تغير مفاجئ.. هكذا نشرت قناة "فرنسا 3" خريطة المغرب    فلقاء الخطاط مع وزير الدفاع البريطاني السابق.. قدم ليه شروحات على التنمية وفرص الاستثمار بالأقاليم الجنوبية والحكم الذاتي    مجلس المنافسة كيحقق فوجود اتفاق حول تحديد الأسعار بين عدد من الفاعلين الاقتصاديين فسوق توريد السردين    برنامج "فرصة".. عمور: 50 ألف حامل مشروع استفادوا من التكوينات وهاد البرنامج مكن بزاف ديال الشباب من تحويل الفكرة لمشروع    الغالبية الساحقة من المقاولات راضية عن استقرارها بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    أول تعليق من الاتحاد الجزائري على رفض "الطاس" طعن اتحاد العاصمة    جنايات الحسيمة تدين "مشرمل" قاصر بخمس سنوات سجنا نافذا    خلال أسبوع.. 17 قتيلا و2894 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية    نشرة إنذارية.. أمطار قوية أحيانا رعدية مرتقبة بتطوان    طابع تذكاري يحتفي بستينية السكك الحديدية    مقتل فتى يبلغ 14 عاماً في هجوم بسيف في لندن    الأمثال العامية بتطوان... (586)    المهمة الجديدة للمدرب رمزي مع هولندا تحبس أنفاس لقجع والركراكي!    نقابي: الزيادة في الأجور لن تحسن القدرة الشرائية للطبقة العاملة والمستضعفة في ظل ارتفاع الأسعار بشكل مخيف    الدوحة.. المنتدى العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان يؤكد على ضرورة الالتزام باحترام سيادة الدول واستقلالها وضمان وحدتها    محطات الوقود تخفض سعر الكازوال ب40 سنتيما وتبقي على ثمن البنزين مستقرا    لأول مرة.. "أسترازينيكا" تعترف بآثار جانبية مميتة للقاح كورونا    هجرة/تغير مناخي.. رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا يشيد بمستوى التعاون مع البرلمان المغربي    من يراقب محلات بيع المأكولات بالجديدة حتى لا تتكرر فاجعة مراكش    في عز التوتر.. المنتخب المغربي والجزائري وجها لوجه في تصفيات المونديال    ليفاندوفسكي: "مسألة الرحيل عن برشلونة غير واردة"    بلينكن يؤكد أن الاتفاقات الأمنية مع السعودية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل شبه مكتملة    مساء اليوم في البرنامج الأدبي "مدارات" : المفكر المغربي طه عبد الرحمان.. بين روح الدين وفلسفة الاخلاق    ستة قتلى في هجوم على مسجد في هرات بأفغانستان    وزارة الاقتصاد: عدد المشتركين في الهاتف يناهز 56 مليون سنة 2023    توقيف نائب رئيس جماعة تطوان بمطار الرباط في ملف "المال مقابل التوظيف"    دل بوسكي يشرف على الاتحاد الإسباني    مساعد الذكاء الاصطناعي (كوبيلوت) يدعم 16 لغة جديدة منها العربية    تعبئة متواصلة وشراكة فاعلة لتعزيز تلقيح الأطفال بعمالة طنجة أصيلة    الدورة ال17 من المهرجان الدولي مسرح وثقافات تحتفي بالكوميديا الموسيقية من 15 إلى 25 ماي بالدار البيضاء    مقاييس الأمطار بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    استهداف المنتوج المغربي يدفع مصدرين إلى التهديد بمقاطعة الاتحاد الأوروبي    توقيت واحد فماتشات البطولة هو لحل ديال العصبة لضمان تكافؤ الفرص فالدورات الأخيرة من البطولة    تم إنقاذهم فظروف مناخية خايبة بزاف.. البحرية الملكية قدمات المساعدة لأزيد من 80 حراك كانوا باغيين يمشيو لجزر الكناري    "الظاهرة" رونالدو باع الفريق ديالو الأم كروزيرو    الريال يخشى "الوحش الأسود" بايرن في ال"كلاسيكو الأوروبي"    "أفاذار".. قراءة في مسلسل أمازيغي    أفلام بنسعيدي تتلقى الإشادة في تطوان    الملك محمد السادس يهنئ عاهل السويد    ثمن الإنتاج يزيد في الصناعة التحويلية    صور تلسكوب "جيمس ويب" تقدم تفاصيل سديم رأس الحصان    دراسة علمية: الوجبات المتوازنة تحافظ على الأدمغة البشرية    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و535 شهيدا منذ بدء الحرب    التنسيق الوطني بقطاع الصحة يشل حركة المستشفيات ويتوعد الحكومة بانزال قوي بالرباط    فرنسا تعزز أمن مباني العبادة المسيحية    العثور على رفاة شخص بين أنقاض سوق المتلاشيات المحترق بإنزكان    عرض فيلم "الصيف الجميل" للمخرجة الإيطالية لورا لوتشيتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    فيلم من "عبدول إلى ليلى" للمخرجة ليلى البياتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    "النهج" ينتقد نتائج الحوار الاجتماعي ويعتبر أن الزيادات الهزيلة في الأجور ستتبخر مع ارتفاع الأسعار    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    توقعات طقس اليوم الثلاثاء في المغرب    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى الأربعين: لأستاذ الجيل وأحد بناة النهضة الفكرية والعلمية في العالم العربي عبد العزيز بنعبد الله
نشر في العلم يوم 16 - 03 - 2012

في يوم الذكرى الأربعينية (5 فبراير2012 /16 مارس 2012) لفقيد الوطنية والفكر والثقافة الأستاذ البحاثة عبد العزيز بنعبد الله، نخصص حديث الجمعة لهذه الشخصية التي طبعت قرنا من البحث والفكر والإنتاج العلمي أستاذا ومحاضرا وباحثا وكاتبا ومدرسا وإعلاميا.
لقد كان الفقيد رحمه الله بمثابة مؤسسة علمية للبحث قائمة بذاتها، وكان بجانب ذلك رجل التعبد والذكر، والغوص في المعاني والأسرار، على غرار رجال التصوف الأولين، الذين لم يشغلهم ما هم فيه من انشغال في محراب العلم والفكر من ملئ محراب السجود والذكر.
وكان رحمه الله من بناة النهضة الفكرية والعلمية وله في كل مجال نصيب. هذا بجانب قيامه بدوره الوطني والسياسي في أحرج الظروف وأدقها. رحمه الله وتقبل منه
طموح وتساؤل
كان ذلك في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي عندما كنا مجموعة من التلاميذ الشغوفين بحب الاطلاع، وكنا نبحث ونسأل عن قضايا فكرية وشخصيات وأعلام منتحيين للأدب وللفكر من المغاربة، وكنا نشرئب بأعناقنا شرقا وغربا نبحث عن هؤلاء، ولم تكن الشخصيات الفكرية والأدبية المغربية معروفة لدينا إلا بعض الأسماء الذين لم يتجاوز أصحابها أصابع اليد الواحدة فيهم البعض ما كتب باللغة الأجنبية بل إننا نشك حتى في وجودها، لأنه لا صحافة تنير الطريق بما تنشره لهؤلاء ليطلع عليه الناس، ولا مجلات فكرية وأدبية ولا دور نشر للنشر وإنما خرجنا جميعا من سجن الحماية الواسع العريض سواء من كان وراء جدران السجن وقضبانه، أو من كان خارج ذلك دون أن نجد أمامنا سوى مجلات آتية من لبنان أما في مصر في تلك المرحلة فإن وزارة الإرشاد القومي المصرية السورية لا تسمح بما كان يمكن أن ينسجم مع طبيعة توجهاتنا وتطلعاتنا الفكرية، وما يأتي من لبنان وبصفة خاصة مجلات –الأدب- العلوم الأديب فكان لها توجه خاص فيما تنشره وتوجه إليه.
بداية الطريق
وإذا كان ما انعم الله به على المغرب وما حققه من نصر بفضل جهاد أبنائه ومقاومتهم قد فتح لنا نافذة ولو صغيرة لنطل منها على بعض الشخصيات الأدبية المغربية شعرا على الأقل بمناسبة قصائد تنشر أو تذاع في موضوع الترحاب برجوع محمد الخامس والتغني بالمقاومة وأبطالها، فإننا استطعنا في نفس السياق أن نتعرف على بعض الشخصيات الآتية من الشرق للتهنئة ونستمع إلى خطب مرتجلة وقصائد رصينة بل ومحاضرات فكرية رفيعة لنعرف بعد ذلك ان علال الفاسي شاعر وأديب ومفكر ونتعرف من خلال ما تنشره “العلم” و “الرأي العام” على بعض الأقلام في كتابة القصة القصيرة وهي في نظرنا لا تعدو ان تكون محاولات وعلى أي حال ففي هذا الجو من الشح لوجود مصادر ومراجع عن الأدب المغربي والفكر المغربي والفقر المعرفي بالأدب المغربي بالنسبة لنا حديثه وقديمه وعلى الشخصيات الفكرية المغربية لأن حتى ما كان موجودا من الأبحاث والكتب مثل النبوع المغربي كان ممنوع التداول بالمغرب تعرفت شخصيا على اسم هذا الرجل الذي كان نسيج وحده في كتاباته وفي طريقة التناول للموضوعات التي يختار الكتابة فيها، ولكني أتيح لي بعد ذلك في أثناء الالتحاق بالكلية أن أتصل مباشرة بهذا الإنسان وهو يدرسنا الثقافة والفكر الإسلاميين أو إن شئت الدقة الحضارة الإسلامية فعرفت من خلال ذلك مدى العمق الذي يستمد منه معارفه وأفكاره.
الاستيعاب والاستحضار
نعم لقد وجد الرجل يملك ملكة الاستيعاب، والقدرة على التعامل مع المراجع والمصادر بشكل نادر، بالإضافة إلى قوة الإيمان بالله وبالإسلام، وبدور التجربة الروحية أو التصوف السني المرتبط في نفس الوقت بالالتزام باتخاذ منهجا معينا في الذكر، ولا أذيع سرا إذا قلت أنني مع إعجابي بالرجل ومنحاه الفكري والتعبدي فإنه كان لدي تساؤل لماذا هذه الطريقة أو غيرها بالنسبة لإنسان هذا مستواه الفكري والعلمي قد يكون هذا مقبولا من المثقفين ومن العلماء التقليديين، إما أن يكون خريج جامعة حديثة وإنسان على صلة بالثقافة الحديثة من معيها بالشكل الذي كان عليه الرجل فهذا أمر ألح على في السؤال لماذا؟
تساؤل قديم
وهذا السؤال في الواقع إنما يعبر عن الروح التي كانت سائدة لدى الكثير من الطلبة مثلي بتأثير من المحيط الثقافي والعلمي الذي كنا نعيش فيه بل إن الفقيد قد كتب فصولا متعددة عن التصوف سواء في مجلة (اللسان) أو في كتابه عن (معطيات الحضارة المغربية) أو في كتابه عن (الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب) وحلل كذلك كتاب (شفاء السائل) لابن خلدون ونشر ذلك في مجلة (رسالة المغرب) في سلسلة أبحاث، كما أشار إلى ذلك في فصل مصادر التصوف المغربي، وفي شأن الطرقية كتب يقول:
(أن قضية الطرقية و المشايخ والزوايا قد شغلت الرأي العام منذ القرن الثامن بصورة خاصة كما نبه على ذلك زروق في قواعده وقد بلغت القضية مبلغا أدى بابن خلدون نفسه إلى تصنيف كتاب في التصوف سماه (شفاء السائل لجملة مسائل) ص:136 .
لذلك فإن الناس لا يزالون ينظرون إلى الطرق وأربابها بتأثير من هذا التراكم التاريخي أو بتأثير سلوك بعض أرباب الطرق ومشايخها أثناء الكفاح ضد الاستعمار، والواقع أن الفقيد نفسه رحمه الله أشار إلى الموقف من الطرقية في فصل من الفصول التي عقدها للتصوف في كتاب (معطيات الحضارة المغربية).
الإيمان والثقة بالنفس
ولم تمتد نظرتنا إلى الجانب الآخر من الأمر حيث كان هناك مشايخ وأرباب الطرق هنا وهناك يقاومون الاستعمار ويفضحون أساليبه ومكره، ولعل الأمر يكون أكثر دلالة من ذلك حول التصور الذي كان عند مشايخنا ونتأثر به نحن والقصة مرتبطة بهذا الأساس فقد بلغني من أحد الأساتذة أن أحد كبار العلماء في ذلك الوقت اجتمع مع الفقيد وهو مدير التعليم العالي وحدثه الفقيد عن التعليم الإسلامي الأصيل وضرورة النهوض به بروح متعاطفة ومؤمنة بالدور الأساس لهذا التعليم ففاجأه ذلك وقال لمحدثه ان من بين هؤلاء المتفرنجين أناسا إسلامهم عميق وإيمانهم قوي، لقد نقلت هذه الحادثة لأقول أن هذا الإنسان المؤمن والذي تغمره الثقة بالنفس كان يؤثر بقوة إيمانه وبثقافته واتساعها وعمقها ومنهج الرجل وسيرته بعد ذلك أكدا هذا الانطباع الأولي الذي يكونه الإنسان حول الرجل وتوجهه الفكري والعقدي.
الغوص في المعاني والأسرار
لقد أحسست بهذه الخواطر والمشاعر وأنا أمسك القلم للحديث عن هذا الإنسان الذي فقدناه، وعن هذا العالم الذي فقدته مقاعد الدرس ومدرجات الكليات، وعن هذا الصوفي الذي يغوص في بحار الأنوار والتجليات وعن هذا المتعبد في محرابي العلم والصلاة، والذكر والفكر، هذا الإنسان الذي جمع بين تتبع العلماء والأدباء والمفكرين فيما سطروه في الطروس والدفاتر، وما ينم عنه ذلك من الإيمان ومحاولة تجاوز الحجب لمحاولة إدراك الأسرار وحقيقة المعاني، ولعل مما يعبر عن ذلك ومن بواكر تأليفه كتابه عن (الفلسلفة والأخلاق عند ابن الخطيب) وهو عند تناول الموضوع اتجه مباشرة إلى هذا الجانب الصوفي من إنتاج ابن الخطيب الذي افرغ فيه توجهاته في تناول الأخلاق، فالتصوف سلوك وأسرار وبذلك فإن الفقيد عندما يحدثنا عن مصادر ابن الخطيب في موضوع الفلسفة الأخلاق يقول:
التصوف والأخلاق
«لا يمكننا أن ندرس نظريات ابن الخطيب في الأخلاق دون أن نربطها ربطا محكما بنظرياته في التصوف لما بين هذين الشعبتين الفلسفيتين من اتصال وثيق في مؤلفات ابن الخطيب لاسيما منها «روضة التعريف بالحب الشريف» حيث حشر «علم التخلق وطريق الصوفية» في حلقة واحدة لدى ترتيبه للعلوم وما بالك برجل يستمد وجهته الخلقية ويدعم نظرياته في السلوك الفردي والاجتماعي بأقوال الجنيد والحسن البصري والشافعي وعبد الله بن سهل وإبراهيم بن أدهم وأبي نصر السراج ورؤيم والحلاج وابن العريف وابن الفارض مستلهما منهم تقسيماته وترتتيبه للأحوال والمقامات الروحية التي ليست سوى باطن للمجالي الخلقية الظاهرة؟ على أن ابن الخطيب لم يكتف بالسير على غرار الصوفية الأقدمين بل استمد في نفس الوقت من الفلاسفة الأوائل وزملائهم الإسلاميين، وبالأخص الشيخ الرئيس ابن سينا الذي بلغ إعجابه به حدا بعيدا، ومن الأدباء كأبي الفرج بن خلصوم وأبي الفرج ابن الخطيب البغدادي ومن شعراء كالكتنبي في حكمياته وأبي العلاء وأبي العتاهية في زهدياتهما وقد نجد بعض آثار ذلك ظاهرا بين ثنايا كتبه» ص:21 (طبعة معهد مولاي الحسن).
منهج فكري
ان هذا الكتاب الذي طبع في سنة 1952 والذي كان الجزء الثاني من القسم الذي نال جائزة مولاي الحسن عام 1948 أي بعد عودة الفقيد من الرحلة العلمية بحوالي سنتين ومعنى هذا أنه ربما كان من بواكير تآليفه والكتاب يدل على عمق التفكير لدى الكاتب ويحدد في نفس الوقت التوجه والمنحى الذي يأخذه في حياته العلمية والعملية بعد ذلك.
ولعل أن يكون من الإجحاف بحق الرجل ونحن نسطر هذه السطور بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته الإشارة إلى أن الرجل عاش حياته بالطول والعرض كما يقال فالرجل استغل حياته واستثمرها كما يجب وكما ينبغي أن تستثمر في مجال العلم والبحث والدراسة فهو قد خدم بلاده ووطنه وأمته العربية الإسلامية بإخلاص وأقوى ما يكون الإخلاص، كما أنه أعطاها من جهده واجتهاده وعصارة فكر أوفى ما يكون العطاء، فسجله في مجال البحث والدراسة طويل وعريض وتناول بالدراسة والبحث مختلف جوانب الفكر، وأرخ لمختلف جوانب الحياة الفكرية والعلمية لهذه الأمة.
الغاية خدمة مقومات الأمة
لقد استطاع ان يستفيد من المهام المسندة إليه ليخدم هذه الأمة ولغتها وحضارتها ومنبع هذه الحضارة وأساس حفظ هذه اللغة فهو في كل عمله كان يضع أمامه ونصب عينيه خدمة الأمة وأهدافها الحضارية من خلال خدمة اللغة العربية بكل الوسائل الممكنة، ولذلك فإن الإنسان في الواقع وهو يتتبع ما وضعه من معاجم في مختلف الفروع العلمية والتخصصات الدقيقة واختيار الألفاظ والاستفادة من كل ما هو متاح في معاجم ولغات عالمية متقدمة ليجعل من اللغة العربية لغة شاملة لكل ما هو جديد من المصطلحات العلمية والحضارية حتى يكون التعريب حقيقة واقعة علما ومعجميا فإذا كان العرب في مجالات الصناعة والتقنيات لم يكونوا في مستوى هذه الخدمة المعجمية فإن المسؤولية على من بيده الأمر لإنجاز ذلك وتحقيقه إذا لم يحقق ذلك أو يسعى لإنجازه.
الطريق شاق
وقد يكون من الواجب التذكير أن الطريق لم تكن أمام الرجل مفروشة بالورد كما يقال، ولا كانت ممهدة ليجتاز منها نحو انجاز ما أنجزه، وإنما كان الرجل يشق الطريق وسط أمواج عاتية من الصعوبات والمشاكل، وتحديات كثيرة وضعها خصوم الأمة الإسلامية والعربية أمام هذه اللغة التي تحفظ للأمة وحدتها ومنبع حضارتها، ولكن الرجل بإيمانه وتفانيه في حب هذه الحضارة وسعيه الحثيث في انجاز نهضة لغوية تعيد للأمة أمجادها الحضارية كان غير عابئ بما يلاقي وما يعاني، وإنما قرر الإقدام والاقتحام فهو من صنع مدرسة الإيمان المدرسة التي لا تفرق بين الإيمان والوطنية وإنما كان بعضها يتمم البعض فهما وجهان لعملة واحدة اسمها النهضة والبناء. وهذا ما نلحظه في هذه المقدمة التي قال فيها الزعيم علال الفاسي وهو يقدم كتاب معطيات الحضارة المغربية للمسؤولين.
باعث الاستقرار
أول ما يبعث الأمة على الاستقرار في الفكر والطمأنينة في النفس ثقتها بنفسها وبكيانها وإيمانها بشخصيتها، ولذلك فان المستعمرين لا يألون جهدا في محو هذه الثقة من نفوس الشعوب التي يحتلونها ويحلون مكانها الإيمان بحضارة الأجنبي وقيمه وتفوقه على كل التراث الأهلي، فتنبيه الأمة لمعرفة تاريخها وبعث ثقتها في نفسها خير ما يدعوها إلى اليقظة والى التقدم للعمل في جو من الرضى الباعث على الاستقرار.
وقد أدرك هذه الحقيقة صديقنا السيد عبد العزيز بنعبد الله فانكب ينقب عن مظاهر الحضارة المغربية حتى اخرج لشبابنا كتابا قيما في الموضوع، يمكن كما قال المؤلف أن يعتبر مدخلا لدراسة تاريخ المغرب، وقد تصفحنا المؤلف فوجدناه مفيدا للغاية ومحققا للغرض المنشود منه، وحمدنا الله على ان هذى واحدا من إخواننا الاستقلاليين لأداء هذه المهمة التي ليست بالسهلة على الباحثين.
أمنية تتحقق
وقد رأى الأستاذ علال رحمه الله في هذا الكتاب تجاوبا مع رغبة كانت لديه فسجل ذلك في هذه الفقرة من التقديم
والحق إنني في أثناء مقامي بنيويورك، لاحظت ضرورة العناية بتصنيف كتاب عن حضارة المغرب يلم بحقيقة تاريخنا وتراثنا القومي والإنساني للأمريكيين والأجانب حتى يتيقنوا بان شعبنا له ماضيه المجيد مثل مالنا جدير بأن يحيا حياة العزة والكرامة والحرية، وقد اتفقت مع صديقنا الدكتور رضى الله على القيام بهذه المحاولة وبدأ يشتغل ولكن ظروفا خارجة عن إرادتنا حالت دون انجاز العمل، وقد حقق أمنيتنا الأستاذ بنعبد الله بإصدار هذا الكتاب الذي جاء في إبانه.
التعسف في المنهج
وفي هذا الكتاب الذي قدم له المرحوم علال الفاسي ينتقد المؤلف منهج الدراسات الأدبية كما هو معروف ويرى أن ذلك من باب التعسف الفكري والمنهجي فيقول:
«لعل من التعسف ان نقسم عصور المغرب الأدبية تبعا لعصوره السياسية كما فعل الكثير من كتاب العصر بخصوص الأدب العربي لان هذا الأسلوب لا يخلو من الافتعال وارى ان اضمن وسيلة لدراسة عصر من العصور هي التمهيد له بنظرة عن الحالة الفكرية في القرن الذي يسبقه ثم الاسترسال في دراسة العصر الذي هو موضوع البحث إذ ينتج عن ذلك اصطدام الباحث آليا بالفروق البارزة التي تميز بين العصرين فيسهل حينذاك رسم الحدود».
المهمة الشاقة
ويسجل الكاتب أم مهمة تاريخ الفكر في المغرب مهمة شاقة لأسباب ذكرها عندما يكتب:
«إن تاريخ حركة الفكر بالمغرب مهمة شاقة نظرا لقلة المصادر وانتشار الوثائق على ندرتها بين طيات كتب قد لا يخطر ببال مؤرخ الثقافة المغربية أنها مظان محتملة لما ينتجه من معلومات فقد تجد مستندات أدبية في كتب الفقه والتصوف وقد تعثر على أروع القطع الشعرية في كتب الفتاوى أو الحوليات السياسية وقد تظفر بدقائق تلقى ضوءا على خوافي التيارات الأدبية بين ثنايا كتب التراجم التي تكاد تحتكر عالم التأليف في جهازنا الثقافي».
تشعب المصادر
وعن تشعب المصادر وتعددها يقول:
«وبالجملة فمصادر تاريخ الفكر في عهد الشرفاء تذهب من الكتب الفقهية كالدار الثمين لمبادرة والمعيار للونشريسي، إلى كتب التاريخ كمصنفات ابن القاضي والفشتالي والأفراني إلى الرحلات كمحاضرات اليوسي ورحلة العياشي إلى كتب التراجم كالدارر المرصعة ومرآة المحاسن ونشر المثاني إلى أراجيز كالاقنوم إلى كتب أدبية صرف كالأنيس المطرب للشريف العلمي».
فسيفساء وجهاز الفكر
لاشك أن بعض الناس الذين ليس لهم خبرة بهذه المصادر الفقهية التي يشير إليها قد لا يدركون عمق هذه الملاحظة والإشارة ولكن الدارس والمؤرخ الذي يريد الاستقصاء والتعمق يدرك أن المؤلف لم يقل إلا الواقع الذي كابده باحثا ودارسا منقبا.
واستقراء هذه المصادر كلها قد يرسم في ذهن الباحث صورة لا نقول واضحة ولا تامة عن خصائص الحركة الثقافية ومميزات الناتج الفكري وعن الروابط أو الفروق التي يمتاز بها هذا العصر عن ذاك وهذه الطائفة عن تلك وهذا الفريق من المحدثين والفقهاء عن ذلك الرعيل من الشعراء والمتأدبين والمؤرخين،والمعلومات التي تكتمل تحت ضوءها صورة الجهاز الفكري بالمغرب هي عبارة عن فسيفساء يستلزم التوفيق بين نوازعها إن لم نقل مناقضاتها شيئا غير قليل من الاصطبار والاناة إذ بقدر ما تختلف المصادر بقدر ما تتنافى الألوان والنزاعات وأساليب الحكم والتقدير.
ارتباط المغرب بالمشرق
وعن ارتباط المغرب والمشرق فكريا وثقافيا يتحدث الكاتب في فصول كتبها في مجلة (اللسان) وكذا في كتابه (معطيات الحضارة المغربية) بشكل يوضح عمق هذا الارتباط إذ كتب في هذا الصدد:
«وقد ظل أقطاب الفكر ينتجعون الشرق لاستتمام المعارف وتبادل الإجازات كما كان المشارقة يتوقون إلى مبادلة علمائنا وجوه النظر وقد عرف الشرق كيف يقدر المغرب في شخص أفذاذه أمثال ابن سليمان الروداني والمقري وابن الطيب الشرقي ويحيى الشاوي واليوسي واحمد بن ناصر واحمد القادري ومحمد (فتحا) الفاسي ومحمد بن الطيب العلمي المتوفي بالقاهرة واحمد بن الخياط الذي مكث طويلا في القاهرة أيضا واحمد الهلالي الذي ترك لنا وصفا شيقا لرحلته العلمية هذه.
التكامل
لأن أساليب الشرق والغرب كانت تتكامل كما أن عناصرها الحيوية يتمم بعضها بعضا في هيكل موحد رصين. ولعل ما لاحظه المقري وقبله ابن خلدون من فروق بين الشرق والغرب في الاتجاهات الفكرية والمناهج العقلية قد ظل على ما كان عليه إذ بينما كان الشرق مطبوعا بالعمق في ملكة العلوم النظرية طفق المغرب يوغل في البحث اللفظي مع تحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب وتصحيح الروايات وبيان وجوه الاحتمالات والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب واختلاف المقالات مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار وبينما غلب على تأليف المشارقة الإيجاز (عدا البعض كالغزالي والفخر الرازي) مع انحصار في الموضوع سواء في التصنيف ام التدريس إذا بالمغاربة من القيروان إلى القرويين يوغلون في الاستطراط. وإذا كانت صناعة التأليف قد انتهت في علماء المغرب على صناعة أهل المشرق في شخص ابن البناء المراكشي فقد عللوا ذلك (ببراءة نسبه من البداوة) غير أن الأمر لم يبلغ الحد الذي زعمه ابن خلدون في المائة الثامنة من انقطاع ملكة التعليم على طريق النظار لان التحقيق العلمي ظل طابع الكثير من علماء عهد الشرفاء.
تحفظات
هذا مع تحفظات منها نوع من التجمد في المنهج وإيغال في استظهار النصوص حيث أدى الحال في بعض نواحي المغرب كسوس إلى تطرف في الاستظهار تجاوز المتون إلى معجم اللغة ولكن هذا الأسلوب الذي كان يحجر الفكر أحيانا عند من لا يستطيع ان ينسق بين واعيته وملكته التصورية قد ضخم على العكس عند البعض السليقة العربية ولا أدل على ذلك من وفرة اعداد الأدباء والشعراء في سوس حيث لا يزال التحقيق اللغوي خاصة بارزة ولا يعزب عنا ان ابن القزاز البربري هو الذي صحت عليه اللغة بالأندلس بعد أبي علي البغدادي وان أهل شنقيط اقرب إلى الفصحى من باقي عناصر الشعوب العربية بفضل تلك الروح الاستظهارية البسيطة».
ما عاد مما بدا
إن الكاتب في هذه الفقرة في الواقع يتحدث عن الماضي وهو في نفس الوقت كأنه يبسط الكلام عن واقع صنعه هو لمجهوده الكبير في المكتب الدائم لتنسيق التعريب فمن تصفح أعداد مجلة (اللسان) التي كان يصدرها يلاحظ كيف تتلاقى أقلام المغرب والمشرق وكيف تتلاقح الأفكار وكيف يلقي الجميع على صعيد لخدمة اللغة العربية والحضارية العربية والإسلامية وكيف يستفيد البعض من تجارب البعض وخبرته.
انبعاث الفكر
ولم يفت الكاتب أن يعيد الكرة ويسجل الروابط التي نسجتها الحركة الوطنية المغربية فكريا وسياسيا في القرن العشرين وذلك حيث كتب:
«وطفر المغرب طفرته الرائعة بزعامة الأستاذ علال الفاسي ورفاقه الأحرار عام 1933 عند مطالبة الشعب بتخليد الذكرى السنوية للعرش المغربي كعنوان للوطنية الصادقة التي أظهرها جلالة المرحوم محمد الخامس وقدمت الكتلة الوطنية في العالم التالي برنامجا مركزا للإصلاح برهن بالإضافة إلى روحه التحررية عن الخطوة الجزئية التي قطعتها اللغة العربية في فترة وجيزة أصبحت خلالها قالبا حيا لمفاهيم جديدة ومصطلحات طريفة رددها الشعب في شعاراته مثل إلغاء الحكم المباشر وفصل السلطة وتشكيل مجالس وطنية منتخبة وإقرار الحريات العامة وحق الإضراب وتوحيد التعليم وضمان الملك العائلي وتوسيع القرض الفلاحي ومحاربة سياسة الإدماج وتكوين الأحزاب وفتح المجال للبعثات العلمية إلى الشرق العربي وحماية الصناعة الوطنية وضمانة السكن الصالح للجميع وتعززت هذه المطالب بحركة «تضامن» بين تونس والجزائر والمغرب وانعقدت «مائدة مستديرة» بين الكتلة الوطنية وإدارة الحماية وصدرت صحف عربية جديدة ك «الأطلس».فقطع المغرب بفضل هذه الانتفاضات خلال نصف قرن ما لم يقطعه في آماد عريضة حيث تقاربت الأحاسيس وتجاوبت العواطف بين الشعوب العربية واتحدت مجالي التعبير بعربية حية تساوقت مصطلحاتها وتجانست مفرداتها في الصحافة والإذاعة في عواصم الشرق والغرب العربيين وانبثقت إلى جانب هذه الثورة الفكرية نهضة علمية انعكست صورها على مجلات ودوريات مثل «رسالة المغرب» التي أصبح عنوانها رمزا لمدرسة القاهرة الناهضة في شخص «رسالة الحسن الزيات» ورفاقه من الأخصائيين العرب الذين بذروا في روعنا الإيمان بقدسية العربية كلغة للعلم والحضارة في العصر الحديث فكان للمفاهيم الجديدة وتعابيرها الطريفة صدى عميق في نفوس نخبة حية من المثقفين المغاربة ما بين مزدوجي الثقافة وموحديها. ولإعطاء صورة عن «رسالة المغرب»التي تبلور فيها الإنتاج الفكري الرصين في المغرب قبل منتصف القرن الحالي نأخذ العدد الأول (11) من السلسلة الأسبوعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.