شهد التاريخ المغربي محطات من التوتر وشد الحبل بين الريف والسلطة المركزية، بداية من إعلان الجمهورية وانتهاء عند حادثة "طحن مو"، حيث اندلعت شرارة الاحتجاج في أكثر من مرة قابلها الجيش تارة والأمن تارة أخرى بالقوة، وأسفرت في بعضها عن وقوع قتلى، ما أزم العلاقة بين سكان المنطقة والسلطة الحاكمة. الجمهورية الإتحادية لقبائل الريف
بعد الانتصار التاريخي على المستعمر الإسباني في معركة أنوال، أعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي عن الشروع في تأسيس ما اسماه "الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف" سنة 1921، وأصدر بيانا يطلب فيه الاعتراف من عصبة الأمم (الأممالمتحدة حاليا).
وبمجرد إعلان قيام الجمهورية، والحصول على الإجماع من أغلب القبائل الريفية، بدأ الخطابي في تشكيل حكومته وصياغة دستور تتأسس عليه الجمهورية، وبادر المجاهد ذي التنشئة السلفية إلى إلغاء الأعراف وتعويضها بأحكام الشريعة الإسلامية.
وشكل هذا الإعلان تطورا خطيرا في علاقة الريف بالسلطة المركزية، التي لم تقبل بإنشاء دولة جديدة على الأراضي المغربية، ودفع تأسيس الجمهورية إلى تحالف اسباني فرنسي مغربي لأجل إخضاع الأمير أو رئيس الجمهورية الريفية، واندلعت نيران الحرب التي استمرت إلى سنوات انتهت باعتقال الخطابي ونفيه.
ولي العهد يقصف الريف
بعد استقلال المغرب سنة 1956، اشتد الصراع على السلطة والتحكم بمفاصل الدولة بين السلطة الممثلة في القصر وحزب الاستقلال القوة السياسية آنذاك، وانتقل الصراع إلى جهة الريف بعد دخول طرف ثالث وهو حزب الحركة الشعبية بقيادة المحجوبي أحرضان، والذي يقف خلفه ولي العهد الراحل الحسن الثاني.
بعد سنتين انفلت الوضع ودخلت السلطة المركزية في نفق مظلم، أدى إلى اندلاع "انتفاضة الريف" سنة 1958، وحسب ما ذكره الباحث دافيد هارت في كتابه "آيت ورياغل قبيلة من الريف المغربي"، فإن أسباب الانتفاضة تعود إلى عدم رضا الريفيين على الوضع القائم بعد الاستقلال، إضافة إلى تخلف منطقتهم مقارنة مع باقي المناطق.
ولعل ما قاله محمد الحاج سلام أمزيان قائد "الانتفاضة" بعد خروجه من السجن، يلخص ويصف التوتر الذي طبع تلك الحقبة : "لقد وجدنا أن كل الملابسات تدعونا إلى القيام بهذه الحركة لإنقاذ الوطن، وإلا فسوف لن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة".
ولكن انتفاضة أمزيان قوبلت بمواجهة عسكرية عنيفة بقيادة الحسن الثاني، حيث أغارت طائرات الجيش على المنطقة، ما أسفر عن وقوع مئات القتلى وآلاف الجرحى، ثم أعقبها القصر بإصدار ظهير شريف يعتبر الحسيمة منطقة عسكرية إلى اليوم، وذلك ما رسخ فكرة الإقصاء الممنهج في الذاكرة الجماعية للريف.
الحسن الثاني وخطاب "الدراري" و "الأوباش"
أدى تردي الأوضاع الاقتصادية والتضخم في أسعار السلع، إلى اندلاع انتفاضة شعبية سنة 1984 اتسعت رقعتها في أكبر المدن المغربية، ومن بينها الحسيمةوالناظور المدينتين الريفيتين اللتين كانتا ولا زالتا كالبركان النامي في انتظار الثوران.
نظمت الإضرابات والمظاهرات في الريف وقابلها الجيش بالرصاص الحي الذي أسقط حوالي 29 قتيلا حسب كريم العمراني الوزير الأول آنذاك، والذي سيعلن فيما بعد عن فرض حظر للتجول في المدن التي خرجت فيها المظاهرات.
خرج الملك الراحل الحسن الثاني بعد خمسة أيام ليلقي خطابه الشهير : "واش المغاربة رجعتو دراري، وصلنا لهاد الحد ؟ ... وصلنا بواسطة إما الأطفال أو الأوباش .. الأوباش .. الناظور، الحسيمة، تطوان والقصر الكبير..."
فاعتبرت فئة عريضة من الريفيين أن ما جاء به الخطاب، احتقار لسكان المنطقة وتعبير صريح عن الكره الذي يكنه النظام لهم.
#طحن_مو
شهدت العلاقة بين الريف والسلطة، سنوات من الهدوء أو الهدنة إن صح التعبير، هدنة ستخرقها واقعة "طحن مو" الشهيرة، التي خرج على إثرها آلاف المواطنين في الريف وفي باقي المدن المغربية، احتجاجا على ما وصفوه ب"الحكرة''.
وكان محسن فكري بائع سمك ينحدر من الحسيمة قد تعرض للطحن داخل شاحنة أزبال شهر أكتوبر من سنة 2016، عقب ارتمائه داخلها احتجاجا على مصادرة أسماكه بذريعة عدم قانونية صيدها وعدم توفره على ترخيص من الجهات المختصة.
الحادثة أعادت بركان الريف إلى الثوران من جديد، وأعادت الصراع التاريخي مع السلطة إلى الواجهة.
هل أنتم حكومة أم عصابة ؟
ساهمت حادثة محسن فكري في إعادة قضية الريف إلى واجهة الأحداث لتشغل الرأي العام وتستنفر جميع أجهزة الدولة، فبعد المظاهرات المطالبة برد الاعتبار لبائع السمك الذي لقبوه ب"شهيد الحكرة"، نسق مجموعة من النشطاء فيما بينهم لأجل تقديم ملف مطلبي باسم ساكنة الريف والحسيمة خاصة، وتم تسطير برنامج لمظاهرات ووقفات وندوات نظمت في المنطقة وفي باقي مدن المغرب وكذلك في الخارج.
ولكن اتهام زعماء الأغلبية الحكومية لنشطاء الحراك ب"العمالة للخارج" و"الدعوة إلى الانفصال والمس بالوحدة الترابية للبلاد"، أجج الوضع أكثر حيث اعتبره النشطاء بصب الزيت على النار، فكان الرد من قادة حراك الريف بنشر شعار على مواقع التواصل الاجتماعي يقول : هل أنتم حكومة أم عصابة ؟، وأعلنوا عن تنظيم مسيرة ضخمة في الحسيمة للرد على تخوينهم من قبل الأغلبية الحكومية، وللتأكيد على أن مطالبهم اجتماعية صرفة ولا توجد أي نية أو نزعة انفصالية، حسب ما أكدوه في بياناتهم وما هتفوا به من شعارات.