بعض استطلاعات الرأي تكاد تشبه لحظات تقديم العزاء، فهي لا تعيد إحياء ما تعلن أنه مات جملة وتفصيلا أو مات ميتة بالتقسيط ، ولكنها، التعازي والاستطلاعات معا، يمكنها أن تغذي وتصون الثقة بين الذين بقوا على قيد الحياة! والملاحظ في الاستطلاع الذي نشرته مندوبية أحمد الحليمي، أنه يعود بنا الي أجواء الشك والريبة، إن لم يكن بمستند القطيعة فإنهما على الاقل بمستند التردد، ويمس جوهر الوجود المؤسساتي للبلاد. ونحن نسلم بما ورد فيه رغم أن الموقف من الاستطلاعات عن الثقة لا يسلم هو بدوره من عدوى عدم الثقة! ذلك أن المؤسسة المعنية ليس لها رهانات شخصية... وهي جزء من نسيج لا يمكنه أن يشكك في ذاته. ثم لأن المناخ العام الذي تؤشر عليه يبعث على عمق التفكير في ما يحصل.. فأن يشكل عدم الثقة في المقومات الرئيسية للديموقراطية في المغرب أحد ابرز نتائج الاستطلاعات التي قامت بها مؤسسة دستورية مكرسة ومحترمة من قبيل المندوبية السامية للتخطيط ، فذلك معناها أن شيئا ما غير قابل للممازحة في النظام السياسي المغربي برمته... هناك أكثر من نصف المغاربة لا يثقون في البرلمان وفي الأحزاب وفي المجالس المحلية، حسب النتائج، التي لا تميز بين مستويات هذا العجز الذي تسجله بالأرقام ، لا في الطبيعة ولا في الدرجة. ولكن الواضح أن المغاربة بذلك يعبرون عن عدم ثقتهم في شيء هم صناعه وأصحاب القرار فيه. فقد لا يكون القرار لديهم - في ما يخص الحياة الحزبية مثلا- إلا إذا هم انخرطوا فيها، والتزموا وعرفوا معني الانتماء وثمنه وتضحياته- لكن أن يكون عدم الثقة في البرلمان، وهم صناعه وفي المجالس المحلية وهم صناعها فهم بذلك يعلنون بأنهم لا يثقون في شيء قادرين على صناعة بديل قادرون عليه، من داخل اللعبة المتعارف عليها وهي التصويت والمشاركة السياسية. كما أن ذلك يعني أنه يعترفون بعجزهم هم ذاتهم في تغيير ما لا يثقون فيه، بالرغم من قدرتهم على ذلك ، بل مسؤوليتهم في ذلك. وهو ما تقوله الأحزاب السياسية عندما تتواصل مع المواطنين وتطلب انتماءهم النقدي الواعي المسؤول والمؤمن بالأخلاق المدنية ونكران الذات والانحياز الواضح إلى مشروع من بين كل المشاريع المعروضة. لماذا ينزعزون الثقة عوض تصحيحها وتصحيح بنائها؟ هذا هو السؤال أما الاستهلاك الذي ألفناه حول الدور التاطيري الضعيف و تردي صناعة النخب وكل الادبيات الأخرى التي تتكرر كسبحة من خشب فهي تحصر النقاش في مجال ضيق هو قريب من المظهر عوض النفاذ الي العمق؟ الملاحظ ، إلى جانب ذلك هو أن عدم الثقة، ينتقل إلى الدولة نفسها بنسبة تثير القلق فعلا.. فالعدل.. يفوق عدد المغاربة المستجوبين النصف ممن لا ثقة لهم أو ثقتهم ضعيفة فيه. وقرابة 40 في المائة لا يثقون في الدولة، وأدرعها الاساسية كاجهزة رقابة الامن العام (القوات العمومية) الخصاص أو العجز في الثقة هو أبرز ما يمكن أن يتهدد أية تجربة سياسية في البلاد، لأنه يعني أن ردود الفعل ستنضج وتكبر وتتغذى خارج كل الأماكن والفضاءات التي تتيحها الدولة الديمقراطية القوية. والمفارق هو أن هذا العجز في وسائل الديموقراطية وآلياتها المتعارف عليها عالميا، ثم في الدولة، كمعقلن للتاريخ وكأداة العنف المشروع والعقل المدبر للشأن العام وللتاريخ (بالمعنى الهيجيلي)، يأتي في الوقت الذي استطاعت الدولة، من خلال تدبير فورة الربيع العربي أن تدبر هاويات أصعب اسدلتها ، منذ العهد الجديد، ويتنامى هذا الشعور، للأسف في الوقت الذي بدأت الكثير من المحرمات تتساقط في الحقل السياسي، وبدأت آلة المراقبة والمحاسبة تشتغل ، والسمة الرئيسية هو انفتاح الفضاء العمومي على أكثر الإشكالات استعصاء.. سيجنح الذين ألفناهم إلى الأسطوانات القديمة الدائمة حول العجز الحزبي، المعروف في كل فترة ما قبل انتخابية، وسيميلون إلى التفسيرات البعيدة من أي نقاش جدي، في الوقت الذي نواجه عمق السؤال حول الثقة في كل ما يمت إلى المجتمع بصلة. أي الدولة، والمؤسسات والقيم الحاضنة للتجربة الانتقالية في الديمقراطية. عودة الحديث عن العجز في الثقة بهذا الشكل يطرح عميقا طبيعة الانتقال والمشاركة المواطنة فيه، كما يطرح مدى قدرة البلاد على الجواب عن إشكال جوهري: هل هي نهاية التفاؤل الذي فتحته الفترة الحالية، وعودة المجتمع إلى ما قبل التعديلات الكبرى والاستراتيجية؟ كيف التعامل معها؟ وإلى أسئلة أعمق نحن بحاجة إلى تلمسها من أجل الرد المناسب على المستقبل!