفجية « ومنها ما كتبه صحفي يدعى صفر (...) في الصفحة الأولى لجريدة « الصباح « : « تحول نقاش حول الدخول السياسي في برنامج « قضايا وآراء « ، مساء أول أمس ( الثلاثاء ) إلى شجار وتشابك بالأيدي خارج « البلاطو « بين أنصار ممثل حزب الاستقلال وأنصار ممثل حزب الأصالة والمعاصرة « ويضيف نفس الصحفي في نفس المادة وبشكل يتناقض مع الفقرة السابقة ما يلي : « وكاد الشجار يتطور إلى تشابك بالأيدي بين أنصار « البام «، الذين ينتمي غالبيتهم إلى شبيبة الحزب، وأنصار حزب الاستقلال ...» فماذا سيصدق القارئ هل الفقرة الأولى أم الفقرة الثانية أم أن صاحبنا « كايحسن باللي كاين « وهذا باختصار يعني الدرجة الصفر من المهنية، ولم يكتف صاحبنا بهذه التفاهات بل إمتد خياله وجنح به بعيدا، حيث استدعى بنفسه رجال الأمن لفك الاشتباك بالأيدي الذي حصل في الفقرة الأولى لذلك الشيء الذي كتبه ...ولإضفاء بعض من الإثارة على ذلك الشيء الذي تورطت جريدة محترمة ك» الصباح « في وضعه في صدر صفحتها الأولى وكأنها وضعت يدها على سبق صحفي ، تحدث السيد صفر(...) عن تدخل إدارة الفندق وطرد حراس الأمن الخاص بالفندق ورجال الأمن لأنصار الحزبين، ولم ينس الحديث عن نزلاء الفندق المساكين اللذين تعرضوا للإزعاج من الاشتباكات بالأيدي التي كادت أن تحصل كما جاء في الفقرة الثانية مما ارتكبه السيد صفر(...) في « الصباح « ، جريدة « الأحداث المغربية « حسمت الموضوع من العنوان الذي جاء كالتالي « بعد النقاش..الملاكمة»، لكن ما يخفف من حدة ما كتبته الصحفية « فطومة « في الصفحة الأولى « للأحداث المغربية «، هو أنه وضع في ركن باسم « قصة اليوم « وككل القصص بصفتها إبداعا فإنها تعتمد على الكثير من الخيال، والخيال حق لأصحابه ومنهم فطومة التي بدأت شيئها المكتوب بمايلي : « امتدت الأيدي إلى خناق الطرفين أنصار حزب الأصالة والمعاصرة وأنصار حزب الاستقلال . لم تكف الشتائم والسب كي تشفي غليل المتشابكين، الذين حضروا أمس لبرنامج « قضايا وآراء « برفقة ممثليهما اللذين تدخلا خلال البرنامج «، لتعود في نهاية الشيء الذي كتبته وعلى نهج زميلها صفر من « الصباح « لتقول « ...وبمجرد انتهاء الحلقة، كان أنصار كلا الحزبين، الذين حضروا للبلاطو، وبحسب ما نقله شهود عيان، قاب قوسين أو أدنى من التشابك بالأيدي «، فبين الفقرة الأولى لفطومة التي امتدت فيها الأيدي إلى خناق الطرفين وبين الفقرة الثانية التي كان فيها التشابك بالأيدي قاب قوسين أو أدنى، ضاعت الحقيقة والمهنية، وأصبح من حقنا التساؤل عن طبيعة الإعلام الذي يواكب تطور الحياة السياسية ببلادنا، وهل يساهم فعلا في الرقي بالنقاش السياسي وبدفع الناس إلى الاهتمام بمفاصل التطور الديمقراطي والانخراط في قضايا الشأن العام؟ أم يشتغل على التفاهات والجزئيات والهامش بل لا يكتفي بذلك ويعمد إلى خلق الأوهام ويصورها في صورة أحداث ووقائع، « بكتابات « تثير الشفقة وتسيء إلى منابر إعلامية تتوفر على كفاءات نادرة يمكن أن تكون قيمة مضافة للتطور الديمقراطي ببلادنا؟ لكن لحسن الحظ أن هناك صحافيون يجتهدون في تحقيق المهنية، وهنا لا بد من إعطاء نموذج الصحفية حليمة أبروك من جريدة « أخبار اليوم « التي تناولت نفس الموضوع الذي تناوله السيد صفر والسيدة فطومة، لكن بفارق شاسع من حيث المهنية، حيث عمدت الصحفية حليمة أبروك إلى تقديم وجهتي نظر الطرفين وروايتهما لما حدث بعد البرنامج، وبغض النظر عما قاله السيد بنعزوز وهو مجانب للحقيقة، فإن الصحفية قدمت وجهتي نظر واعتمدت على مصادرها الخاصة، لتحرر مادة صحافية مقبولة جدا من الناحية المهنية. طيب.. ما ذا حصل بالضبط ؟ الذي حصل هو أن أحد أنصار الأصالة والمعاصرة، وفي لحظة مغادرة القاعة تلفظ بألفاظ غير مقبولة نتيجة للغضب وعدم تحمل الانتقادات التي وجهت لحزبه خلال أطوار البرنامج، فما كان من أحد مناضلي الشبيبة الاستقلالية سوى أن طلب من المعني بالأمر قليلا من الاحترام، وأن النقاش كان في الأستوديو وقد انتهى البرنامج، هذا الأمر استمر لثواني أمام باب القاعة / الأستوديو وانتهى الأمر على هذا النحو دون تدخل لا من الأمن الخاص ولا من الأمن العمومي، أما الشاهد الذي اعتمد عليه صفر وفطومة، فهو ما ينطبق عليه اللفظ المغربي الدارج شاهد « عيان «.