كما هو الحال في اغلب مراكز الاصطياف بالمملكة،انتهى سحر الصيف ومتعه باكرا هذه السنة بمدينة الصويرة التي حزم زوارها أمتعتهم أياما قليلة قبل حلول شهر رمضان، استعدادا لاستقباله وقضائه في منازلهم. أياما قليلة قبل شهر الصيام، لم يكن هنالك أي مؤشر لحلوله بمدينة الصويرة التي كانت مشغولة بفصل الاصطياف ومتعه ومشاكله،ومهرجان كناوة للمواهب الشابة وموسم الطائفة الكناوية، لتستقبل مرهقة شهر رمضان المحملة عاداته وطقوسه الصويرية برموز وقيم التعايش والروحانية والهدوء على وجه الخصوص. هذه المدينة التي تقطعت أنفاسها بين المهرجانات والندوات واللقاءات طوال السنة، ستركن الآن إلى الراحة وتتصالح مع سكينتها وهدوئها الأسطوري علها تستعيد جزءا ولو يسيرا من خصوصياتها الرمضانية التي باتت تضيع منها تباعا بفعل الإهمال الذي طال عدد كبيرا من العادات والتقاليد الاجتماعية التي تترجم الهوية الحقيقية للمدينة وروحها. للأسف انصرف الاهتمام عن هذا الإرث الإنساني الجميل، وبدأت هذه الممارسات الجميلة تضمحل تباعا ومعها مناحي قوة وخصوصية هذه الجميلة الهادئة المستكينة... حاولنا قبل سنتين تجميع هذه العادات والطقوس الرمضانية الجميلة الخاصة بمدينة الصويرة، تطلب منا الأمر ساعتها تجميع حلقة من قدماء الصويريات والصويريين من الجيل القديم لان الجيل الجديد لا يعرف شيئا كثيرا هن هذا الإرث الجميل، اضطر محاورونا إلى شحذ ذاكرتهم ، وتآزروا بكثير من اللهفة والحنين من اجل تجميع شتات تفاصيل مجموعة من الطقوس والعادات الجميلة التي اضمحلت تباعا. رمضان بمدينة الصويرة معزوفات الغيطة الجميلة الصوفية بصوامع مساجد المدينة العتيقة، معلمين اغلبهم حمدوشيون يعزفون غيطة « التراويح « ، و صنائع المديح والسماع والملحون تبدأ وتختتم « بالتمويلة « عزف خاص طيلة ساعة أو أكثر، تبعا لحالة الطقس ومستوى متابعة الحضور. يسارع العارفون بخصوصية الصويرة مباشرة بعد صلاة التراويح إلى الجلوس في احد مقاهي أو زوايا المدينة العتيقة ليستعيدوا مع الغيطة بكثير من الحنين سنوات الصويرة الجميلة. للأسف صار هذا الطقس الجميل إلى زوال بفعل تناقص عدد الغياطة الممارسين بسبب سوء الرعاية المادية والاجتماعية . اذكر تصريحات المعلم عبد الكبير الضباشي عازف للعود، الكمان، الكنبري والغيطة كذلك، يدرس طرب الآلة والملحون ومعلم حمدوشي، ممرض متقاعد وأب لخمسة أطفال،كان قد دأب منذ سنين على أداء هذا العزف الجميل يوميا، باستثناء ليلة القدر،بعد صلاة التراويح مباشرة بعد أداء النفار لمجموعة من النفخات ، وقبل السحور إلى حدود إطلاق قذائف المدافع. صرح لجريدة الاتحاد الاشتراكي سنة 2008 بأنه انقطع عن أداء الغيطة منذ سنتين، اعتبارا لغياب العناية بهذا المكون التراثي وبرجالاته، إذ لا تخصص مندوبية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلا مبلغا زهيدا لا يتجاوز 200 درهم ، علما أن اغلب الغياطة يعيشون ظروفا اجتماعية صعبة. أصبح هذا الطقس الرمضاني الصويري الجميل محصورا في مسجدين فقط هما مسجدي سيدي يوسف والقصبة، وبات مهددا في وجوده واستمراريته بفعل ضعف العناية المعنوية أولا ثم المادية برجالاته الذين باتوا يستنكرون بؤس التعويضات التي يتقاضونها مقابل التزامهم اليومي طيلة ليالي شهر رمضان. كما هو الحال بباقي المدن المغربية، تبدأ الاستعدادات لشهر رمضان من داخل المطبخ ، هنا الشهيوات لا تختلف عن مثيلاتها بباقي الجهات، «كالشباكية» و» سلو» أو « التقيوتات» أو» الزميطة»، مع التميز بالمنتوج المحلي «أملو». شهر رمضان بمدينة الصويرة لحظة تضامن وتآزر جميلة، هنا تتقاسم بعض الأسر الكانون أو « المونة» لأسباب اجتماعية أو اقتصادية محضة ، يجلس الجيران كبارا وصغارا موائد رمضان في أجواء صفو وسكينة استثنائية . وقد كان شهر رمضان بمدينة الصويرة لحظة ترجمة قوية لقيم التعايش بين المسلمين واليهود. ففي لحظة الفطور، كان اليهود يطرقون أبواب جيرانهم المسلمين، حاملين أكلة أو حلوى يقاسمونهم مائدة الإفطار بدون أي حرج من الخصوصية الدينية للوجبة. اذكر تصريحات السيدة عائشة بن داوود الصويرية « المعتقة»،في لقاء بجريدة الاتحاد الاشتراكي قبل سنتين،حكت لنا عن علاقتها بجارتها اليهودية التي كانت تسمى مدام شير،حكت لنا السيدة عائشة كيف كانت مدام شير تحرص على مقاسمتها لحظة الإفطار طيلة شهر رمضان كما في جميع الأعياد، حرصها الدائم على مقاسمتها وجبة « السخينة» التي كان يعدها اليهود مساء كل جمعة ليتناولوها يوم السبت من كل أسبوع. مائدة الفطور في مدينة الصويرة تتباين مكوناتها تبعا للمستوى الاقتصادي للأسر، لكن تبقى للسمك مكانة خاصة عليها، فرغم قلته وغلاء ثمنه منذ سنوات في مدينة الميناء والمراكب ، لازال اغلب الصويريين يحرصون على أن يكون أول ما يتناولونه عند الإفطار، وفي حالة انتفائه يكون لحم الكبد هو البديل. تتميز مائدة الفطور بالصويرة بنوعية الحساء ومكوناته،فإلى جانب الحريرة « الحامضة» المعدة بالطماطم والقطاني والتوابل، هنالك الحساء المكون من دقيق الدرة ذي الحجم الكبير والحليب بالعالم القروي خصوصا، أو الحساء المعد من «السميدة» والحليب . فيما تتنوع باقي المكونات تبعا لما تشتهيه النفس وتطاله القدرة الشرائية . في شهر رمضان تعرف المساجد بالصويرة ذروة الإقبال عليها ،كبارا وصغارا،نساء ورجال خصوصا خلال صلاة التراويح يحجون بكثرة إلى مختلف المساجد بحثا عن أجواء خشوع جماعية تزيدها الأجواء الروحانية للشهر قوة وعمقا. فيما يضطر المتأخرون إلى أداء الصلاة في الباحات خصوصا مع إقفال بعض المساجد كما هو الحال بمسجد التجزئة الرابعة المغلق بسبب الإصلاحات بعد أن انهار جزء من صومعته قبل سنوات. حين يصوم الأطفال بمدينة الصويرة يحضون بمعاملة خاصة ويكونون موضوع احتفاء وتقدير كبيرين. في مدينة الرياح يفطر الطفل في أول أيام صيامه بسبع «حريرات»، حيث تقوم الأم بجمع سبع حريرات من عند الجيران، تقدمها مع سبع تمرات للطفل الصائم تعبيرا عن العناية والتقدير الخاصين الذين حظي بهما من لدن الجيران مقابل صيامه. كما كانت بعض العائلات تسقي الطفل الصائم الماء في هيكل الحلزونة أو ما يسمى بعادة « البابوشة»، لعله يستمد من هذا الكائن الصبور المثابر خصاله الجميلة. في حين كانت تحرص بعض العائلات على أن يتناول الطفل طعام فطور فوق بئر، أو على أولى درجات السلم كناية على صعوده أولى درجات رحلة الصيام. على عكس باقي المدن المغربية، تؤدي العائلات الصويرية واجب زيارة المقابر يوم السادس العشرين من رمضان،وفي المساء، وقبل التوجه إلى المساجد لأداء صلاة التراويح، تحرص بعض الأسر على القيام بعادة « البسيسة»، حيث تقوم النساء برش خليط مكون من الجلجلان، ماء الزهر،زيت الزيتون، الحليب، البخور في جنبات البيت، مع تعطير البيت بالبخور المكون من عود القماري وماء الزهر . فيما تكتفي عائلات أخرى برش الحليب في جنبات البيت. للأطفال نصيب كبير من الحفاوة والدلال في رمضان، ففي ليلة القدر يحضون كذلك بمعاملة خاصة، حناء، ملابس جميلة، وزينة تتوج بوضع خمار يسمى « تقشمشيت»، ويؤخذون إلى المصور لتاريخ اللحظة. وجبة الصحور أساسية بالنسبة للأسر الصويرية، فالكثير منها تكتفي بها إلى جانب وجبة الفطور، وتتكون أساسا من « التشيشة « باللبن و»الرغايف» بزيت الزيتون .بكثير من الحنين يتذكر الصويريون المرحوم « السي الشيشيتي» أو « جاه النبي» ، كان يقوم بجولات طويلة بأزقة المدينة العتيقة ساعة قبل أذان الفجر ينقر الأبواب ويدعو الساكنة إلى الاستيقاظ لإعداد وجبتها قائلا: « أنود أتا .. طيب خبزك أتا» . بعد الشيشتي،كانت تتسلل الغيطة مع نسائم الصباح إلى البيوت الصويرية الناعسة،فمن اعلى صوامع المدينة العتيقة، يعود الغياطة إلى عزف تواشيحهم إلى حدود آذان الفجر.