تسليم جائرة الحسن الثاني للماء لمنظمة "فاو"    خامنئي يكلّف محمد مخبر تولي مهام الرئيس    إيران تعيّن علي باقري وزيراً للخارجية بالوكالة    سفيان البقالي يتألق في سباق 3000م موانع في ملتقى محمد السادس لألعاب القوى    صراع الصعود.. صدام مباشر بين "الكوديم" المتصدر والكوكب الوصيف    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الدفاع عن "البريكولاج" و"الأشياء الصغيرة" يحتفي ببنعبد العالي في معرض الكتاب    الذهب يقفز إلى ذروة جديدة والفضة عند أعلى مستوى في 11 عاما    كوت ديفوار تجدد "دعمها الكامل" لمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية    مهندسون يضربون ويحتجون أمام البرلمان    وفاة الرئيس الإيراني إثر تعرض المروحية التي كانت تقله لحادث    حقوق العرب والأمازيغ من الموريسكيّين المبعدين قهرا وقسرا من إسبانيا    المنتدى العالمي العاشر للماء ببالي.. تسليم النسخة الثامنة لجائزة الحسن الثاني العالمية الكبرى للماء لمنظمة الأغذية والزراعة    "عدم جدية" الزلزولي تجر عليه سخط بيليغريني    نجم الزمالك يعترف بعدم حيادية مخرج مباراة نهضة بركان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    تصنيف المغرب فيما يسمى مؤشر التعليم العالمي    جثة متحللة تستنفر أمن البيضاء    أين اختفت المروحية الطبية الخاصة بنقل المرضى نحو المستشفيات بحهة الشمال؟    أسعار النفط ترتفع بعد تأكيد وفاة الرئيس الإيراني    كيف دمرت السطحية المشهد الموسيقي؟    المغرب يضع رقما هاتفيا رهن إشارة الجالية بالصين    طلبة الطب يقررون اللجوء للقضاء ويتهمون ميراوي بجرهم لسنة بيضاء    مؤتمر دولي يقارب شمولية الترافع عن مغربية الصحراء    إميل حبيبي    مات المؤلف... عاش الراوي    الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تستحوذ على قناة "ميدي1تي في"    الدرهم يتراجع ب 0,39 في المائة مقابل الأورو    ربط تطوان وطنجة بالقطار عبر المدينة الجديدة الشرافات    أيام الأبواب المفتوحة للأمن الوطني.. استعراض التجربة المغربية في تدبير التظاهرات الكبرى    كاس الكنفدرالية الافريقية لكرة القدم: الزمالك المصري يتوج باللقب    مع قرب الامتحانات.. ما السبب وراء ارتفاع الطلب على "الساعات الإضافية"؟    «ذهبنا إلى الصين .. وعدنا من المستقبل»    في لحظة استثنائية كرمت المفكر كمال عبد اللطيف: صراع التأويلات ضرورة, ومغادرة الأزمنة القديمة بوابة الحداثة    أنّك هنا… في الرباط    الصين: سفارة المغرب ببكين تضع رقم هاتفي رهن إشارة الجالية المغربية    الحكومة تعلن الزيادة في سعر "البوطا"    مسيرة حاشدة في الدار البيضاء شارك فيها آلاف المغاربة نصرة لغزة وتنديدا بالتطبيع (فيديو وصور)    مبادرة لانقاذ السنة الجامعية الطبية.. مناظرة وطنية وأجندة للحوار واستئناف فوري للدراسة    مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    من سيخلف رئيس الجمهورية في إيران بعد مصرعه في حادث مروحية؟    إعلان وفاة الرئيس الإيراني بشكل رسمي في حادث تحطم طائرة    إيران تعلن رسميا وفاة رئيسها ووزير خارجيتها وهذه أول صورة لحطام الطائرة    مؤلف "البصمة الموريسكية" يدعو إلى استثمار الأندلس في رؤية مستقبلية    رغم خسارة اللقب.. منحة دسمة من "الكاف" لنهضة بركان    ردود أفعال متباينة حول اتفاق حمدوك مع فصيلين مسلحين على تقرير المصير وعلمانية الدولة    ماكرون يرمم شعبيته في فرنسا    الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تستعد للاستحواذ الكامل على قناة "ميدي1"    نهضة بركان يفشل في التتويج بكأس ال "كاف"    معرفة النفس الإنسانية بين الاستبطان ووسوسة الشيطان    شركة تسحب رقائق البطاطس الحارة بعد فاة مراهق تناوله هذا المنتج    أخبار الساحة    لماذا النسيان مفيد؟    أطعمة غنية بالحديد تناسب الصيف    الأمثال العامية بتطوان... (602)    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص سردي : هواجس منتصف الليل….. الاستاذ امحمد بونجمة … الجزء 1
نشر في عالم برس يوم 21 - 04 - 2021


إهداء
إلى كل من لاقتني الحياة به يوما فلاحت منه إليّ كلمة طيبة.
"وتهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق.."
عقارب الساعة تشير إلى الثالثة وسبعة عشر دقيقة بعد منتصف الليل، وها أنا مستلق على السرير أحاول عبثا أن أجد للنوم وصالا، فالأرق ومنذ عهد لا أذكر بالضبط متى كان فجره قد أضحى رفيقي المخلص المؤنس لوحشتي وسط ظلام الغسق، وإذ كان يقضّ مضجعي ويجعل عقلي مترنّحا وإن تلاقت الجفون مدّعية السكون.. وما زاد الطين بلة، هو مفعول الكافيين الذي بدأ يسري في جسدي فاعلا فعلته بعدما يقارب الساعتين والنصف من احتسائي فنجان قهوة كنت قد أعددته لأستمتع بنكهة السواد الساحرة..
أتلوّى وسط السرير يمينا وشمالا أحملق وسط سواد الظلام هنا وهناك محاولا الغطّ في نوم عميق، لكن دون جدوى، أي عبث هذا؟!! حتى إني قد قضيت حاجتي البيولوجية قبل أن آوي إلى الفراش دون حاجة ملحة فقط لتفادي مشقة ذاك النهوض العسير من على فراشي ومفارقة عزيزتي الوسادة بعين مفتوحة وأخرى مغلقة وكأنني أدّعي أني لازلت نائما..
مرّت لحظات ولحظات، قد تكون ساعة، أو ساعتين، أو أقل من ذلك أوأكثر، لا أدري.. وعيناي لا تزالان شاخصتين تلعبان معي لعبة شد الحبل، خارت قواي وباءت كل محاولاتي للنوم بالفشل، فلم أجد سبيلا سوى اللجوء إلى قراءة صفحات إحدى الكتب التي وُضِعت على طاولة تجاور سريري، علّ القراءة تلعب دور المنوم الذي قد يفعل فعلته ويجعل رموشي تغازل بعضها البعض.. أشعلت مصباح هاتفي واضعا إياه على جانبي، ثم جعلت جزءا من ملائتي تغطيه حتى تخفف شيئا ما من سطوع إضاءته بحيث يبدو كضوء خافت يمكنني بالكاد من القراءة، مددت يدي نحو طاولة الكتب عازما الغوص في صفحات أول كتاب تقع يدي عليه، أمسكت يدي بواحد منها دون أن ترى عيني عنوانه، أسندتُ وسادتي إلى الحائط بشكل مائل متخذا وضعية بين الجلوس والاستلقاء، ألقيت نظرة فاحصة إلى غلاف الكتاب لأجد عنوان "1984" لجورج أورويل، حسنا.. سبق أن قرأته، لكن لا مشكلة في معاودة ذلك ما دام كاتبه يقول بأنها رواية تُقرأ ثم تُقرأ من جديد..
فتحتُ الكتاب، ثم باشرت قراءة الفصل الأول: "كان يوما بارداً من أيام نيسان بسمائه الصافية…" استغرقتُ بين الصفحات بشكل مسترسل دون أن أشعر بمرور الوقت لأجدني قد بلغت الفصل الثاني دون أن أجد لنوم فارٍّ مني وصالا، قلبت الصفحة قصد متابعة القراءة، فإذا بشيء صغير(لم أعرف ماهيته) ينسدل من بين الأَوراق، وضعتُ الكتاب جانبا ثم أخذت أبحث عن الشيء الغامض ماذا عساه يكون، مررت يدي فوق ملاءتي فإذا بأصابعي تتحسس ما بدا من ملمسه كبطاقة صغيرة أو شيء من هذا القبيل، قربته من ناظري لأجده عبارة عن صورة صغيرة من نوع "النيغاتيف"، عجباً!! أيعقل أن هذا النوع من الصور لايزال إلى يومنا هذا؟!! لكن سرعان ما بدد الفضول تساؤلي لأزيح طرف الملاءة عن مصباح الهاتف موجِّها إياه صوب الصورة مباشرة محاولاً فكّ شفرتها وسبر أغوارها،فإذا بالسواد ينقشع عنها شيئا فشيئا لتظهر صورة خلفية لطفل صغير يجلس مقابلا شاشة تلفاز، أمعنت النظر بدقّة علّي أتمكن من معرفة هوية الطفل، وفجأة!! سرت رعشة مفاجئة في جسدي، سقط الهاتف من يدي، اتّسعت حذقتا عيناي وأخذت نبضات قلبي تتسارع بشكل غير طبيعي لهول ما رأيت!!، لقد كان ما رأيته لحظتها أغرب من الخيال…
كان قلبي قد بدأ يخفق خفقاناً، فيما أخذ صدري يعلو ويهبط بوتيرة متسارعة وقد اتسعت حذقتا عيناي لتظلّا شاخصتين في الصورة التي أخذت تنثر سواد "النيغاتيف"عنها مكتسبة ألوانا جعلت محتواها يتجلّى بوضوح أمام ناظريّ، وبلغ ذهولي أقصاه حينما دبّت روح إليها مُكسّرة سكونها لأصبح أمام مشهد متحرك، ربّاه.. رأسي!! تُراني بدأت أفقد صوابي؟!! أي مخذر هذا الذي تناولته حتى يفعل بي كل هذا؟!! أي جنون هذا! تراني مخمورا أم أن الكافيين في دمي قد بلغ منسوبا خرافيّاً فأسكرني؟! رباه.. ماذا أهذي؟؟ أنا في كامل وعيي وقواي العقلية، وها هو المشهد لايزال يتحرك أمام أمّ عيني، ها هو ذاك الطفل الصغير المجهول يظهر جالسا محملقا في شاشة التلفاز يشاهد رسوما متحركة..
سرى تيار راجف من الخوف في أوصالي لهول وغرابة ما أراه أمامي، فما يقف بين الحقيقة واللاحقيقة حقا يصعب وصفه، لكن من يعبأ الآن بمدى حقيقة ما أراه! فما أصبح يتملّكني وقد تجلّى هذا الكيان العجيب قُبالتي هو مزيج من حيرة وتساؤلات حول هوية هذا الطفل المجهول الصّابِّ كل تركيزه وانتباهه على رسوم متحركة، من عساه يكون ياتُرى؟؟…وفجأة!! وبينما أنا أتساءل..انبعث من الصورة ضوء وضعتُ على إثره يدي أمام عيناي مُتّقيا أشعته، فإذا بيدٍ خفية نورانية شعرتُ بحياةٍ ماثلةٍ في انسيابية أصابعها تُغازِل وجهي، قبل أن تُمسك بي على حين غرّة لِتجذبني إلى داخل الصورة في لمح بصر…
سوادٌ ثم سواد.. فصمتٌ رهيبٌ لا أدري كم مكث العهد فيه، ليكسره أخيرا صوت خافت ألقى صداه بوقعه على أذناي بصعوبة كأنه يصدر من قاع بئر، أسختُ السّمع فإذا بكلمات أغنية تتسلل إلى مسامعي بحنوّ: "حلمنا نهار… نهارنا عمل… نملك الخيار… وخيارنا أمل… وتهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق.. تدعونا كي ننسا ألما عشناه.. نستسلم لكن لا ما دمنا أحياء نرزق.. ما دام الأمل طريقا فسنحيا."
كان وقع هذه الكلمات عليّ غريبا، فهي تذكرني بشيء ما، في زمن ما، كانت الحياة فيه بطعم ما… فتحت عيناي ببطء لأجدنيمسلقيا على الأرض بجوار الطفل الصغير الذي همّ واقفا بعدما وضع جنريك النهاية حدّاً لحلقة اليوم من"عهد الأصدقاء" رسومي المتحرك المفضل أيام الزمن الجميل، عجباً أي صدفة هذه!!!
كان الطفل ينتظر نهاية الحلقة ليهرول مسرعا نحو باب فتحه على مصراعيه ليدلف خارج البيت، استجمعت قواي وهممت أتبعه بخطوات مسرعة و أنا أناديه: مهلا.. أريد معرفة من تكون أيها الصبي؟؟؟، استدار لينظُر إليّ نظرة فارغة لم أفهم مغزاها، ثم ركَض مبتعداً فركضتُ خلفه…
"مهلا انتظر!! أردت فقط معرفة من تكون" ظلت كلماتي معلقة في الهواء دون أن تجد لصداها إجابة حينما أطلق الطفل المجهول سيقانه للرياح يشق طريقه صوب وجهة يعلمها وحده، فخلفَهُ مضيت..
كان الصغير يركض مسرعا عبر ممر طويل دون أن يلتفت وراءه، وبأمل بلوغ المراد ونيل الجواب سعيتُ خلفه بكل ما أوتيت من طاقة، رباه.. أيعقل أن صغيرا كذاك يملك سرعة كهاته!! أم تُراني أنا من تملّك هول ما أعيشه مني وأثقلت غرابته خطواتي فأصبحتُ بالكاد أهرول كطاعنٍ في السن؟!! وإن يكن.. فلن أدع شبح الاستسلام ينشب أظافره في روحي حتى وإن تابعت لحاق المجهول حبواً كطفل رضيع، ككهلٍ على الحركة بالكاد يستطيع، بل وزحفا على أطرافي كثعبان صحراء وسط الصقيع…
واصلتُ اللحاق به وأنا ألمحه شاقّاً طريقه عبر ممر يتوسط أشجارا عالية تجلّت في الأفق على مدى بعيد، قبل أن يتوارى كليا عن ناظريّ..ياللعبث !! أي حظّ هذا !! لقد ذهبت جهودي أدراج الرياح وباءت محاولتي في معرفة إجابة لتساؤلي بالفشل، فبصيص الأمل الوحيد الذي رجوت أن يقودني إلى الحقيقة قد تبدّد وتلاشى تاركا إياي معلقا وسط حبال الغموض..
خارت قواي و كاد جنوني يجنّ لأطلق العنان لصرخة فَزِعَت لها أسراب جمّة من الطيور، ثم أضجعتُ نفسي على ظهري مغلقا عيناي غارقا في أساي، مستظلاًّ بشجرة تفاح انتصبت وحيدة بين شجر الصنوبر العالية.. وبينما أنا مستلق أتجرع علقم الخيبة والأسى، أخذ النعاس يرخي بظلاله على جفوني لأغط في نوم عميق.. نِمتُ وفي النوم انفصال عن السأم، وهروب من الملل، فرارٌ من كل شيء و مناللاشيء، في النوم أمل، أملٌ بأن نهارا جديدا سيحمل واقعا جديدا، وفي النوم حلم، والأحلام دِثار اليائس…
لم أدرك كم من الوقت مضى وأنا نائم قبل أن أستفيق على وقع ارتطام شيء ما برأسي، فتحت عيناي بصعوبة متقيا أشعة ضوء الصباح بيد وقد وضعتُ اليد الأخرى على رأسي، أي عبث هذا!! سيناريو إسحاق نيوتن يعيد نفسه مرة أخرى!! سوى أن رد فعلي لم يكن سوى أني اكتفيت بأخذ التفاحة واضعا إياها في قبِّ معطفي دون الاكتراث بسبب سقوطها للأسفل بذل الصعود للأعلى.. هرعت واقفا أمسح الفضاء بناظري، أشجار الصنوبر العالية تتجلى على مد البصر يتوسطها ممر ضيق لم أهتدِ إلى أي وجهة يقود، خطوت خطوة إلى الأمام فخطوتين فثلاث، ليسطع ضوء كسراب ماثل نهاية الممر، واصلت الخطى حتى اجتزت الضوء الذي تجسد على هيأة بوابة تقود إلى بعد آخر، واصلت التقدم عابرا إياه لأجدني وسط قفار يخلو من بواعث الحياة فيه، فقط سور متهالك يقف شامخا رغم هشاشته وسط العدم كنبتة خضراء وسط أرض يباب، وقد جلس عجوز بلحية بيضاء قد بلغت أسفل صدره، مسندا ظهره إلى السور المتهالك الذي توسطه باب خشبي ما إن دنوت منه حتى فُتح تلقائيا محدثا صريرا يبعث على طول عهد آخر مرة قد فُتح فيها، هممت أخطو صوب الباب؛ وقبل أن أعبره نظرت نظرة أخيرة إلى جانبي حيث يجلس الرجل العجوز ممسكا بكسرة خبز يابسة، مددت يدي إلى قب معطفي ثم ناولته تفاحة نيوتن(أقصد تفاحتي) علها تسد رمقه، قبل أد أدلف عابرا الباب الخشبي الذي ما إن تجاوزته حتى أوصِد خلفي مجددا.. يا إلهي.. ماذا أرى أمامي؟!!
متاهة بأسوار عالية مشكلة من أغصان الأشجار، وقد رمقت عيناي الطفل المجهول يعبر مدخلها مواصلا فِراره، أي عبث هذا!! هذا ما كان ينقصني، وضعي أضحى كوضع أعمى لا يُجيد السباحة يبحث عن إبرة سقطت في ظُلمات المحيط…
"كيف السبيل إلى وصال الصغير المجهول وسط متاهة لعينة كهاته؟" هكذا حدثت نفسي بأسى وقد لمحت عيناي الشقي يعبر مدخل المتاهة متواريا عن ناظري وقد تسلل صوته إلى مسامعي بكلمات أعرفها جيدا :" وتهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق.. تدعونا كي ننسا ألما عشناه.. نستسلم لكن لا مادمنا أحياء نرزق.. مادام الأمل طريقا فسنحيا" ثم أخذ صدى الصوت يتردد وهو يتلاشى ويخفت شيئا فشيئا…
حرّكت كلمات الصغير كيانا بداخلي وأدركت حينها أن هدفي ليس ببعيد المنال، فكلماته الناطقة بالأمل قد أوقدت شعلة هذا الأخير بداخلي، فهممت شاقا طريقي صوبه عابرا ممرات المتاهة الملتوية، أركض وأركض.. فما ألبث أن أبلغ نهاية كل ممر حتى أجدها دون مخرج، أعاود المحاولة مع ممر آخر علّي أفلح لكن عبثاً.. نال التعب مني، كنت كدائرٍ وسط حلقة مفرغة، كسابح عكس التيار، لم تعد قدماي تقويان على حملي لأبارح الأرض واضعا رأسي الذي أوشك على الانفجار بين كفاي وأنا ألهث،وهاهي كلمات الصغير تتسلل مجددا إلى مسامعي:"مادام الأمل طريقا فسنحيا".
حقنت الكلمات جسدي بجرعة طاقة لممت على إثرها شتاتي لأواصل الركض مجددا، أسقط فأقوم من جديد لأواصل المضي قدما، وأخيرا.. هاهي ممرات المتاهة الملتوية تنهزم تحت إصراري معلنة نهايتها بظهور ممر مفتوح ينتهي ببوابة كانت توصَد بمجرد أن عبرها الصغير، وكأنها كانت تنتظره فقط لتُغلق تماما.. أي حظّ هذا؟!! تارت حفيظتي وأُخمدت شعلة الأمل بداخلي فلم أجد ودّا سوى عودة أدراجي عبر المتاهة اللعينة التي تجاوزتها بشق الأنفس، بلغت باب السور الذي كنت قد دخلتُ منه.. وبينما أنا أمشي مطأطأ الرأس جارّاً أذيال الخيبة ورائي، أمسكت يد بذراعي من الخلف، تبعتها كلمات كسرت صمت المشهد:"لم تخسر معركتك بعد يا بني"، نظرتُ خلفي.. لم يكن من شدني سوى العجوز الذي كان جالسا مسندا ظهره إلى السور المتهالك وقد أمسكت يده الأخرى التفاحة التي سبق أن ناولته إياها..نظرت إلى عينيه باستغراب ولسان حالي يقول:"ماذا تقصد؟ وكيف عرفت؟ كيف ذلك؟"
ربّت العجوز على كتفي قائلا: -"اتبعني".
لحقت به والشوق يغمرني لمعرفة سبيلي الأخير لمتابعة رحلتي نحو معرفة هوية الطفل، وإن كنت بذلك قد أضع حبل المشنقة على عنقي على حدّ زعم العجوز الذي توقف أخيرا أمام الباب الخشبي الماثل وسط السور، نظرتُ إليه بتجهم متسائلا:" المتاهة من جديد؟!"
صمت العجوز ولم ينبس ببنت شفة، فأخذ الباب يُفتح مجددا ليخطو عابرا إياه وأنا خلفه مباشرة قبل أن توصد الباب وراءنا..
-"ماذا ترى أمامك؟" سأل العجوز قائلا.
نظرت إليه بوجه مالت ملامحه للاستغراب، ليعاود السؤال ذاته، أجبت بلهجة حادة مسرعة: -" ماذا تقصد؟ وما عساي أرى غير المتاهة اللعينة!!"
رد العجوز بنبرة واثقة وكأنه كان يعرف إجابتي مسبقا: -" حسنا أنت الآن تصف الجانب المظلم من اللوحة الماثلة أمامك، لكنك نسيت، أو لنقل تناسيت أن نور الجمال قد ينبع من كنف الظلام.. انظر جيدا إلى مدخل المتاهة".
وجّهتُ نظري حيث أشار، فإذا بثلاث وردات جميلات تنسدل أوراق كل واحدة منهن على الأخرى، اقتربتُ أكثر وأنا أتأمل المنظر مهمهما: "كانالمنظر سيزداد روعة لو أنها وقفت شامخة متباهية بسحرها الأخاذ بذل هذا الانحناء الذي يوحي بذبول قبل الأوان".
ردّ العجوز بابتسامة:-"لا تعجب..فملأى السنابل تنحني تواضعا".
التفتُ إليه فإذا به يخط بعصى خطوطا على الأرض، ألقيت نظرة لأجد رسوما غريبة لم أفهم معناها: دائرة يتوسطها مثلث تلامس رؤوسه الثلاثة قطرها، وقد وضع العجوز حجرا عند كل نقطة بينما رسم علامة مميزة مركز الدائرة، رُحت أدقق في الرسم علّي أفك شفرته، لكن عبثا حاولت..
-"اُنظر جيدا، أترى مركز الدائرة، سيُنصب هناك تمثال خشبي مثبّث على لوح دوّار، وفي موضع كل نقطة من النقاط الثلاث سيقف ثلاثة رماة يرمي كل منهم بسهم محاولا إصابة منطقة قلب التمثال أثناء دورانه، مع كل سهم يخطئ القلب تكون قد ربحت دقيقة قبل أن تُغلَق البوابة التي رأيت الطفل يعبرها" قال العجوز.
سألته بصوت خافت:-" وإن سهم أصاب منطقة ال.. ".
قاطعني مجيبا وقد زاغ ببصره عني:-" آنذاك تكون قد قضيتَ نحبك وأنت تحاول بلوغ هدفك".
كان وقع جواب العجوز عليّ كالصاعقة، بلعت ريقي وأنا أحدث نفسي: هناك في هذه الحياة ما يستحق العيش، لكن فيها أيضا ما يستحق التضحية في سبيل بلوغه.. وإن كان الثمن روحي. قطف العجوز الوردات الثلاث مناولا إياها إلي، ثم طلب مني وضع كل منها فوق النقاط الثلاث المرسومة، نفذت ما طلبه مني، وضعت الوردة الأولى في موضعها، فالثانية، وقبل أن تلامس الوردة الأخيرة موضعها أمسك العجوز بمعصمي لينظر إلي نظرة فهمت من بريقها أنه يسألني لآخر مرة إن كنت واثقا من إقدامي على هذه الخطوة.. أومأتُ بالإيجاب مؤكدا ليترك يدي تضع الوردة موضعها.
تسمرت مكاني حينما أخذت أسوار المتاهة تسقط تباعا مفسحة المجال أمام منصة دائرية عملاقة وقد خُطّ على أرضيتها الرسم ذاته الذي خطّه العجوز، ليظهر بعد ذلك ثلاثة رماة موضع النقاط الثلاث، كل يحمل قوسا بيده، ثم خفق قلبي خفقانا حينما اكتمل نصاب المشهد بظهور تمثال خشبي مركز الدائرة، تمثال يجسدني بصورة طبق الأصل.. "يا لهول ما أراه!!"
صمت رهيب كسر وطأته ذوي دقات طبول شرع على إثرها التمثال في الدوران حول نفسه، فيما استلّ كل رام من الرماة الثلاثة سهما من قرابه وأعينهم شاخصة صوب الهدف، ياإلهي. لقد دقت ساعة الحسم.. وضع أول الرماة سهمه في قوسه، شدّه بقوة إلى الخلف وعيناه مسمرتان على الهدف، فما إن أفلتت يده القوس حتى شق السهم الهواء مصيبا الكتف الأيمن للتمثال.. أخرجتُ زفيرا عميقا بضياع المحاولة الأولى التي أخطأت القلب.. جاء دور ثاني الرماة ليعود قلبي للخفقان مجددا وأنا أترقب المشهد بعين مفتوحة وأخرى مغلقة، أُطلُقَ ثاني السهام ليصيب الرقبة هذه المرة، عادت الروح لجسدي مجددا بعدما كدت أفقد صوابي من الهلع، رباه.. معي الآن دقيقتان إضافيتان…. يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.