تطرح هذه الورقة مجموعة من النقط بشكل تلقائي للنقاش حول اليسار على ضوء التطور الذي عرفته الافكار المرتبطة باليسار، كالاشتراكية والماركسية والراديكالية منذ بداية المعسكر الشيوعي، ثم بعد مرور ما يناهز العقد من ممارسة اليسار للسلطة السياسية منذ حكومة اليوسفي. وتهدف إلى البحث عن مقتربات تسمح بتحديد الدور الذي يلعبه هذا التيار في الساحة السياسية والفكرية المغربية باعتباره ظل المعبر الابرز إلى جانب الوطنية، عن أطروحات الحداثة كنظرة للعالم وكمشروع سياسي. تلتقي النقاشات حول اليسار في المغرب حول أزمة هذا اليسار وتجدده ومآله، مع ما يحدث على المستوى العالمي في عدد من النقط، أهمها مراجعة المواقف المؤسسة من السوق الحرة ومن الطبيعة الطبقية للدولة. هناك أيضا بروز الحركات الاجتماعية الجديدة التي أصبحت تعبر عن قضايا ظلت تعتبر هامشية في انشغالات اليسار، كقضايا الهويات اللغوية والحقوق الفردية. يمثل وصول اليسار في المغرب إلى الحكومة اتجاها مشابها نسبيا لما حدث على المستوى العالمي، حيث في المغرب أيضا تراجع اليسار عن مواقفه من معاداة استقلالية السوق ومعارضة الطبيعة الطبقية للدولة. لكن سياقات وشروط ممارسة اليسار للحكم ظلت تميزه ظروف التخلف الاقتصادي والحجم المحدود للسوق، والنظام غير الليبرالي للدولة. كما ميزته أيضا الخلافات العميقة حول هذه القضايا بين صفوف اليسار التي دامت طيلة نصف قرن من عمر اليسار المغربي، والتي كان من بين مخلفاتها الانشقاقات التنظيمية التي لم تتوقف إلى اليوم. السوق: كما كان عليه الأمر على المستوى العالمي، فإن الساحة اليسارية المغربية عرفت هي أيضا تبلور اتجاهات متعارضة تصنف في جناحي اليسار الاصلاحي واليسار الجذري. كان هناك اتفاق مبدئي بين صفوف اليسار على عيوب السوق الحرة، وعلى ضرورة تقوية دور الدولة في عقلنة تدبير الموارد الاقتصادية للإسراع بوتيرة التنمية الاقتصادية ولتحقيق المساواة الاجتماعية وعلى شرط إحداث تغييرات عميقة في مؤسسات الدولة تضع حدا للسيطرة السياسية للطبقات التقليدية والمحافظة والغنية والتي تتمكن من خلال هذه السيطرة أن تحافظ على امتيازاتها وأن تعرقل مبادرات الإصلاح. لكن خلافات متعددة ستبرز في صفوف اليسار حول الجذور النظرية لهذه القضايا، وحول الادوات السياسية التي تتطلب من أجل إحداث التغيير، ثم حول محتوى التغيير نفسه. هذه الخلافات التي كانت الكتابات اليسارية تحصرها في بعدها الايديولوجي والفكري، ولكنها تعبر أيضا عن خصوصيات سوسيو-ثقافية ونفسية لمتزعميها لازلنا في حاجة إلى دراستها بمقتربات جديدة، أدت إلى سلسلة الانشقاقات التي أصبحت ظاهرة مميزة طيلة عمر تجربة اليسار المغربي، وبشكل أكثر حدة من غيره من التجارب العالمية. لكن لا شك أن أحد عوامل هذه الانشقاقات أيضا هي أن الخلافات كانت تتخذ طابعا نظريا يعتمد على قراءة نصوص مؤسسة للماركسية، والتي كانت كغيرها من النصوص النظرية، وفي غياب تجريبها محليا، سواء عن طريق البحث الميداني المدقق أو عن طريق الممارسة، قابلة لتأويلات غير محدودة. وكما هو الأمر بالنسبة للاشتراكية العالمية، أدى سقوط المعسكر السوفيتي، ثم ما تلاه من التوسع السريع والمضطرد للسوق الحرة في ظل العولمة الاقتصادية، إلى أن تتضاءل الخلافات حول مسألة السوق والذي أصبحت المنابر اليسارية المغربية تبرز مزاياه في جلب الاستثمارات، وخلق فرص الشغل والرفع من الانتاج. كما أن فشل التجارب الاشتراكية الرائدة في أوربا الشرقية أدى إلى أن تفقد الدولة مصداقيتها كأداة قادرة على عقلنة تدبير الموارد وعلى تحقيق المساواة. ومثل ما حصل على المستوى العالمي أيضا، أصبحت التيارات اليسارية لا...على رفض السوق الحرة بل تعمل على إصلاح تجاوزاتها عن طريق معارضة الغلاء، وضمان التنافسية ومحاربة الزبونية في المعاملات التجارية والدفع إلى احترام البيئة وقوانين الشغل. كما أن السوق الدولية، سواء كمصدر للاستثمارات أو كسوق للسلع الوطنية أو للدورات والتي كانت تعتبرها الادبيات اليسارية، من عوامل تكريس التخلف، أصبحت تنظر إليها اليوم كمصدر للتنمية، بل وتدعو إلى توفير شروط توسيعها. هذه تحولات عميقة حدثت بالنسبة لليسار والتي جعلته يفقد مقومات هويته التي رافقته منذ ظهوره، ولاشك أن غياب النقاش العمومي حول هذا التحول جعل اليسار يبدو كما لو أنه تخلى عن مبادئه وقيمه، وجعلت الحكم على هذا التحول ينبني على منطلقات أخلاقية مثل التنكر للمبادئ أو الانتهازية. مما ساهم في إضعاف موقف اليسار هو أنه وعلى عكس ما عرفته ممارسة اليسار للسلطة السياسية في الغرب. لم تعمل القيادات اليسارية الحاكمة في توظيف التجارب الميدانية التي راكمتها من خلال الممارسة، سواء في المراجعات النقدية لأطروحاتها، وفي إشراك قواعدها في التعلم من التجربة كأداة لتطوير وإغناء الفكر اليساري، والذي ظل في المغرب، وحتى حكومة التناوب يطبعه التجريد والتنظير. الدولة غير الليبرالية: في المغرب، لم تشكل نتائج الانتخابات المصدر الرئيسي لوصول اليسار إلى الحكم، بل إن حكومة التناوب تحققت نتيجة الدور الحاسم الذي لعبه الملك في الدفع بتشكيل هذه الحكومة، وفي ظل دولة غير ليبرالية تتميز بالدور المركزي الذي تلعبه فيها المؤسسة الملكية. وأعرض فيما يلي السياقات السياسية والفكرية لحكومة التناوب. تجاذبت علاقة اليسار بالملكية منذ الاستقلال ثلاثة اختيارات، اختيار أول ركز على ضرورة حصر سلطات الملك عن طريق دستور ينقل مركز السلطة إلى برلمان منتخب، وهو ما يتطلب كشرط قبل أية مشاركة فعلية لليسار في الحكم، صياغة دستور يوثق لتقليص سلطات الملك. الاختيار الثاني عكس قناعات لدى شرائح في صفوف اليسار بوجود تعارض موضوعي بين اليسار وبين المؤسسة الملكية، وأن فرص اليسار في الحكم لن تتحقق إلا عبر إضعاف المؤسسة الملكية، بل وحتى الإطاحة بها، سواء عبر تكريس الأزمات السياسية عن طريق الإضرابات والمظاهرات ونشر خطابات معادية للمؤسسة الملكية التقليدية، أو عبر اللجوء إلى الخيار المسلح. الاختيار الثالث اعتبر أن بإمكان اليسار أن يحقق برامجه بالرغم من غياب التغييرات المؤسساتية، وأن مشاركة اليسار في الحكومة لا تشترط التقليص من سلطات الملك عن طريق نص قانوني، بل تتطلب توفر ثقة متبادلة بين القصر واليسار يمكنها أن تتحقق عن طريق تبلور قناعات ذاتية لدى الطرفين، أي عن طريق التوافق. هذه الاختيارات الثلاثة: الدستورية، الثورية والتوافقية، ظهرت في صفوف اليسار منذ الاستقلال بصيغ مختلفة، تنوعت في درجة وضوحها الإيديولوجي، وفي قدرتها على تعبئة أتباعها، وفي مدى فعاليتها، وشكلت موضوع خلافات بين متبنيها، أفرزت مسلسلات الصراعات والانشقاقات التي لا تنتهي. تاريخيا، عرفت الفترة الأولى من الاستقلال التي امتدت حتى منتصف السبعينات هيمنة الاختيار الثوري في صفوف اليسار، تلتها هيمنة الاختيار الدستوري ما بين منتصف السبعينات وحتى منتصف التسعينات، ثم ومنذ دستور 96 إلى حدود انتخابات 2007 هيمنة الاختيار التوافقي. نتوفر اليوم على فترة تاريخية تسمح بعقد مقارنات بين الاختيارات الثلاثة وبتقييم حصيلة كل منها. وستكون لهذه المقارنة أهمية بالغة في إغناء فهم التحول السياسي في المغرب، وآفاق الانتقال الديمقراطي فيه. أصبح الاختيار الثوري اليوم هامشياً في صفوف اليسار. وبالمقابل، راكم الاختيار الدستوري كتابات غنية، لدرجة جعلته المقترب السائد في الخطاب الدستوري المغربي. ويجد هذا الاختيار سنده السياسي الأقوى في صفوف أحزاب الحركة الاسلامية وأحزاب اليسار الجديد، والراديكالي وفي المجتمع المدني الحقوقي. ويواجه هذا الاختيار إشكالا أولا على مستوى المرجعيات الفكرية يتمثل في التضارب بين تصورات المشاريع الدستورية البديلة المطروحة من طرف كل من التيارات الإسلامية والتيارات العلمانية. كما يواجه إشكالا على المستوى السياسي العملي في إيجاد الوسائل الفعالة لتوسيع القاعدة السياسية والاجتماعية لمعتنقيه، وإيجاد الصيغ العملية المناسبة لمواجهة معارضيه. إذ بقيت الصيغ العملية في تفعيل الخيار الدستوري متذبذبة بين التركيز على مجابهة فكرية تعتمد على نزع المشروعية عن الصيغة الدستورية الحالية، باعتبارها متنافية مع مقومات النظام السياسي الديمقراطي، وبين توقع اعتناق الإصلاح الدستوري من طرف المؤسسة الملكية لأسباب متضاربة وغير محددة. وحسب هذه الصيغ فإن تفعيل الخيار الدستوري يبقى مرتبطاً تارة بتفاقم الأزمات السياسية، وتارة بالضغط الأجنبي على المغرب، وتارة بتصورات استراتيجية تضمن للملكية الاستمرارية على المدى البعيد، وأخرى لحسابات قصيرة الأمد من طرفها في احتواء المعارضة. والظاهر أن غياب الوضوح في هذه الصيغ مرتبط بكون أن المقترب الدستوري ظل يركز مجهوده الفكري في الدفاع عن مبدأ تغيير الدستور على حساب التفكير العملي الاستراتيجي في كيفية الوصول إلى التغيير الدستوري المنشود ميدانيا. إذا كان الاختيار الثوري عرف تراجعاً على المستويات السياسية والفكرية،والاختيار الدستوري يفتقد الى وضوح في كيفية تفعيله عمليا، فإن الإشكال الذي يواجه الاختيار التوافقي متعلق بمدى كونه خياراً مؤقتاً يهيىء الانتقال الى مرحلة تأسيس فصل السلط ودولة المؤسسات أو أنه يعرقل هذا التحول ويرسخ الصيغة الدستورية الحالية. يركز منتقدو الاختيار التوافقي على استمرار الدور المركزي للمؤسسة الملكية في تحديد الخيارات الاستراتيجية الكبرى وفي تدبير الشأن العام، وفي بلورة وإنجاز السياسات، ويعتبرون أن كل ذلك لا يؤشر على تحول ديمقراطي، بقدر ما هو ترسيخ لهيمنة المؤسسة السياسية وإضعاف لدور الأحزاب ولدولة المؤسسات. بمقابل ذلك، يعتبر المدافعون عن الاختيار التوافقي بوجود نية وقناعة لدى المؤسسة الملكية في السير التدريجي نحو الدمقرطة. وأمام الاستحالة العملية للتأكد من نوايا الفاعلين، فإن مستقبل الدمقرطة في ظل التوافق يبقى رهينا من جهة بفهم دقيق لما يحدث ميدانيا على مستوى صنع القرار، ومن جهة أخرى، رهينا على الدور الذي يلعبه مناصرو هذا الاتجاه في الدفع باتجاه الدمقرطة. وإن الفهم الدقيق لحصيلة تجربة مشاركة اليسار في صنع القرار مركزية لهذا الغرض. ويتعلق هذا الفهم بتقييم مدى الاستقلالية في صنع القرارات التي اتخذتها الأحزاب عن طريق وزرائها في الحكومة طيلة العقد الماضي، ومدى الدور الذي لعبته المؤسسة الملكية عملياً في تهيئة هذه الخيارات، وبلورتها ودعمها وتفعيلها أو عرقلتها وتشويهها. لاشك أن أحد الإشكالات الكبرى التي يواجهها الاختيار التوافقي في الدفع بالانتقال الديمقراطي متعلق بالدور الذي اختارت المؤسسة الملكية أن تلعبه في العهد الجديد، وهو أن تكون رائدة للإنجازات والإصلاحات في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن تجعل من هذا الدور الإصلاحي دعائم لمشروعيتها السياسية في مطلع القرن الواحد والعشرين. ولا يتوقف هذا الخيار الإصلاحي للمؤسسة الملكية عن تقديم إنجازات ملموسة في مجالات الاستثمار والنمو الاقتصادي والبنيات التحتية وحقوق الإنسان والتنوع الثقافي والوضعية القانونية للمرأة والخدمات الاجتماعية. وكلما استمر تراكم هذه الإنجازات، كلما ازداد التحدي الذي يواجه المدافعين عن ضرورة الإصلاح الدستوري. إذ إذا كان النظام السياسي الحالي بقيادة المؤسسة الملكية أكثر فعالية في إنجاز الإصلاحات، فهل ستبقى هناك إذن ضرورة للتغيير؟ .. إن المطالبة بتقليص سلطات الملك عن طريق تغيير الدستور قد تؤدي فرضاً إلى التقليص من فعالية الملك في جلب الاستثمارات، وفي تقديم الخدمات الاجتماعية، ومراقبة إنجاز البرامج والمخططات، وفي تهييء التوافق بين الفاعلين السياسيين المتعادين، أو في تجاوز المعارضة المجتمعية المحافظة للإصلاحات. ولن تعمل معارضة الإصلاحات التي يقودها الملك في هذه المجالات إلا الى تقوية المعارضة المحافظة من جهة، وإلى حرمان البلاد من المؤهلات الرمزية والسياسية التي تتمتع بها المؤسسة الملكية كمورد لجلب الاستثمارات والخبرات الى البلاد. إلا أنه وفي نفس الوقت، لن يعمل الدفاع عن السلطات الواسعة للملك في كل هذه المجالات إلا على ترسيخ تهميش دور الأحزاب في صنع القرار وبلورة الخيارات السياسية وفي التدبير الفعلي للشأن العام، وبالتالي الى التأجيل المتواصل لمشروع الدمقرطة. إن مستقبل الخيار التوافقي مرتبط بمدى قدرته على أن يوسع من مجالات الإصلاحات الدستورية التي من المفروض أن تسمح بحرية أكبر للأحزاب وللمجتمع عامة، بالتأثير الفعال في صنع القرار، وأن تضمن احتراماً أكبر للقوانين وللمؤسسات وتحد بالتالي من أخطار الاستبداد. وتوفر ممارسة التوافق لمدة تفوق العقد مدة كافية للأطراف المشاركة لتقييم قدرات ومؤهلات بعضها البعض، ولتهييء آفاق المستقبل على أساس الإنجاز والتجربة المعاشة والمشتركة، كما أنها تسمح بتفكير عملي وواقعي في كيفية توسيع الإصلاح على أساس تقسيم فعال للعمل وللمسؤوليات بين المؤسسة الملكية والأحزاب. خاتمة: بالرغم من كثرة الحديث عن تراجع اليسار في انتخابات 2007، وارتفاع حدة المطالب بانتقال اليسار الى المعارضة، إلا أن هذه النقاشات لم تبرز بالشكل الكافي النقط الأربع التالية: أولا، طبعت هذه النقاشات تغليب العامل التنظيمي في تقييم تراجع مقاعد اليسار، على حساب إبراز الخلافات حول محتوى السياسات التي اتبعها وزراء اليسار. ويفسح هذا المقترب التقني بإمكانيات إبرام تحالفات بدون شروط إيديولوجية، الشيء الذي سيزيد في ترسيخ ظاهرة تشكيل حكومات لا تشترط الانسجام الإيديولوجي، ثانيا، تشكل احتمال انتقال اليسار الى المعارضة في المغرب ظاهرة سياسية عادية بالنسبة للدول الليبرالية. ذلك أن تقلبات الأصوات الانتخابية التي تعرفها الأحزاب بما فيها الأحزاب اليسارية، يجعل من الممارسة الحزبية للسلطة عملية مؤقتة، كما أن التواجد في المعارضة هو أيضاً موقع مؤقت. وهذه الوضعية دائمة التقلب تختلف عن الفكرة السائدة، بما فيها لدى أحزاب اليسار، والتي كانت تتصور وضعية قارة وأحادية الاتجاه للمصير السياسي للأحزاب. هذا التقلب الدائم يشكل في الدول الليبرالية محركاً للتجدد والتأقلم والاقتراب من الناخب، إلا أنه وبحكم جدته كل الجدة في الممارسة الحزبية المغربية لازالت لم تظهر نتائجه بشكل واضح بعد. ثالثا، مكنت تجربة حكومة التناوب اليسار المغربي من أن يجرب ممارسة السلطة، وبالتالي أن تنتقل الأفكار اليسارية من مرحلة التجريد الى التطبيق. انحصرت الانتقادات من داخل صفوف اليسار بشكل خاص على غياب الشروط الضرورية لممارسة السلطة، وبالتالي لتطبيق السياسات اليسارية. إلا أن هذه الانتقادات في الحاجة الى المزيد من التدقيق، انطلاقاً من معطيات عن التجارب الميدانية للوزراء في القطاعات التي أشرفوا عليها. ومن المثير للانتباه خلال الحملة الانتخابية لسنة 2007 عزوف اليسار بمرشحيه ونخبه ومنظريه وإعلامييه عن تسخير التجربة الميدانية كوسيلة لجلب تعاطف المجتمع وأصوات ناخبيه. إذ لم يبرز في الحملة ما أنجزه وزراء اليسار على مستوى كل وزارة على حدة، ولم توظف المعطيات الميدانية في النقاش العمومي للدفاع عن حصيلة اليسار كسياسات عامة، بل على العكس، بدا المتحدثون باسم اليسار وكأنهم يفتقدون الى الحماس في احتلال فضاء الجدل السياسي العمومي، وفي تسخير تجربة الميدان لتطوير فهم الممارسة السياسية وتحليلها. أسباب هذه الظاهرة لازالت غير واضحة بعد. ونكتفي الآن بطرح فرضيات مؤقتة على غرار كون أن اليسار تعثر في أن يحول خبرته في إنتاج خطاب المعارضة إلى بلورة خطاب حكومي يدافع عن الإنجاز، أو أن يكون اليساريون غير مقتنعين بالسياسات التي وضعوها أو نفذوها، أو على العكس، كونهم اعتبروا أن هذه السياسات ليست في حاجة إلى من يدافع عنها، بل إنها كافية لأن تدافع عن نفسها من تلقاء نفسها، مثل الرفع من أجور الموظفين، وتحسن المعطيات الاقتصادية والمالية، والمنجزات في البنيات التحتية والخدمات كالطرق، والكهرباء والماء والمدارس. قد يكون السبب أيضا، كون أن وسائل الإعلام الرسمية السمعية البصرية، كانت خارجة عن قرار اليسار، وأنها كانت تحت مراقبة أجهزة الدولة غير الحزبية، وأن سياسات الإعلام الرسمي لم تكن تعكس بالضرورة خيارات الحكومة بصفة عامة، أو أحزاب اليسار بشكل خاص، بل أنها ركزت على إبراز منجزات الملك على حساب منجزات الوزراء. لكن، بالرغم من أن هذه الفرضيات الأخيرة تبدو مقنعة نسبياً، إلا أنها لا تفسر عزوف الإعلام الحزبي نفسه عن أن يعمل على تطوير تقنياته ليوسع من قاعدة قرائه وأن يبرز إنجازات وزرائه بشكل احترافي. رابعا، ارتبط بروز اليسار كتيار سياسي على المستوى العالمي بصفة عامة، وفي المغرب أيضاً، بإشكال اللامساواة التي عجزت الرأسمالية على تقليصها، فإن اللامساواة تبقى واقعا يتطلب المعالجة الدائبة على المستويات النظرية والسياسية. وكما أن هذه الأوتوبيات تنهار بفعل الممارسات، كما حصل في أوربا الشرقية، فإنها تتخذ أشكالا متجددة عندما توظف النقد الذاتي انطلاقا من خبرات التجربة والممارسة كما يحصل بالنسبة ليسار أوربا المغربية وأمريكا اللاتينية.