ناريندرا مودي: عقد من الشعبية والاستقطاب السياسي في الهند    كمال عبد اللطيف: التحديث والحداثة ضرورة.. و"جميع الأمور نسبية"    أم كينية تسابق الزمن لإنقاذ ابنها من الإعدام في السعودية    ندوة علمية بمعرض الكتاب تناقش إكراهات وآفاق الشراكة بين الدولة والجمعيات    الزليج ليس مجرد صور.. ثقافة وصناعة وتنظيم "حنطة" وصُناع مَهَرة    احتفال بمناسبة الذكرى 19 للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعمالة المضيق الفنيدق    رئاسة النيابة العامة تستعرض جهود تعزيز الثقة والجودة في منظومة العدالة    الحسيمة تحتفل بالذكرى التاسعة عشرة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية    نهضة بركان يختتم تحضيراته لمواجهة الزمالك في غياب هؤلاء    حافظات القرآن من تارودانت يُضفن رونقًا خاصًا على الأبواب المفتوحة للأمن    أطعمة غنية بالحديد تناسب الصيف    الطوزي: النموذج التنموي الجديد طوي والمغرب غير بعيد عن الأزمة العالمية للتمثيلية السياسية    الحسيمة.. تخليد الذكرى 19 لإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية    التعادل السلبي يحسم ذهاب نهائي دوري أبطال إفريقيا بين الترجي والأهلي    وزيرة الثقافة الفرنسية تزور الجناح المغربي بمهرجان كان السينمائي    الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بأكادير تستقبل أطفالا من ضحايا زلزال الحوز    مفتشية الأمن الوطني تتسلم 2447 شكاية    الأمثال العامية بتطوان... (602)    كأس الكونفدرالية الإفريقية (إياب النهائي).. نهضة بركان على بعد خطوة واحدة من تتويج قاري جديد    هلال يدين ضغوط السفير الجزائري على الوفود الداعمة لمغربية الصحراء بكاراكاس    أخنوش يقود الوفد المغربي بمنتدى الماء العالمي بإندونيسيا.. وجائزة الحسن الثاني تخطف الأنظار    حنون تدخل على خط الرئاسيات الجزائرية    فيستي باز والمفارقة الإعلامية    السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج أسابيع قبل انطلاق موسم الحج    مطالب للحكومة بضمان تمدرس الأطفال المتشردين    إحباط تهريب وترويج 62,550 قرص مخدر وضبط ثلاثة مشتبه بهم    هكذا يهدد المغرب هيمنة إسبانيا في هذا المجال    نهائي الكاف.. الموعد والقنوات الناقلة لمباراة إياب نهضة بركان والزمالك    خطاب جلالة الملك محمد السادس في القمة العربية : تصور إستراتيجي جديد للعمل العربي المشترك    زهير الركاني: آليات الوساطة والتحكيم ركائز أساسية في عملية التطوير والتنمية التجارية لتنمية جهتنا و مدينتا    بدء وصول المساعدات إلى غزة عبر الرصيف الأمريكي المؤقت    نائب رئيس الموساد سابقا: حرب غزة بلا هدف ونحن نخسرها بشكل لا لبس فيه واقتصادنا ينهار    فلاحون فرنسيون يهاجمون شاحنات طماطم قادمة من المغرب    مداهمة مستودع بداخله قنينات خمر ولفافات كوكايين بطنجة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    وفاة دركي خلال حادثة سير بطنجة    التصدير يرفع أسعار الخضر بالمغرب ومهني يوضح    البحث عن الهوية في رواية "قناع بلون السماء"    تصفيات كأس العالم.. المنتخب المغربي النسوي لأقل من 17 عاما يفوز برباعية نظيفة على الجزائر ويتأهل للدور الرابع    المغربي مهندس مطار غزة يبرز "لقاءات مع التاريخ" في دعم القضية الفلسطينية    الدورة الأكاديمية "الشعري والسردي" فاس، 23-24 ماي 2024    بسبب سلوكه.. يوفنتوس يقيل مدربه أليغري بعد يومين من تتويجه بكأس إيطاليا    مشروع بأزيد من 24 مليون درهم .. هذه تفاصيل الربط السككي بين طنجة وتطوان    وزير الخارجية الإسباني: رفضنا السماح لسفينة أسلحة متجهة لإسرائيل بالرسو بموانئنا    شفشاون.. الطبخ المغربي فسيفساء أطباق تعكس ثقافة غنية وهوية متعددة    قرار جديد من الفيفا يهم كأس العالم 2030 بالمغرب    الصين: مصرع 3 أشخاص اثر انهيار مصنع للشاي جنوب غرب البلد    فرق كبيرة تطارد نجم المنتخب المغربي    ملتقى الأعمال للهيئة المغربية للمقاولات يبرز فرص التنمية التي يتيحها تنظيم كأس العالم 2030    افتتاح الدورة الثانية عشرة لمهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية بإقليم العرائش    المغرب يسجل 35 إصابة جديدة ب"كوفيد"    كيف يتم تحميص القهوة؟    دراسة: توقعات بزيادة متوسط الأعمار بنحو خمس سنوات بحلول 2050    رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً في إطار تحدٍّ مثير للجدل    الأمثال العامية بتطوان... (600)    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع السينمائي الشيليني باتريسيو غوثمان


حوار مع السينمائي الشيليني باتريسيو غوثمان
عن فيلم المؤلف التسجيلي، الذاكرة والنسيان،و الربيع العربي
باتريسيو غوثمان: سينمائي الشيلي الأول
حين عاد باتريسيو غوثمان إلى الشيلي، بعد إكماله دراسة السينما في مدريد سنة 1971، وجد نفسه في قلب الحدث السياسي الأهم الذي عرفه بلده وقارة أمريكا اللاتينية إن لم نقل العالم الثالث برمته. كانت المناسبة هي نجاح تجربة ديموقراطية متفردة، بداية بوصول الطبيب الماركسي سالفادور أليندي إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، ليتوّج في التاريخ كأول ماركسي يصل للرئاسة بطرق سلمية دون اللجوء للعنف الثوري؛ و نهاية بالسرعة القياسية التي حقق فيها هذا الرئيس العديد من الاصلاحات على عدة مستويات سوسيواقتصادية قلصت من الشرخ الطبقي بشكل ملفت للنظر. كان الشارع في الشيلي مسرحا لردود فعل عديدة و متضاربة. فإلى جانب شعور الاغتباط بهذه التغييرات القياسية كان نوعا من الخوف والتخوف على مصير هذه التجربة الديمقراطية مسيطرا على الجو العام. من جهة صعدت البرجوازية واليمين المحافظ في طرق وأساليب المعارضة والمقاومة؛ ومن جهة أخرى ظهرت أعراض التآمر بين هذه الأطراف المحلية والإمبريالية الدولية في فاعل الولايات المتحدة الأمريكية. كان واقع الشيلي أكبر بكثير من طموح المخرج المبتدئ. سبب كاف جعل باتريسيو غوثمان يضع جانبا نصوص سيناريوهات ومشاريع أفلام روائية بدأ الأشتغال عليها قبيل عودته من إسبانيا و في أيامه الأولى في أرض الوطن. فالأحداث اليومية أنذاك كانت حبلى بصراعات متعددة ومتجددة، جعلت سينما التسجيل والتوثيق المباشر تفرض نفسها بشدة متجاوزة كل رغبة إبداعية في المقاربة الروائية الخيالية، أو المعالجة بأسلوب جمالي و من منطلق همّ شكلاني. أخذ واقع الشيلي يومها بعدا ملحميا جعل أي عملية إخراجية لإعادة بناءه أو التقبض بأطرافه ضربا من المستحيل السينمائي. أو كما عبر غوثمان في إحدى المناسبات: "لم يكن الوقت مناسبا للشعرية وإنما للتوثيق."
انخرط باتريسيو غوثمان في عملية تسجيل ماراثونية على مدار ثلاث سنوات. فيها غطت عدساته الزوايا العديدة والمتنوعة لانتفاضة الشارع. كما سلط الضوء على اليمين المحافظ من مرحلة دسائسه ومؤامراته الدولية إلى تصعيداته العنفية؛ تتبع كذلك ملحمة شعب يساند الرئيس بحماس منقطع النظير. شعب قاوم بشتى الطرق والوسائل السلمية المتاحة له، وارتجل حلولا ظرفية لتخطي الأزمات التي اختلقها اليمين بمعاونيه و سدنته. و حين لم تستطع التحالفات بكل الطرق زعزعة الرئيس الذي أعيد انتخابه لفترة ثانية لم يبق من مجال إلا للخيار العسكري الانقلابي، والذي انتهى بإجهاض تجربة أليندي الديموقراطية وتعويضها بأشرس ديكتاتورية عرفتها أمريكا اللاتينية في تاريخها الحديث. تمخضت هذه التجربة التسجيلية عن رائعة من أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما لحد الآن، وهي ثلاثية معركة الشيلي (انتفاضة البرجوازية 1975، الانقلاب 1976، ثم قدرة الشعب 1978). انتج هذا الفيلم على مراحل متفرقة و في جغرافيات مختلفة.
كما هو معروف يعتبر الشيلي البلد الوحيد الذي راكم متنا سينمائيا ضخما أنجز جله في المنفى. و باتريسيو غوثمان، كجل السينمائيين الشيليين ذاق هو الآخر مرارة المنفى. في جغرافيات بعيدة عن الوطن مارس فنه كهم اختلط فيه الجمالي بالسياسي، والتاريخي بالإنساني. وبعد 17 سنة من هذا الوضع عاد غوثمان إلى الشيلي في سياق ما عرف بالتوافق السياسيconsensus . فقد توصلت المعارضة في الشيلي إلى قناعة التغيير من داخل المساحة التي يمنحها دستور 1980 الذي كان الديكتاتور بينوتشي يرمي به إلى تمديد صلاحية حكمه لفترة رئاسية لاحقة، لكنه أدى إلى نتيجة عكسية. بانتصار التجمع La Concentración وضعت المقاومة حدا لمرحلة بينوتشي و كان الثمن الذي دفعت في ذلك هو التفاوض على مستقبل الشيلي على حساب الماضي الاشتراكي. وبالتالي كانت نتائج التغيير منحصرة على المستوى السياسي دون المستويات الأخرى. عادت الديموقراطية إلى الشيلي سنة 1990 ولكن بدون مثالياث أليندي، أو رخصة عرض فيلم معركة الشيلي الذي ظل محضورا في القاعات الشيلية إلى حدود سنة 1997.
طبع الأجواء السياسية في شيلي مابعد بينوتشي نوع من الخوف على انهيار التوافق الهش بين النظام السابق والديموقراطية الجديدة. هذا الخوف جعل الشيليين يندمجون طواعية في نوع من الرقابة الذاتية عبر ممارسة نوع من النسيان المبرمج شمل سواء بسواء مرحلة بينوتشي والحكم العسكري الدموية، ومرحلة أليندي والاتحاد الشعبي المشرقة. في هذا القمع الذاتي والرقابة الآلية التي شكلت الوجه الوحيد للتعامل مع الماضي استطاعت ديكتاتورية المرحلة السابقة أن تتنفس في رئة الدموقراطية الجديدة.
لا يمكن الوقوف على قراءة مستوفية لسينما غوثمان دون الأخذ بعين الاعتبار هذا السياق الذي شكل منعطفا مهما في تأليفه على المتسوى النوعي قبل الكمي. على عكس العديد من السينمائيين الشيليين لم يقفل غوثمان مرحلة السينما التسجيلية في ظرف منعطف التوافق السياسي، و لم يعد إلى مشاريعه المؤجلة في السينما الروائية؛ وإنما انخرط بنوع من الوعي النقدي والهمّ التعبيري الجمالي في سلسلة إبداعات في الجنس التسجيلي جعلته بسواد الرأي أحد أقطاب هذا الجنس السينمائي ورائدا من رواد موجته التأليفية أو ما اصطلح عليه النقاد ب le documentaire d'auteure. عبر ما يزيد عن ستة عشر عمل تسجيلي آخرها رائعة الحنين إلى النور Nostalgia de La Luz (2010)، قدم باتريسيو غوثمان متنا سينمائيا يمكننا من خلاله الوقوف على قراءة الذاكرة الفردية والجماعية، و بجانب ذلك، رصد التطورات الشكلية والشكلانية التي لحقت جنس السينما التسجيلية. فيها نعاين كيف تطور هذا الجنس في مضامينه بتجاوز هم الاكتشاف الجغرافي، وهاجس التوثيق والروبورتاج السياسي، إلى المغامرة في تخوم التجارب الإنسانية الأكثر حميمية وأصبح بحق هذه السينما الاروائية *non fictionالتي تملك لكنتها الخاصة في التعبيرية السينماتوغرافية بعيدا عن المقال التوثيقي التلفزي أو المتابعة الوصفية.
في هذا السياق، تقدم سينما باتريسيوغوثمان نفسها كمدرسة قائمة بذاتها، يجتمع فيها الالتزام السياسي بالهم الفني والتجربة الجمالية الطلائعية. سينما تزاوج بين فرضيات المخيال ومادة الواقع. يندمغ فيها بشكل شاعري إجراء التوثيق مع وصفة الروائية. سينما الحيز المثالي الذي تتحقق فيه لذة المشاهدة عبر الوعي النقدي وضمير المساءلة.
---------------

مع باتريسيو غوثمان كان لنا لقاء في الخريف الماضي بمدينة هيوستن بالولايات المتحدة الأمريكية. أثناءه كان هذا المبدع السينمائي في عقده السابع، وبتواضع العظماء، يسافر بنا في جغرافيات الفن والسينما والأدب والسياسة. شيء جعل عملية الإنتقاء من حديثه صعوبة لا توازيها إلا المتعة التثقيفية في تتبعه. لم يفتنا في هذا اللقاء مع هذا السينمائي، الخبير في التقاط وقائع حراك الشارع، في فورته الثورية، و بعين نقدية وتحليلية، السؤال على رأيه في مادة الساعة، حراك الشارع العربي.

باتريسيو غوثمان


- فيلم المؤلف التسجيلي: نظرية لم تكتب بعد

- عبداللطيف عدنان: باستثناءات قليلة، أهمها كتابات جون كورنر John Cornerلم تنل سينما المؤلف التسجيلية حقها الوافر من خطاب النظرية في السينما. أغلب هذا الخطاب هو بداية مستثمر في السينما الروائية أو الخيالية كما يحب البعض تسميتها. وثانيا لم يصف بعد بشكل دقيق ما هو خاص وخصوصي في سينما باترسيو غوثمانPatricio Guzmán، كريس ماركرChris Marker، أونيكولا فيليبيرPhilibert Nicholai وعديد من الأسماء لا تسمح المناسبة بذكرها. هل يمكنك تحديد إطار نظري خاص تشتغل فيه ومن خلاله هذه السينما؟
- باتريسيو غوثمان: في الواقع‘ المجال النظري الذي نملكه كمخرجين مؤلفين في الفيلم التسجلي‘ ضعيف جدا‘ ونادر‘ ومشتت بين نظريات سينمائية أخرى. هناك حيز تنظيري لهذا الجنس السينمائي ولكن في أغلبيته متجاوز. جنس الفيلم التسجيلي تطوربسرعة في العشرين سنة الأخيرة و العديد من النصوص النظرية التي قرأتها لم تواكب هذا التطور وأصبحت بالية كنتيجة لذالك.
-ع ع: مثالا..
- ب غ: دون أن أشير إلى أسماء معينة بالتحديد، هناك بعض المنظرين من بريطانيا و أمريكا الشمالية وضعوا تصنيفات للفيلم التسجيلي لا علاقة لها بواقع الابداع الحالي. إن كان ولابد من مرجع تنظيري فأنا أجد نفسي مع قناعات الناقد أكثر من المنظر، كما هو الحال بالنسبة لعلاقتي مع الفرنسي جون لويس كمولي. هذا الأخير من خلال كتاباته المتميزة بالدقة في التحليل وبعد النظر، وضع يده، دون السقوط في متعاليات التنظير،على بعض الخاصيات الشكلية التي يتميز بها فيلم المؤلف التسجيلي.
من جهة أخرى لا يمكن غض النظر عن تنظيرات المدرسة الروسية وبالأخص مساهمات احد رواد هذا الجنس أعني تزيغا فيرتوفDziga Vertov، وإن أصبحت هذه النظريات،مراعاة لما نشاهده اليوم، أدبيات تنتمي لمرحلة ماقبل تاريخية.
-ع ع: ما هي أشكال هذا التطور التي جعلت إسهام نظري مهم كهذا تنتهي مدة صلاحيته وينتمي كما قلت لمرحلة ماقبل التاريخ؟
- ب غ: عديدة هي أوجه هذا التطور. منها ما هو داخل السينما نفسها، ومنها ما هو مرتبط بعوامل خارجة عن السينما. أحصر الحديث في الكلام عن النقلات النوعية التي حصلت على مستوى الشريط الصوتي. أعني ما حصل منه على مستوى استعمال الصوت الخارجي voice off ، و التعليق بالخصوص. في العشرين سنة الأخيرة تطورت هذه الإوالية الصوتية في اتجاه النص الأدبي. كما هو الحال في الرواية، صار التعليق يميل لما هو جواني و موجود في الدواخل. وبناء على هذا اصبح النص الكلامي يتميز بالبطء ويطغى عليه التخمين بالمفهوم السيكولوجي والتأمل بالمفهوم الفلسفي. انفصل الصوت الخارجي عن الصورة وحقق نوعا من الاستقلالية بالنسبة لها، قد يلامسها أحيانا ليبتعد عنها أحايين عديدة في اتجاهات اخرى. هذا التطور الذي حصل في مجال العنصر الصوتي هو ما أصبحنا نلمسه في العشرين سنة الأخيرة خصوصا مع مؤلفين ك روبرت غرامر و هايدي نيغمان Heddy Honigmam.هذا الأخير ذهب بعيدا وتخلى بشكل شبه مطلق عن التعليق في أفلامه.
- ع ع: كيف أثر هذا على عنصر آخر في المركبات الصوتية للفيلم التسجيلي كعنصر الموسيقى المصاحبة.
- ب غ: الموسيقى هي الأخرى أصبح لها دور مهم في الآونة الأخيرة. هي الأخرى حققت نوعا من الاستقلالية عن وظيفة التدوير أو الوظائف التقليدية التي أنيطت بها من تفخيم الانطباع إلخ. كما هو الشأن بالنسبة لكل المركبات اللغوية الأخرى للفيلم صارت دور الموسيقى يتفعل من خلال رؤية فيلم المؤلف و سينما الإبداع. وأقصد هذه السينما المجازية التي تجد لها مرجعية في الشعرية التي تحاول التقبض بالزمن، أو بمعنى آخر بإيقاع الحياة. سينما تسجيلية بهذه التطورات‘ إلى الساعة‘ لا تملك جسما تنظيريا. المنظر لهذا السينما لازال في مجال المستقبل.
-ع ع: ألا ترون في جيل دولوز من قارب هذا التنظير بطريقة أو أخرى من خلال طروحاته ذات المنحى البرغسوني عن السينما والزمن؟
- ب غ: دولوز كما تعلم لم يركز مائة بالمائة على السينما. كان أكثر تركيزا على الكلمة والمباحث الدائرة في فلكها. دون الذهاب بعيدا أجد الكثير من هذا التطور في سينما كريس ماركر،الذي من فيلمه la jetee إلى Sans Soliel حقق قفزة إبداعية مهمة ارصت تقليدا جديدا في هذا الجنس السينمائي. صار مخرج الكلمة في بعدها التأملي والرمزي. نفس الكلام يمكن أن يطبق على الكندي بيير بيروPierre Perrault. كما قلت لا نعلم من سيكتب نظرية هذه السينما التسجيلية الجديدة التي سماها النقد فيلم المؤلف التسجيلي le documentaire d'auteure ، والتي نمارس كمخرجين معدودين و محدودين جدا، لا أبالغ إن قلت إننا ألف سينمائي‘ إن لم نكن أقل بكثير من ذلك.
- ع ع: كأحد رواد هذه السينما، كيف يشتغل باتريسيو غوثمان من خلال نظرته أو نظريته الخاصة؟ كيف ترى وتصنع الفيلم التسجيلي؟
- ب غ: اشتغالي التأليفي نابع بالدرجة الأولى عن حدسي الخاص. و تطوري في هذا الجنس السينمائي تحصيل لنضجي في استعمال اللغة السينمائية، والوعي بالطاقة والقدرة التي تمكلها السينما التسجيلية حين تعتمد لغة سينمائية محضة و تبني دلالتها على أبجدية سمعية بصرية بالدرجة الأولى. ثانيا، إصراري على تأليف أفلام تسجيلية تبتعد عن النص الاستعراضي و البيداغوجي. أفلام تتخلي عن الصوت الخارجي المعلق إن لم تكن هناك حاجة لذلك. ثم أخيرا الأشتغال من داخل الوعي بالأمكانيات التي تمنحها التيكنولوجيا الحديثة. لا ننسى أن التيكنولوجيا الحديثة طورت إمكانيات اللغة السينمائية. في عملية المونتاج مثلا أصبح المخرج، وبفضل التقنية المعلوماتية والبرامج الحاسوبية، يملك أكثر من بديل في عملية المعالجة، وفي مجال ساعات صار بإمكانه تغيير التوليف من اتجاه لآخر. مع الإمكانيات القديمة كان هذا الأمر شبه مستحيل. كانت المعالجة التركيبية عبار عن تقطيع وتلصيق تختفي معه معالم الفيلم و يجعل عملية المونتاج منهكة ومستهلكة للمجهود. الآن، بفضل التيكنولوجيا الحديثة صار الاشتغال ممكنا من داخل الوعي بكون الفيلم التسجيلي في الأول والأخير نتيجة اختيار لحياكة معينة، قماشة نهائية لعديد من الإمكانيات و البدائل.
-ع ع: قلت حياكة textil ‘ قماشة tejido ، ولكونك مؤلف في هذا الجنس أنت إذا تعني نص texto؟
- ب غ: كلمات لها نفس الأصل الذي يوحي بعملية التوليف وفنية الحياكة. نصية الفيلم صارت واقعا ملموسا أكثر مع ما تقدمه التيكنولوجيا للصناعة السينمائية. أصبح المونتاج تطريزا باللغة التقريرية. كما أصبح سريعا ودقيقا. وبنفس السرعة أصبحت تتحقق كذلك النتائج الجمالية والشعرية المتوخاة من ورائه.
-ع ع: .. كيف تمرست مع هذه السرعة مقارنة مع ما يقارب ثلاثة سنوات من الاشتغال على توليف جزء واحد من ثلاثية معركة الشيلي؟
- ب غ: (يضع يده على رأسه للحظة ويكمل).. لقد وضعت هيكلة فيلمي الأخير الحنين إلى النور في غضون شهرين. لأن التي ركبت الفيلم كانت شابة في آخر عشرينياتها، كانت سريعة في العمل. بمجرد ما أوضح لها الفكرة حتى تترجمها للتو للغة المعالجة التوليفية. لكن لكونها شابة و كوني المخرج تريّثت قليلا، لأن الأمر أصبح يتعلق بموضوعية العمل. استدعيت سيدة لها باع طويل في عملية التركيب والمونتاج، اشتغلت من قبل كمخرج مساعد مع السينمائي كريستوف كيسلوفسكي. لقد ساهمت، بنضجها وبحنكتها في الميدان، في خلق التوازن الذي كنت أتوخاه من وراء هذه العملية. المونتاج كما تعلم عملية أساسية في التأليف التسجيلي. مخرج ك نيكولا فيليبر كانت أفلامه نتيجة للمونتاج قبل كل شيء. كان يشتغل بمفرده. كخلاصة ما يميز الإبداع في الفيلم التسجيلي اليوم هو السرعة والاشتغال بشكل فردي.
- سينما ملتزمة بفنها
- ع ع: إلى حدود ليلة الأمس، في الدردشة مع الجمهور التي تبعت العرض أشرت إلى كونك لازلت مؤلفا سينمائيا ملتزما. اختيارك لجنس التسجيلي ورؤيتك لهذا الجنس من خلال بؤرة نقدية كآراء وتعاليق جون لويس كومولي عن سينما السردية المضادة، وسينما المقاومة، إضافة إلى مشوارك الطويل والغني الملتزم بقضايا تصب كلها في تبعات الديكتاتورية والتسلط في واقع الشيلي قد يجعل هذا الالتزام يفهم في أحادية النظرة السياسية. وفعلا، جانب الالتزام السياسي ألقى بظله كثيرا على الجوانب السينمائية الإبداعية والجمالية في أعمالك. في نفس المناسبة عدت لتقول إن عملا سينمائيا ضخما وناجحا مثل معركة الشيلي لم يلق لحد الساعة أي مقاربة كسينما. هو عمل ضاع في السياسة.
- ب غ: في الحقيقة من معركة الشيلي لحد الآن كان لي اهتمام بالجانب الجمالي حين إنجاز الفيلم التسجيلي رغم أن ظرفية إنجاز هذا الفيلم بالذات لم تكن تسمح بأي مقاربة جمالية. فيلم معركة الشيلي نفسه لم يكن ليبقى حاضرا بجاذبيته لحد اليوم لولا هذا الاتهمام بالجمالية. السر في هذا هو كون الفيلم وثائقيا لكنه يعتمد حكاية مروية بشكل جيد. بنية الفيلم كانت نتيجة لتفكير دقيق شمل واحترم كل عناصر الحكاية من عقدة وتصاعد وصراع وانفراج، هذا إضافة إلى الموضوعة السياسية والأيديولوجية. لو لم تخضع هذه الموضوعة لهذه البنية الجمالية لما كان بالامكان الرجوع لهذا الفيلم، ولما تحققت له هذه الاستمرارية في الإقبال عليه. نفس التقييم يمكن أن ينسحب على العديد من أفلامي خصوصا التي تطغى فيها الشعرية أكثرعلى جانب المقابلة والحوار. لا ننسى أن الشاعرية والجمالية، أعني الاشتغال جيدا على الجوانب الشكلية، غالبا ما تشكل مخرجا من مأزق برودة الموضوعة ورتابة المحتوى. شيء أظنني وقعت فيه في فيلم محاكمة بينوتشي الذي طغى فيه الخطاب القانوني برتابته وبرودته.
ما يضيء ما أقول أكثر هو فيلم أليندي. هذا الفيلم نموذج للحظات الشاعرية الصرفة: نلمسها مثلا في شخصية هذه العجوز التي أحتفظت بألبوم صور أليندي مدفونا تحت الأرض طيلة سنوات الديكتاتورية. أو في لحظة درامية كالتي اكتشفنا فيها العلاقة السرية التي كانت لأليندي مع سكريتيرته الخاصة مثلا. هذه العناصر الدرامية والجمالية والشاعرية في الفيلم هي التي أثتت الأرضية بشكل أفضل لتمرير خطابه السياسي والأيديولوجي. في اعقادي وانطلاقا من قناعاتي كسينمائي، غياب الشاعرية هو ما يفسر عدم استمرار جاذبية العديد من الأفلام الملتزمة. حين ينحاز المخرج التسجيلي لاختيار المباشرة في الشكل والجوهر إظافة إلى المباشرة في الطرح مهما كانت للموضوعته من جاذبية غالبا ما يكون سهلا وقوع الفيلم في فخ الرتابة‘ و غالبا ما يفقد جمهوره. لا أعني بهذا أن عواطف وحواس الجمهور هي المحرك الأول للإبداع، وفي نفس الوقت لا أعني عدم أخذ الجمهور بعين الإعتبار. ما أعنيه هو أنه يجب على الفيلم أن يتضمن قصة محكية بشكل جيد حتى لا يتخلى عنك الجمهور. ولهذا منذ بداية ممارستي للسينما كنت مهتما بالشكل كاهتمامي بالمحتوى.
بالنسبة للإلتزام السياسي، وهذه مغالطة غالبا ما ترد مع إسمي، اصرح بأنني لم انتم قط لأي صف سياسي من الوحدة الشعبية La Unidad Popular أيام الرئيس أليندي. لم أكن ملتزما بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. لم أكن متحزبا و لم أفعل ذلك من باب الحفاظ على المسافة بيني وبين كل القوى اليسارية التي كانت نشيطة في الفترة. أردت عرض موقف الحزب الاشتراكي كما عرض موقف الحزب الشيوعي ومواقف الأحزاب اليسارية الاخرى، بما فيها التي تؤمن بالعنف الثوري. وهو ما يعني إنجاز عرض بانورامي لهذا الفسيفساء اليساري العجيب الذي كانت وراءه سياسة أليندي. أليندي لم يكن قط مع فكرة الحزب الواحد. كان دائما يدافع عن التعددية. لأن في هذه التعددية ضمان لبقاء فعالية القوى الشعبية متحدة أمام عدو قوي كالامبريالية المتحالفة مع اليمين. بدون تعددية في اليسار يسهل السقوط في الخلافات الجانبية التي تؤدي إلى التفرقة و بالتالي فشل التجربة ككل. و بالتعددية تضمن كذلك سيرورة التجربة في الاتجاه الصحيح، دون السقوط في فخ النخبوية الحزبية التي تملي القوانين والاعراف، وتؤسس لبيروقراطية تلغي تطلعات الفرد وتقضي على الثورة في القناعة والعمل. التزامي السياسي كان هو ترجمة هذه التعددية على مستوى سينمائي جمالي. وبالتالي أظن أن الفعل الأساسي للمخرج السينمائي هو الممارسة من جانب الهيكل الشكلي وليس جسم مادة المضمون فقط. وهذا لا علاقة له مع السياسة أو أي مادة سياسية مهما فرضت نفسها كأولوية. إذا عهدت لي بتصوير فيلم تسجيلي حول نمو شجرة سأفعل ذلك بنفس الهمة والاهتمام الذين أوليتهما لمعركة الشيلي.
- الذاتي والموضوعي السينما والأدب
- ع ع: فيلم أليندي عمل يسع تقييمه ما قال خورخي لويس بورخيس عن كون التاريخ الكوني هو تاريخ شخصي قبل كل شيء. في هذا الفيلم تستعمل لأول مرة ضمير المتكلم. وتعتمد نصية غنية بالمؤشرات الذاتية. وهو ما جعل من هذا الفيلم شهادة شخصية عن البطل الأول لمعركة الشيلي،الرئيس أليندي، و بصراحة الاحتفاء و الاحتفال. فيلم أليندي رغم هذا لم ينحرف إلى نوع من السردية البطولية وظل محتفظا بالموضوعية التحليلية التي جعلت منه درسا في التاريخ يتوجه للعقل كما يتوجه للعاطفة. لغوثمان أسلوب خاص في معالجة النص من خلال جدلية التاريخي والشخصي،ما يجعل أي تقييم للعمل لا يستجيب لأي مقاربة تعتمد معيارية الذاتي والموضوعي . ألا يسهل هذا الحكم على حقيقة تاريخية كأليندي كمجرد إبداع ذاتي لغوثمان؟ من جهة أخرى هل أصبحت عملية التوثيق التي ظلت العنصر المميز للفيلم التسجيلي، خصوصا هذا الذي يتناول المادة التاريخية، في غنى عن هذا الاستيهام الأديولوجي المسمى بالموضوعية؟
- ب غ: بالنسبة للموضوعية أجزم بعدم وجودها إطلاقا في الفيلم التسجيلي. لم تتحقق بشكل من الأشكال في هذا الجنس منذ فالاهارتي أو تزيغا فيرتوف إلى يومنا هذا. هناك وجهات نظر نتوجه بها كبوصلة أثناء عملية اختراق الواقع لنعرضه بشكل وليس بآخر. لا يمكن أبدا إخراج فيلم منزه عن الذاتية، بنصية محايدة، neutro. الكاميرات المعلقة في سقف البنوك هي التي تصور بشكل موضوعي، ولا يمكن لمخرج مؤلف أن يصور كذلك. لا يمكن أن يكون مجرد وسيط بارد و شفاف بين الواقع وشخصه كمؤلف، وبين الواقع كما عرضه والمتلقي كما يشاهده. وتجربة نبيلة تحالفت قوة إمبريالية ضخمة كالولايات المتحدة وجهاز عسكري فتاك لإفشالها وتهشيمها، تجد في هذا التحالف خير دليل على وجودها كحقيقة تاريخية.
-ع ع: التداخل بين الجنس الروائي والجنس التسجيلي أسلوب تميز به تأليفك منذ عملك الأكثر تطلبا للمباشرة والموضوعية، معركة الشيلي. لغتك الوصفية هي الأخرى لا تخلو من مصطلحات كالسردية والدراما والشعرية. اصطلاحات غالبا ما نصادفها في الحديث عن الفيلم الروائي. إن لم يكن مرد هذا إلى هاجس الفيلم الروائي الذي لم تنجز فيه غير عمل يتيم، هل مرده إلى رؤية تأليفية مابعدحداثية تشكك في النوع وتلغي الحدود بين الأجناس؟ ما مصير الواقعية كنتيجة لهذا؟
- ب غ: الاقتراضات الاصطلاحية من جنس الفيلم الروائي كوجهة النظر والدراما، هذه أمور تحتمها السردية في أي فيلم. لكن يجب الانتباه إلى الخاصية التمييزية للفيلم التسجيلي والتي هي الطرح الواقعي. الفيلم التسجيلي يحكي قصة من الواقع بنفس المواد التي يمنحها هذا الواقع. طبعا من هذا الواقع تتحصل أمور فردية وذاتية عديدة. لننظر إلى الفيلم الذي أنجزته حول الروائي جيل فورن بعنوان لايترك مجالا للموضوعية ك: Mon Jule Verne . في هذا الفيلم أحكي بداية عن هذه المدرّسة التي علمتني كيف أسافر بتمرير أصبعي حول دائرة الكرة الأرضية. بهذا المشهد الافتتاحي الذي صورته في البيت الذي لازال شاهدا على هذا الحدث رغم رحيل المدرسة، استطعت الأخذ بيد المشاهد وإقحامه معي في الحكاية حول جيل فورن. وحتى أظل في العوالم السحرية لرواية جيل فورن، ارتأيت كذلك اختيار شخصيات من الواقع لتحكي تجربتها الخاصة مع قصص هذا الكاتب، و كيفة فتقت هذه التجربة فيهم نواة روح المغامرة. عبر هؤلاء المغامرين في باطن البحر والفضاء وفي نقط الأرض الجليدية البعيدة، تعي الروائي جيل فورن بشكل ذاتي لن تحسه في برنامج سردي يعتمد بديل الحوار الثنائي والمقابلة مع المختصين في المجال الأدبي من نقاد أو محاضرين أكاديميين. بالتالي تضيع ساحرية الروائي ورواياته في رتابة التعليق التحليلي والديداكتيكي. كل ما فعلته في الفيلم هو ابداع تنويعات سردية روائية جذابة دون الابتعاد عن الواقع. يمكن الابتعاد عن الواقع في فترة من الفترات، بدافع التأمل الميتافيزيقي، أو التسطير على رمزية معينة، لكن المهم هو أن تظل وفيا للواقعية.
- ع ع: هل يمكن أن نقول أن الواقع أصبح بالنسبة لك مجرد شبكة سيرك تحمي الفيلم التسجيلي من السقوط في أرض السردية الروائية الصرفة و تحتفظ له في نفس الآن بنوع من المرونة في الحركة داخل حيز اللا واقع . هل نقول أنها مرحلة قطيعة مع السينما المباشرة Direct Cinema؟ فيلمك الأخير الحنين إلى النور يقدم نفسه من خلال هذه المعادلة الجديدة مع الواقع. أعني هذا الفرضي الذي يصبو إلى واقع ويستهجن انطباع الواقع.
- ب غ: الحنين إلى النور فعلا معادلة بين الواقع والافتراض. اشتغلت أنا وزوجتي منتجة الفيلم رينات ساشي Sachse Renate على السيناريو لمدة خمس سنوات منعزلين عن العالم الخارجي في بيتنا بباريس. هذا الفيلم لم يكن ليتحقق بالشكل المرغوب فيه لولا العثور على شخصيات تتماهى وتشعر ببعضها البعض. مثلا، كان علي أن اجد فزيائيا فلكيا يحس ويتماهى مع النساء اللواتي تبحثن عن رفات أبنائهن في صحراء أتكاما Atacama. لو لم أجد فلكيا بهذه الوصفة كغاسبار كالاس ماذا كان سيحصل؟ كان علي أن اعتمد تعليقا صوتيا مصاحبا أوضح فيه أن وظيفة عالم الفلك هي نفس وظيفة النسوة، كلاهما يقوم بعملية تنقيب عن شيء مرتبط بالماضي. في هذه الحالة سيتحول الفيلم إلى مونولوغ أطرح من خلاله فرضية قد تقتنع بها كمتلقي و قد لا تقتنع. لكن بعثوري على غاسبار أكون قد وجدت في الواقع ما خمنت فيه أثناء كتابة السيناريو في عزلتي داخل البيت. قد تتجلى فكرتي بشكل أفصح وبطريقة أوضح مع شخصية فالانتينا. هذه العالمة الفلكية لها والدان في عداد المفقودين، و لكونهما ضاعا بتلك الطريقة المأساوية فهي تشتغل في فيزياء الفضاء بقناعة أنها تتواصل معهما في كل لحظة في ذرات المجرة. هنا أصبحت شخصية ك فالانتينا العمود الفقري الذي يستقيم به الفيلم طرحا وشكلا، ولدرجة يصعب علي استيعاب الفيلم كمنجز وعمل بدونها أو بدون غاسبار. لم يكن لهذا الفيلم أي طريقة للتحقق بتلك الساحرية دون فالانتينا وغاسبار أوعالم الآثار الذي غاص بي أكثر في أعماق الذاكرة حين قال: باتريسيو لا تظن أننا نطمس ذاكرة الإنقلاب العسكري فقط ولكننا نطمس كذلك ذاكرة أخرى قريبة وهي إجلاءنا للسكان الأصليين منذ مائتين سنة. بناء على هذا، يمكن أن تصل إلى نتيجة بخصوص التأليف السينمائي التسجيلي، وهي أن تشتغل أثناء الكتابة انطلاقا من عدة فرضيات لن تخسر شيئا إن نقبت عن معادلات واقعية لها وموجودة في الواقع. قد يبدو لك في بعض الأحيان أن تكتب عن واقع ليس موجودا، لكن التحدي أمامك كمؤلف تسجيلي هو أن تتحقق إن كان فعلا هذا الواقع ليس موجودا. إن حصل وكان هذا المعادل موجودا سيكون هو الجدلية المحركة للفيلم. وكخلاصة، فيلم الحنين إلى النور هو نتيجة لهذا المد والجزر بين ماطرحته نظريا وفرضيا أثناء الكتابة وما تحصل أثناء التسجيل في الواقع. وهذا شيء رائع جدا.
- ع ع: هل معنى هذا أن فيلم المؤلف التسجيلي هو نتاج الفكرة والمصادقة على الفكرة بعنصر الواقع. وهل عملية التأليف هنا ترويض للواقع. هل نحن الآن بصدد شوط آخر للقطيعة مع هاجس الواقعية الذي حرك جنس التسجيلي في بداياته، بعد شوط اللاروائية عند كريس ماركر في عمله بلا شمسSans Soliel.
- ب غ: الحنين إلى النور لازال فيلما تسجيليا. كل ما هنالك أننا تركنا وراءنا تلك المرحلة التي تستدعي الخروج من البيت للتصوير. طبعا الموضوعة تفرض أسلوب العمل. إن أنت في طور إنجاز فيلم تسجيلي عن الثورة العربية ستضطر، طبعا، للخروج من البيت مباشرة لتصور بالكاميرا أو التليفون أو اي شيء تمنحه التيكنولوجيا الحديثة. طبعا ستحضّر سيناريو بياني وتصميم أولي للعمل حتى لا تتيه: ستنظم نفسك بجدول للتصوير مثلا: اليوم في ساحة التحرير، غدا في البرلمان، ثم مركز الشرطة، إلخ. ستوزع مادتك بين بؤر نظر تتبع من خلالها حركة النظام وأخرى تتبع بها حركة المعارضة، وربما أطراف أخرى إلخ.
- ع ع: تماما مثل معركة الشيلي..
- ب غ: تماما. المهم في العملية هو اختيار البؤر التي ترصد النقط التي تمرّر الحدث إلى الواقع. ولكن لنفترض أنك معهود بتصوير فيلم تسجيلي عن جمال عبدالناصر وحلم القومية العربية. والحالة هذه، يجب أن تغير استراتيجية العمل، و تعتمد على فعّاليات سردية أخرى. ستترك سينما الحقيقة cinema verite والسينما المباشرةdirect cinema وتعتمد فعاليات سردية من قبيل الأرشيف، التعليق الصوتي، الفوتوغرافيات، تصوير الأماكن التي كان فيها هذا الزعيم، وحوار الأشخاص الذين يعرفونه إلخ.
-ع ع: مثل أليندي..
- ب غ: فعلا. إذن أنت تستنتج أن الموضوعة هي التي تملي الاختيار السردي. ودون أن يكون للأمر علاقة بأسلوب العمل أو المدرسة السينمائية ولو كانت سينما الحقيقة. الموضوعة هي التي تفرض إختيار بؤرة التسجيل من هنا وليس من هناك، هي التي تحدد إن كانت اللقطة ترافلينغ أم تابثة. فالنظرة إلى موضوع ما هي التي تمنح الشكل الذي نرى به هذا الموضوع.
- ع ع: إذن كما الموضوع يملي الاختيار السردي، هذا الأخير بدوره يملي طريقة التلقي ويوجه التأويل؟
- ب غ: دائما.
- الربيع العربي
- ع ع: سقت أمثلة لها ارتباط بالواقع العربي الحالي. وسقت هذه الأمثلة في الحديث عن كيفية التسجيل للحدث التاريخي. شيء قعّدت له بمعركة الشيلي الذي أصبح مرجعا لا غنى عنه في تسجيل الحراك الجماهيري ضد الاستبداد والديكتاتورية. في حوارك الشهير مع جوليان بورتون الذي دار في هافانا سنة 1973 تنبأت أن شعوب العالم ستخوض مستقبلا معركة الشيلي الخاصة بها. هل تجد في ما يحدث في العالم العربي اليوم ما يحقق هذا التنبؤ؟
- ب غ: ما يحدث في العالم العربي اليوم أعظم شيء حدث في العشر سنوات الأخيرة وربما ما يتبعها. إنه لشيء عجيب ورائع تشعره وأنت تشاهد الشعوب العربية في بلدان المغرب العربي، والخليج والشرق الأوسط تنتفض على هذه الأنظمة العمودية التي ساندتها أروبا والولايات المتحدة، وتقرر بنفسها مصيرها ومسارها التاريخي. هذه الحركات العفوية تنم عن شجاعة لا يصدقها العقل. شجاعة الشعب السوري مثلا ليس لها مقابل في العالم. شعب يرمى بالرصاص كالعصافير، و مع ذلك لا يتوانى عن الخروج للشارع مرة بعد أخرى. هذه ظاهرة عجيبة لهذا الإنسان الذي يصبو إلى انعتاقه بغض النظر عن حجم وشكل المعيقات ودرجة خطورة العواقب.
- ع ع: وصفت حركة الشارع العربي بالعفوية. كلمة العفوية تجعلني أستحضر الفيلم التسجيلي ساعات الأفران للمخرج الأرجنتيني فيرناندو سولاناسFernando Pino Solanas. هذا الفيلم أيقونة أخرى في التسجيل لانتفاضة الشعب الأرجنتيني. لن أخوض في الفليم. أريد فقط التسطير على تعليق سولاناس على فشل حركات الشارع لأنها تنطلق عن عفوية. هل يمكن اقتراض نفس الحكم من هذه الذاكرة التسجيلية لاستشراف ما يحضره المستقبل للثورة العربية؟
- ب غ: لا أظن بوجود وصفة معينة للعمل الثوري. كل ثورة تحمل معها افتراضات لأساليب أنجع و طرائق أحسن للتنفيذ. ثورة أكتوبر كانت ستؤدي إلى نتائج بشكل آخر لو أن لنين تأخر قليلا في سويسرا كما قيل أو لو أن تروتسكي لم يؤمن بالجيش الشعبي إلخ. الثورة في الأخير احتمالات ورؤى. لكنها في الأصل تبقى فوضى تتحول فجأة إلى نظام يشتغل و يتفعل في اتجاه ما. لو أن الثورة الكوبية، كمثل آخر، لم تتفرع إلى ثلاثة سبل؛ فيديل كاسترو في طريق، و تشي غيفارا في طريق آخر وسينفويغوس في طريق ثالثة لبقيت منعزلة في جبال سييرا ميسترا إلى أن قضي عليها. سبل الثورة عديدة، وليس هناك صيغة خاصة. طبعا هناك عناصر للتصعيد الثوري، وهناك مراحل تقطعها الثورة يمكن تحديدها والوقوف عليها. فعلا لا يمكن معرفة ما سيؤول إليه العالم العربي. في نفس الوقت، لم يكن ليحدث أي شيء فيه لولا هذه العفوية التي حركت الثورة. الجماهير تخرج للشارع في الوقت الذي لازالت فيه عدة أطراف تتحدث عن الفرصة المواتية، والوقت المناسب للتغيير. الجماهير خرجت للشارع وهذا هو الأهم.
-ع ع: ولكن، مقارنة مع الثورة التي عاينتها وسجلت أوجهها العديدة، الخفي والظاهر منها، هذه ثورة مختلفة. في ثورة معركة الشيلي كان الخط الفاصل بين طرفيها واضحا: هناك اليمين المحافظ و أذرعه الفاشية والعميلة، وهناك اليسار الاشتراكي والماركسي والتنظيمات العمالية. هناك الشيلي وهناك القوى الإمبريالية. هناك الجيش وبينوتشي وهناك القوى الشعبية و أليندي. في الثورة العربية ليس هناك خط واضح يفصل بين هذه العناصر: الجيش الذي كان ضد القوى الشعبية في الشيلي هو من يرعى ويحرس الثورة في تونس ومصر؛ القوى الإمبريالية التي حضّرت ودفعت بينوتشي ضد أليندي هي التي، في شكل النيتوNATO ، تساند وتحمي الثوار في ليبيا. هناك أطراف تدعم لوجيستيكيا و ماديا انتفاضة شعب عربي و تساهم في نفس الوقت في إجهاض انتفاضة شعب عربي آخر. ألا تجد في هذا التداخل ورمادية الخط الفاصل خطرا يتهدد الثورة العربية و هي بعد في مهدها؟
- ب غ: اتفق معك. هناك خطرعظيم. و إن كان حجم الخطر يعادل حجم التفاؤل الذي أشعره بشأن الثورة العربية. الخطر والتفاؤل عندي في نفس المستوى. لا أحد يعرف مصير هذا الحراك. في هذا الحراك هناك غياب واضح للتنظيمات السياسية، هناك غياب للوعي الثوري، وانعدام تقليد التنظيمات النظالية العسكرية. ليس هناك سياسة واضحة أو برنامج معين، وهذا خطر. ولكن من جهة أخرى، تفجرت الظاهرة، ونحن الآن وسط العاصفة. كل ما نأمل ونتمنى هو الوصول إلى بر النجاة.
- الذاكرة الملحة
- ع ع: ما يميز أعمالك الأخيرة هو الاهتمام بموضوعة الذاكرة. لا يخفى على متتبع أن التزامك ومقاومتك أخذا شكلا آخر وفي جبهة أخرى. أنت الآن تقاوم الإمبريالية والفاشية في أشرس مراحلها وبأعتى أسلحتها. تقاوم ما تسميه النسيان المبرمج وهذا التدجين الذي يمارسه الإعلام بإفراغ المواطن من أي وعي سياسي أو قدرة على التفكير والتخمين. ألا زلت تؤمن بضرورة السينما التسجيلية انطلاقا من قناعة عن هذه السينما كحق في المواطنة وهي ممارسة للنقد الذاتي.
- ب غ: هناك عملية نسيان مبرمجة تمارسها إمبريالية السوق لا تختلف كثيرا عن التي مارستها الفاشية. أكتفي بأن أحكي لك أني في هذه الأيام التي قضيتها هنا في هيوستن بتكساس، لم أصدق ما رأيته وأنا أشاهد التلفزة الأمريكية. تلفزة لا تخبر بأي شيء. تحولت فيها الأخبار الدولية إلى مجرد تركيب استنتاجي مقتضب وشبه مجرد. مشهد تسيطر عليه الدعاية بشكل يجعلك تحس أنك تشاهد فقط برنامج دعايات لا غير. وهذا الوضع ينسحب على معظم المحطات. طبعا هناك قنوات مختصة وتثقيفية للأسف لم تتح لي الفرصة لمشاهدتها. هذا الأمر رهيب جدا. ذكرني بالشيلي، لأن التلفزة بالشيلي أصبحت كذلك. طبعا على المستوى التقني أصبحت تلفزة جيدة. تيليسيدي TELESEDE تشتغل بشكل جيد، ولكن ليس فيها من فجوة للمادة الجيدة، ولا لحظة للتفكير والتأمل. تلفزة تطغى فيها العقلية التجارية. ما فحوى المدارس التي أنشأنا لتعليم الشعب وتوعيته حين نقدم له برامج تلفزية تحارب ذكاءه وتقلل من قدرته على التفكير. للإشارة في أروبا لم يستفحل الوضع لهذه الدرجة. طبعا يطغى على التلفزة الأسلوب التجاري الدعائي، لكن لازال هناك العديد من الجيوب الإعلامية تقاوم ببرامج جادة.
الإنتاج السمعي البصري هو صناعة للذاكرة. وطبعا، كما أشرت، تطوّري العملي رصى على الاهتمام بموضوع الذاكرة والنسيان وفقدان الذاكرة كمواضيع رئيسية. أستحضر دائما خورخي سانبرومJorge Semprun وانا أتطرق للحديث عن الذاكرة. لأن كتابته من أجمل ما كتب عن الذاكرة والنسيان. منذ مدة وأنا أفكر في إنجاز عمل عن هذا المفكر. من خلاله يمكنك أن تقف على ما يحيط بالذاكرة. المخرج من تاريخ ثقيل من التعسف هو الذاكرة وليس النسيان كما يسود في الوعي العام. أحب أن أضيف مسألة أخرى في غاية الأهمية بالنسبة لي. إن كانت هذه الفوضى التي نعيش قلصت من أهمية الإديولوجيات، وفيها تحولت السياسة إلى فساد سياسي، يبقى الحل في عدة خطابات أخرى منها العلوم. في نظري أصبحت العلوم اليوم تشغل حيز السياسة والأيديولوجيا. لأن العلوم اليوم تعين أفضل على الحياة، وبالتالي تعيننا على الحياة بشكل أفضل.
حاوره: عبداللطيف عدنان / هيوستن نونبر 2011
خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة
*Nonfiction cinema
أميل إلى ترجمة هذا المصطلح بالسينما اللاروائية عوض السينما اللاخيالية. والسبب هو أولا كون عنصر المخيال والخيال متوفر في هذه السينما وحاضر مع التسجيل كما هو الحال عند كريس ماركر. وتاليا هو كون السينما الروائية لا تشترط حضور عنصر الخيال، في تحديد مفهومها، أكثر من بنية سردية روائية. لنتذكر على سبيل المثال مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية، والعديد من نماذج السينما الثالثية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.