ترتفع الأيدي مصارعة سحابة الغبار الذي يصر على التسلل إلى الأجساد، وغمر الأعين. تتعثر الأرجل بين نتوءات وحفر احتلت الطريق التي لا يتوقف هدير معاول العجلات العملاقة عن رسم تضاريس أخرى لها، لتحولها إلى أي شيء، المهم ألا تبقى طريقا عمومية صالحة للمرور. تتغير خضرة الأشجار والمحاصيل الزراعية لتستحيل إلى ألوان قاتمة تنوء فيها النباتات بثقل الغبار المتناثر عليها ليل نهار، وكأنها تصرخ أو تستغيث من كارثة بيئية لم يكن لها أثر قبل سنوات. يشتد غثاء قطيع الأغنام، ذعرا، وتجنح البهائم خوفا من هدير الشاحنات الضخمة التي تنوء بحمولات الرمال، ناثرة الغبار والخوف والذعر في منطقة المعاشات، والموت أحيانا... تتناقص رمال شاطئ «الصويرية» تدريجيا مخلفة وراءها حزنا وحصى وتخريبا بيئيا.. هذه ليست صورة أو «كلاكيت» سينمائيا لفيلم رعب جديد، وإنما مشاهد حية من فيلم معيشي يتكرر بصفة يومية منذ سنوات لمعاناة ساكنة جماعة المعاشات التابعة لإقليم آسفي بسبب مقالع الرمال التي لم يسلم منها الحجر والشجر ولا حتى شاطئ البحر.. إنها «لعنة الرمال الذهبية». «هاديك ماشي رملة.. هاديك الذهب.. هما يربحو لفلوس، واحنا تابعانا اللعنة والكارثة»، بغضب واحتقان ظاهرين نطق أحد الفلاحين وهو يمتطي ظهر حماره متوجها إلى السوق الأسبوعي «خميس أولاد الحاج»، وهو يمسح وجهه من غبار علاه بعد مرور شاحنة كبيرة مخلفة سحابة ضخمة من الغبار، وفي نفس الوقت يحاول تعديل مسار حماره الذي جنح نحو التلة في ذعر شديد. محتذيا بثغاء قطيع الأغنام خرج عن السيطرة وكاد يقدم قربانا للجبار الجديد حين كادت العجلة الضخمة تدهس خروفا صغيرا.. «تعال نعمّرو شي براد أسي امحمد..» رد الآخر بسرعة وابتسامة ماكرة تعلو محياه:«هي فلوس الرملة موجودة..» ليجيبه مشيحا بوجه ساهم يحمل مزيدا من علامات الحيرة والتيه:«الله ينعل بو النهار اللي جاو فيه..، ولينا مراض لا حنا ولابهايمنا.. وكايشريونا بزوج دريال...»! مقتطف قصير من حديث ليس الأول ولا الأخير بالنسبة لساكنة جماعة المعاشات، وحتى باقي الأسواق الأسبوعية بمعظم تراب الجماعة التابعة لجهة عبدة دكالة، باعتبار مسار واد تانسيفت القادم من الجنوب، والمنتهي في شاطئ الصويرة القديمة واهبا مجموعة من المناطق الرملية منذ سنين بفعل الرياح وعوامل التعرية. بعد «الثورة» التي قام بها عدد من الفلاحين والمزارعين على مستغلي المقالع الرملية، واللغط الذي حصل، توصل بعضهم إلى اتفاق يستفيد منه الفلاحون كل على حدة من مبالغ مالية بسيطة بصفة منتظمة كل أسبوع، وذلك مقابل أن يتوقفوا عن الشكايات والتذمر الذي طال حياتهم ومحيطهم البيئي. كأس شاي «منعنع» وسط مقهى تقليدي يغري بالحديث، تنوعت المواضيع، لكن لموضوع الرمال رنة خاصة وطعم لا يمكن التخلي عنه:«شفتي أسي كبّور، الله يلعن الفلوس قدام الصحة، علاه يسحاب ليك كايدورو معانا حيت بقينا فيهم؟.. راه كايسكتونا ب«الشياطة» باش ياخدوها مجموعة وباردة..». أربعون« لعنة» تصيب الجماعة أربعون مقلعا بجماعة المعاشات تدر ملايين الدراهم، وغموض كبير يلف رخص المقالع، العديد من العارفين بخبايا المنطقة يتحدثون عن «تلاعبات» في رخص المقالع التي غالبا ما لا يتم التبليغ عنها بانتهاء الرمال من المقلع، بل يتم تحويلها لاستغلال مقالع أخرى بنفس الرخصة. ومما يشجع على ذلك وجود عدد من المسؤولين بالجماعة ضمن أصحاب المقالع، كرئيس الجماعة الذي يشغل أيضا منصب رئيس جمعية أرباب مقالع الرمال، ويتوفر على عدد كبير من المقالع بالمنطقة. هدير الشاحنات الضخمة «الرمايك» لا يتوقف ليل نهار، حتى المسالك الضيقة لم تسلم من غزو العجلات العريضة القاسية، التي لا ترحم الأحجار والاسفلت ولا حتى النباتات، فتلك التي قادها حظها للظهور بعيدا عن الطريق ولو نسبيا، يطالها غزو الرمال المتناثرة من «سنام» الشاحنات القادمة بالرعب والدمار. قيمة الحمولة الواحدة 1500 درهم، لكن الأمر المزعج حقا للساكنة هو تحميل 80 إلى 200 شاحنة يوميا من ذات المقلع على مدار 24 ساعة، رغم أن دفتر التحملات ينص على التزام توقيت ساعات العمل العادية،حيث قدر مهتمون أن المداخيل تصل إلى 180 مليون سنتيم في مدة شهرين، دون أن تؤدى عن ذلك الرسوم القانونية. ينص دفتر التحملات على مجموعة من النقط التي يجب على مستغلي المقالع الالتزام بتنفيذها واحترامها، كوضع علامات التشوير وفق تصميم معين، ثم العمل على إصلاح الأضرار الجانبية التي قد يسفر عنها استغلال المقلع، اضافة إلى عدم تخريب المنظومة البيئية أو التأثير عليها، وعلى الساكنة المحيطة بالمقلع، دون إغفال نقطة تنص على وجود ممر صالح نحو الطريق العمومية، وهي النقطة التي أثارت حفيظة مجموعة من سكان أحد الدواوير، حين شقت الشاحنات الضخمة أراضيهم الفلاحية، غير مكثرتة للمحاصيل الزراعية، ولا للثروات الحيوانية، حيث وقفوا في وجه «الغازي الجديد» وتوقفت الأشغال إلى أن تدخل مسؤولون كبار بالمنطقة، وأسفر الاتفاق عن دفع التعويضات الهزيلة «لجبر الضرر». الحيوانات البرية أكثر الضحايا معالم المنطقة الطبيعية تغيرت رغما عنها، فبعض الهضاب التي كانت تعيش زخما طبيعيا وتنوعا بيولوجيا، غدت قفارا. شابان خالطت السمرة وجهيهما، يضع أحدهما قبعة رياضية على رأسه، وينتعل حذاء باليا تعلوه طبقة سميكة من الغبار، فيما يرتدي الآخر معطفا رغم قائضة الصيف، عائدان من مركز خميس أولاد الحاج، رفع أحدهما رأسه يحدق في أعالي التلال المحيطة بالممر، ثم تلفظ ببالغ الاهتمام واللهفة، وكأنه يستجدي صاحبه أن يكذب استنتاجه، أو يعطيه مبررا منطقيا يخرجه من الحيرة التي خالطت كلماته:« شفتي آ ميلود.. هاديك «الشفشة» غبرات، كانت غير مكركرة (أي موجودة بكثرة) فالصخر، ودابا تمحى ليها الأثر.. يا لطيف!..» لكن رفيقه رفع رأسه ونظر صوب المرتفع المليء بالصخور التي تشكل مكانا ملائما لعيش هذا الحيوان المنتمي لفصيلة السناجب الأطلسية بمظهره الجميل حين يقف على قائميه الخلفيتين ويرفع ذيله الغليظ الناعم، وهو يقضم حبة ذرة، أو ثمرة «أركان»، ثم قال بنبرة حادة وهو يمرر يده على رأسه ووجهه :«هاديك الحيوانات كاتخاف من الصداع والغبرة، غاديا تكون غير مشات لشي بلاصة مافيهاش هاذ المصيبة اللي نزلات علينا ديال الرملة، عمرنا مابقينا نشوفوها آخيي حتى يدير الله شي تاويل...». بعد اختفاء ابن آوى منذ أجيال بسبب مطاردته من قبل الفلاحين والمزارعين المتضررين من سطوه على حيواناتهم، ساهمت مقالع الرمال الممتدة على مساحات شاسعة بجماعة المعاشات، في تقليص أعداد السناجب الأطلسية الجميلة، واختفاء طيور «السمان»، إضافة إلى زعزعة استقرار المنظومة البيئية بالمنطقة التي كانت تزخر حتى وقت قريب بالأرانب والطيور البرية والمائية في تنوع ساحر، جعل المنطقة سابقا محط إعجاب السياح الداخليين والأجانب. لتحل على المنطقة «لعنة الرمال» وتعتصر أحلام الفلاحين وتستولي على حق الاستمتاع بالطبيعة، لتحيلها إلى مورد ضخم للأموال الطائلة بنهم شديد بعيدا عن مراقبة الأجهزة المختصة. تهريب رمال شاطئ «الصويرية» ليلا تتسابق الأمواج الصغيرة للوصول إلى شاطئ «الصويرية» مداعبة الرمال الناعمة، لتدغدغها وتقبلها بزبد أبيض في منظر طبيعي رائع، لكنها مؤخرا أصبحت لا تجد في انتظارها سوى حجارة مختلفة الأحجام، ومنخفض أزال جاذبية السحر والجمال عن الشاطئ الذي كان حتى وقت قريب محج المصطافين من كل المدن المغربية. كان شاطئ الصويرة القديمة يتوفر على كل مقومات الإغراء والاصطياف، رمال ذهبية ناعمة، مصب واد تانسيفت الدافئ، غابة وافرة الظلال، كثيفة الأشجار، تنظيم وإن كان عاديا، إلا أنه كان يفي بالغرض، ويوفر الشروط الدنيا للاستمتاع بطبيعة أبت إلا أن تقدم لزوارها تنوعا غابويا ونهريا وبحريا، لتشكل كوكتيلا سياحيا في المستوى العالمي... توقف أحد المصطافين الأوفياء لهذا الشاطئ منذ أزيد من 15 سنة، أمام الكورنيش، وتأمل في حسرة نحو شاطئ البحر الذي قضى فيه أوقاتا ممتعة رفقة عائلته أو أصدقائه، أو حتى بعض الأصدقاء المهاجرين للدول الأوربية، وندت عن شفتيه ابتسامة متهكمة، رفع يده علامة على عدم الرضى، قبل أن يتكلم وكأنه يحدث نفسه:«ما بقى فين نخيمو هاد العام، هاد الناس ما كا يخليوا حتى حاجا زوينة.. ما عرفتش هاد الرملة فين مشات؟ يمكن بلعها البحر...» ثم رنا بنظرة متحسرة قبل أن يدير وجهه ويعود إلى سيارته لينطلق بسرعة باتجاه منطقة أخرى عله يجد شاطئا آخر يغري بالاصطياف.. يبدو شاطئ الصويرية كئيبا وهو يبحث في استجداء عن رماله الضائعة، كأنه يتذكر حين كان يداعبها ويخط بها مرسى لأمواجه لترتسم لوحة طبيعية تبوح بأسرار الجمال والسحر، حين كانت للرمال الناعمة الذهبية سطوة الأسر والجاذبية والإغراء، كأنها عروس شقراء تركب هودج الأمواج الفضية النقية، ليمتزج صفار الذهب ببياض اللجين، ويحيكان معا سمفونية نخوة الطبيعة والحياة. «سرقت» العروس، وصار العريس هائجا مائجا غاضبا يلاطم الصخر والحجارة والحصى، إلى أن تخور قواه فيسحب ذيوله في حسرة، ليعيد الكرة مرة أخرى. تحولت الرمال من رداء زاه بشاطئ الصويرية إلى تلال كئيبة حبيسة بمواقع معينة في انتظار شحنها إلى اتجاهات معلومة. الأمر يتعلق باعتقال وحكم بالإعدام على رمال طوحت بها الرياح فوق «الكورنيش» أو على الرصيف اللذين لا يبعدان عن شاطئ البحر سوى بأمتار قليلة. خرجت الكلمات ساخنة من شفتي أحد أبناء المنطقة العالمين بأمور الشأن المحلي، وكأنها «حمم» بركان أرقه الاختناق وتأججت بداخله الثورات :«مسؤول بجماعة المعاشات هو اللي عاطي الأوامر باش يجمعو الرملة بالليل، ويديوها ورا الثانوية، ويخليوها حتى تبرد القضية عاد يهزوها لبلايص أخرى بالرمايك، هاد الناس ردّو البحر مقلع كبير ديال الرملة...». علامات الاستياء واضحة لدى العديد من المهتمين بالشأن المحلي بخصوص التسيير الجماعي للمنطقة، الذي أباح لنفسه التدخل حتى في أمور الطبيعة وتطويعها لصالحه ، فمنطق القوة هو السائد بعيدا عن مراقبة لجن التدقيق. قبل الطبع طبعا علمت الجريدة بأن المقالع بالمنطقة قد توقفت عن نشاطها بشكل مفاجئ، وتتجه بعض التفسيرات إلى أن لجنة كبرى قد وقفت على مجموعة من الخروقات بهذا الشأن، وأوضحت مصادرنا أن تحقيقا نزيها بخصوص الترخيص واستغلال المقالع الأربعين بالمنطقة قد يسفر عن تجاوزات خطيرة، وقد يجر خيطا، يسحب معه أربعين « ...» ممن حولوا المنطقة إلى خراب بيئي كارثي، وزادوا من معاناة الفلاحين والمزارعين. فهل سيتم إنصاف هؤلاء المواطنين من سكان الدواوير، كما ابتسمت لهم الطبيعة بمواسم شتاء حاملة البهجة، وطاردة لعنة الجفاف الذي أفقر وهجر معظمهم، لتكتمل البهجة بطرد لعنة أخرى أشد فتكا ودمارا، إنها «لعنة الرمال الذهبية»؟!