يوم بيوم 23 سنة في مواجهة ثلاثة مخاطر نور الدين مفتاح نشر في 10 أغسطس 2022 الساعة 11 و 16 دقيقة في مثل هذا الشهر القائظ في الثالث والعشرين من يوليوز، أخذنا الحافلة في اتجاه مراكش بعد إغلاق العدد السنوي ل«الصحيفة» و«لوجورنال»، وكانت العادة أن تجتمع هيئتا التحرير في لقاء حصيلة واستجمام واستشراف. كان الجو مرحاً جدا، ومراكش في ذلك المساء ملتهبة، وفي بهو فندق النخيل، نزل الخبر كالصاعقة. رحم الله الحسن الثاني. انقلاب كبير في […] نور الدين مفتاح [email protected] في مثل هذا الشهر القائظ في الثالث والعشرين من يوليوز، أخذنا الحافلة في اتجاه مراكش بعد إغلاق العدد السنوي ل«الصحيفة» و«لوجورنال»، وكانت العادة أن تجتمع هيئتا التحرير في لقاء حصيلة واستجمام واستشراف. كان الجو مرحاً جدا، ومراكش في ذلك المساء ملتهبة، وفي بهو فندق النخيل، نزل الخبر كالصاعقة. رحم الله الحسن الثاني. انقلاب كبير في برامجنا ونفوسنا وانقلاب عام في بلاد كان الثلثان من سكانها لا يعرفون إلا الحسن الثاني ملكا، والذي قاد المغرب بعد الاستقلال بيد من حديد. ليس هنا المكان المناسب لسرد تفاصيل ما جرى، والنقاشات الساخنة بيننا على ما يجب أن نقوم به، وهل نعود من حيث أتينا، وهل نوقف طبع عددينا السنويّين أم لا. ولكن المقام استدعى هذا الاسترجاع لأقول كم هي خفيفة كالريشة هذه الحياة عندما نعدّ أيامها، وكم هي ثقيلة كالجبل عندما تُودَع الأحداث في حجرات التاريخ. وكأنه الأمس القريب. ما تزال وجوه الشابات والشباب تتراقص أمامي هي والأحلام واندفاعاتنا ومثالياتنا. في 1999 أحسسنا أن مغربا بما له وما عليه قد انتهى، وأن مغربا جديدا سيولد بعد أيام. وها نحن نكتب بنفس القلم بعد مرور 23 سنة بالتمام والكمال، تغيرنا فيها ولم نبدل، وتغيرت المملكة وتغير العالم، وها نحن نكتشف أن الأمور أعقد بكثير مما كنا نتصور. لقد سبقنا جيل أدى ثمنا أكبر بكثير في ما سمي بسنوات الرصاص من أجل مغرب أكثر ديموقراطية وأكثر عدلا، وجيل هذه العشرين سنة ونيف عاش ثورة جديدة غير مسبوقة قلبت الموازين وأعادت ترتيب الاصطفافات الدولية والإيديولوجية، وجاءنا التاريخ بمفاجآت لم تكتب أبدا في تنبؤات أكبر المنجمين الاستخباراتيين العالميين، وبالتالي، أصبح للقضايا ترتيب جديد وميزان الحكم عليها زاد في التعقيد. صحيح أننا شهود على اليومي كصحافيين وربما كنا أنصاف مؤرخين، ولكن، بفعل هذه الثورة التواصلية وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي، فقدنا هذه القدرة على الشهادة، وربما نحن بحاجة لمن يشهد علينا أيضا. إن ما آلت إليه الصحافة في المملكة بعد جائحة كورونا لم يكن يتصوره أكبر المتشائمين، ويكاد هذا السيناريو السيء الذي محا من مشهدنا الإعلامي المكتوب على الخصوص صفة المؤسسة الكبرى من حيث الانتشار والمقروئية، يكون واحدا من أكثر مخلفات هذه الحصيلة إيلاما، فلو وضعت أمامنا ونحن شبان ببهو الفندق سنة 1999 ما أصبحت عليه صحافتنا اليوم لاعتبرنا ذلك فيلم خيال علمي ساخر. ولكنها اليوم الحقيقة التي ساهم فيها وللأسف الكثيرون منا إما بالاستسهال أو بالابتذال. هؤلاء باعوا شرف المهنة والتاريخ كفيل بمحاسبتهم. جرى هذا أيضا للأحزاب السياسية، وانهارت قوى وطنية خلناها أبدية وضمرت النقابات وتوارت اتحادات الكتاب والفنانين وتغيرت الهيئات المهنية والحقوقية، وأصبحت الأصوات الأعلى في العموم للتافهين أو المتطرفين، ودخلنا في مرحلة هي في تقديري الأكثر التباسا وحساسية، بحيث أن أكبر الفاهمين وأكثر النافذين لم يعد لا لفهمهم ولا لنفوذهم جدوى لاستيعاب ما يجري وما يمور وما ستسفر عنه الأمور، اللهم إلا ما هو ثابت من استقرار لا خلاف عليه. في الحكم، يمكن خلال 23 سنة أن نقول إن حلم الانتقال الديموقراطي الذي اعتنقه العهد الجديد تحول بفعل واقع الأحداث إلى هاجس استقرار في عالم زعزعته التغيرات. فلم تكن قد مرت إلا سنتين على جلوس الملك محمد السادس على العرش حتى ضربت القاعدة أمريكا في 11 شتنبر 2001، وبعد سنتين فقط ضربت أيادي الإجرام الدارالبيضاء في ماي 2003. لقد انضاف التوجس من الإسلام السياسي إلى المواجهة مع الإسلام الجهادي، ولم تمر إلا فترة قصيرة على اجتثاث مخلفات إدريس البصري في المؤسسات الحساسة حتى كرست كل جهود المؤسسات الأمنية لموضوع محاربة الإرهاب، والواقع أن النتيجة على هذا الصعيد كانت موفقة وبصدى دولي وليس وطنيا فقط، وكان هذا هو العنصر الأول في ما يمكن أن نسميه بمثلث الأخطار الحساس الذي واجهته مملكة محمد السادس. لم يكن ما سمي بالربيع العربي حدثا فجائيا في صيرورة التاريخ، بل إنه إضافة إلى العوامل الداخلية بتربتها الاحتجاجية الخصبة، كان لسقوط العراق دور هام في إعادة تشكيل خارطة العالم العربي، وما بين 2001 و2010 حين اندلعت ثورة الياسمين في تونس لجأ المغرب إلى تجفيف منابع الإرهاب، ولكنه لم يلجأ إلى الخيار الاستئصالي في مواجهة الإسلام السياسي، وفضل منذ 2008 أن ينزل إلى ساحة العراك السياسي ونذكر كلنا قصة تأسيس «حركة لكل الديموقراطيين» وبعدها حزب الأصالة والعاصرة. في 20 فبراير 2011، كان لتدبير الدولة السياسي لما قبل الحراك المغربي دور هام في امتصاص الصدمة، والبقية معروفة من دستور 2011 إلى القبول بترؤس الإسلاميين للحكومة لمدة عشر سنوات كاملة دون تقليد أي نموذج إقليمي آخر، بل إن الإسلاميين ظلوا في الحكومة حتى بعد أن انقلبت الثورات إما إلى حروب أهلية أو إلى انقلابات عسكرية أو دستورية أو حولت بلدانا إلى دول فاشلة، وها هي تونس وليبيا والسودان ومصر وسوريا بادية للعيان. لقد ضربت الجائحة في المكان بالضبط الذي أسقط هذا الغطاء الخرافي عن طنجرة التحولات العالمية. لم يكن الأمر يتعلق بوباء خطير كالذي شهدته البشرية عدة مرات مع الكوليرا السوداء أو الجدري. ولكن هذا الوباء عرى فوضى عالمية كنا نعتقدها نظاما محكما، وبدا العجز، وانهارت العجرفة اتجاه الطبيعة، وركعت دول عظمى أمام فيروس صغير، وتعاظمت صورة هذا العالم الظالم بفوارقه وجوره، وأصبحت الدول الصغيرة رقما تحت مظلة الكبار. في المغرب دبرت الدولة الجائحة بإحكام، وما كان يمثل عندنا دائما عيبا في المسار الديموقراطي، كان عملة نادرة لمواجهة الوباء بإمكانيات بلد متواضع الدخل القومي، إنه جهاز الداخلية المتنفذ في كل شرايين المجتمع من أصغر مدشر إلى أكبر مدينة. تم فتح باب التبرعات، ووزعت الإعانات، ونجحت رقمنة أكبر جهاز إداري مغربي، وتبين أن الإدارة تحمل الدولة مهما تغيرت وتبدلت أحوال الأحزاب والحكومات، وخصوصا إدارات الداخلية والمالية والأمن. ولكن وبكل هذا، وحتى مع توفير اللقاحات تبين أن ما كشفته الجائحة كان أعمق، ولذلك تم إطلاق البرنامج الضخم للحماية الاجتماعية بكل طموحاته وبكل تحدياته أيضا على منظومة صحية يصعب جدا أن تكون في الموعد بضربة سحرية. ولكن المهم من خلال هذه الزاوية التي نعيد فيها قراءة حصيلة 23 سنة من الحكم، نعتقد أن رهان الاستقرار مرة أخرى قد تم ربحه في ثالث أكبر الأخطار التي واجهها الملك محمد السادس في حكمه. لقد تغير العالم رأسا على عقب خلال 23 سنة، وحاول المغرب أن يجد له مكانا خصوصا بعد انهيار العمق العربي، وبروز العمق الإفريقي للمملكة، وإعادة ترتيب توازن العلاقات الخارجية مع أوربا، والذي لم يتزحزح ولم يتغير هو هذه الطبقات السميكة من الضغائن التاريخية للجارة الجزائر من خلال نظامها الذي يجتر أساطير الماضي ويتوهم أنه سيبني بها المستقبل، ولهذا، ومقابل الاختراقات المغربية في قضية الوحدة الترابية في الكركرات، والاعترافات الوازنة من طرف أمريكا وإسبانيا، كان الرد الجزائري هو قطع العلاقات الديبلوماسية مع المغرب والتلويح بالحرب واحتراف الاستفزازات، وعموما ترفعت المملكة وحسنا فعلنا. الاستقرار هو العمود الفقري، ولكن مع تحقيق أحلامنا الأولى في الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية سيكون هذا الاستقرار أمثل. إن إنجاح الانتقال الديموقراطي هو بوليصة التأمين الوحيدة لاستقرار دائم يوفر الرفاه والسعادة للمواطنين في إطار الملكية الديموقراطية، وما هذا على المغرب بعزيز.