الرجاء يتلقى ضربة موجعة قبل موقعة مولودية وجدة    الكونغرس الأميركي يقر مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية    طقس الأربعاء..قطرات مطرية بعدد من مناطق المملكة    افتتاح فعاليات الدورة ال12 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    كيف ذاب جليد التطبيع بين إسرائيل والمغرب؟    23 قتيلا و2726 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع الماضي    حكم يدين إدريس لشكر بسب صحافيين    السر وراء رسو ناقلات النفط الروسي قبالة سواحل المغرب    وزير خارجية إسبانيا: قنصليتنا في القدس أقدم من إسرائيل    لجنة الاستثمارات تصادق على 27 مشروعا بقيمة 7.7 مليار درهم    الكرة الذهبية 2024 .. الفائز من ريال مدريد وهؤلاء هم المرشحون    المنتخب الأولمبي يتعادل وديا مع نظيره البلجيكي    عيد الأضحى.. ترقيم 5.8 مليون رأس من الأغنام والماعز    مجلس المستشارين يصادق بالأغلبية على مشروع القانون المتعلق بالعقوبات البديلة    عملية "مرحبا 2024" تنطلق غدا الأربعاء    ميناء طنجة المتوسط الرابع عالميا وفقا للمؤشر العالمي لأداء موانئ الحاويات    القضاء يغرم لشكر في قضية "السب والقذف" بحق صحافيين    8255 تلميذا يستعدون لاجتياز البكالوريا بالعيون.. والأكاديمية تسخر 2063 عنصرا لإنجاح المحطة    آيت منا يعلن ترشحه رسميا لرئاسة نادي الوداد الرياضي    يستكشف تأثير "الإهمال والصراع" على العلاقة الزوجية.. "واحة المياه المتجمدة" في القاعات السينمائية    "أونسا" يكشف نتائج التحقيق في أسباب نفوق أغنام ببرشيد    الصراع الحدودي والتكامل التنموي بين المغرب والجزائر الحلقة الاولى    لأسباب غامضة.. المنتخب الوطني يفقد نجمين بارزين    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (15)    فاجعة علال التازي .. عدد ضحايا "الماحيا المسمومة" يقفز إلى 15 وفاة    صديقي يتوقع بلوغ 7,8 ملايين رأس من الماشية في عرض عيد الأضحى    قرار عاملي بمنع السباحة في الشواطئ في هذا التوقيت    برنامج التحضير لعيد الأضحى على طاولة الحكومة    مبيعات الفوسفاط ومشتقاته تقفز إلى أزيد من 25 مليار درهم خلال 4 أشهر    "دعم الزلزال" يغطي أزيد من 63 ألف أسرة والحكومة ترخص لبناء 51 ألف منزل    الجرار يستنكر حملة التشهير ضد ليلى بنعلي    الحكومة صرفت 2.3 مليار درهم لفائدة ضحايا زلزال الحوز على شكل دفعات بهدف إعادة بناء المنازل أو دعم شهري    السعودية تحذر من درجات حرارة "أعلى من المعدل الطبيعي" خلال موسم الحج    "الأحمر" ينهي تداولات بورصة البيضاء    بوريطة يبرز الرؤية الملكية للتعاون الإفريقي والشراكة متعددة الأطراف في مكافحة الإرهاب    السعودية تحذر من درجات حرارة "أعلى من المعدل الطبيعي" خلال موسم الحج    بنطلحة يبرز ل"الأيام 24″ دور الدبلوماسية المغربية في نصرة القضية الفلسطينية    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    أميمة بن الزوين تطلق «ها الغدر بدا» وتحتفي بالموروث المغربي الأصيل    صفرو تحتفي بالذكرى المئوية لمهرجان حب الملوك    محكمة إسبانية تستدعي زوجة سانشيز    المغرب.. مبيعات السيارات الجديدة تناهز 65 ألف وحدة متم ماي    كأس العرش لكرة القدم داخل القاعة.. فريقا شباب علم طنجة وصقر أكادير يتأهلان إلى النهائي    الفنان نورالدين بدري يطلق أغنية «haute gamme » بطريقة شعبية    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    المندوبية السامية للتخطيط…نمو الطلب الداخلي بنسبة 3,3 في المئة سنة 2023    ندوة دولية بالرباط تقارب ذاكرة جزر القمر    "كاف" تعلن موعد ونظام مسابقتي دوري أبطال إفريقيا والكونفدرالية لموسم 2024/ 2025    التباس مفهوم العدالة وتحولاتها التاريخية    غواية النساء بين البارابول ومطاردة الشوارع    زوما ‬و ‬رامافوزا ‬يتسببان ‬في ‬نكسة ‬انتخابية ‬قاسية ‬لحزب ‬نيلسون ‬مانديلا‮    دراسة: القطط بوابة خلفية لانتقال أنفلونزا الطيور إلى البشر    تصريحات صادمة لفاوتشي بشأن إجراءات التباعد وقت كورونا تثير جدلا    طواف المغرب للدراجات : الفرنسي جيرار داميان يفوز بالمرحلة الرابعة ومواطنه بول كونيي يحافظ على القميص الأصفر    الأمثال العامية بتطوان... (615)    "بوحمرون" يستمر في حصد الأرواح نواحي تنغير.. والحصيلة ترتفع إلى 7 وفيات    المغرب يسجل 47 إصابة جديدة ب"كوفيد"    وصول أولى طلائع الحجاج المغاربة إلى المدينة المنورة يتقدمهم حجاج الأقاليم الجنوبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«جوق العميين» لمحمد مفتكر.. شعرية اللامكتمل
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 06 - 2015

إذا كان مفتكر قد اعتنى في «البراق» بنقل التشظي وتصوير الانفعالات في حدودها القصوى، فإنه راهن في «جوق العميين» على لغة مختلفة تؤمن أن «الإيقاع هو المعنى»، كما يقول هنري ميشونيك، وعلى ما يمكن أن نطلق عليه «شعرية البناءات المشتتة» أو «بلاغة الأوركسترا». غير أن ما يحكم هذه البناءات، في نظري، هو استراتيجية «اللامكتمل»
شيء ما غامض وممتع نحمله معنا ونحن ننتهي من مشاهدة فيلم «جوق العميين» للمخرج محمد مفتكر. فالفيلم يفتح أمامنا مسارات حكائية مختلفة تتوزع بإحكام بين الشخصيات، وبأسلوب مغاير لفيلمه السابق «البراق» الذي راهن على خلخلة «الدراماتورجيا الخطية»، وعلى الحكي المفاجئ وغير المتوقع.
فإذا كان مفتكر قد اعتنى في «البراق» بنقل التشظي وتصوير الانفعالات في حدودها القصوى، فإنه راهن في «جوق العميين» على لغة مختلفة تؤمن أن «الإيقاع هو المعنى»، كما يقول هنري ميشونيك، وعلى ما يمكن أن نطلق عليه «شعرية البناءات المشتتة» أو «بلاغة الأوركسترا». غير أن ما يحكم هذه البناءات، في نظري، هو استراتيجية «اللامكتمل»، في حين أن الذي يصححها هو الموت (موت الأب تحديدا) الذي يعتبر، في نهاية المطاف، نهاية كل تراجيديا، بل هو الرمز الأكثر إقناعا لعكس هذا «اللامكتمل»، كما أنه هو اللحن الموسيقى الذي يدويّ في خضم الموسيقى المُصاحِبة (سواء أكانت موسيقى شعبية (خديجة مركوم)، أو موسيقى تصويرية..).. أي في خضم الحركة والانفعال والتفاعل بين الوضعيات التي تملؤها الشخصيات.
وإذا كانت قلة قليلة من السينمائيين سردت في أفلامها سيرتها الذاتية، مثل إيليا كازان وبرغمان وفلليني وبروتولوتشي ويوسف شاهين ومحمد ملص وفريد بوغدير وطورناطوري وإمير كوستوريكا.. إلخ، فإن ما يميز محمد مفتكر في «جوق العميين» هو هذا الانشداه إلى صورة الأب. وهذا ليس أمرا طارئا في الأفلام التي أنجزها حتى الآن، ذلك أن أفلامه (من «ظل الموت» إلى «جوق العميين») تكاد تتحدث كلها عن الأب. فعندما نتكلم عن فيلمه الأول القصير »ظل الموت« فهو يحكي قصة بحار يعتقد أن زوجته تخونه مع أبيه، بينما يستعرض في فيلم »البراق« حكاية ذاك الأب الذي يحاول أن يطمس «أنوثة» ابنته، أما فيلم «جوق العميين»، الذي لا يخفي المخرج أنه سيرة ذاتية، فهو يحمل أسئلة طفل يحاول أن يفهم علاقته بأبيه باعتبارها إشكالية وحاجة ملحة.. وهذا الانشغال الجمالي بصورة الأب يظل دائما شبه ناقص ويحتاج إلى معاودة نظر، وإلى المزيد من العمل والسبك (هذا ما تفشيه فيلموغرافيا المخرج). إنه بمعنى من المعاني، سعي الناقص (اللامكتمل) نحو الاكتمال.. حتى لكأننا أمام أفلام/ معادلات بصرية (شعرية) مجزأة تسرد تاريخه الشخصي، وتاريخ مرحلة سياسية عايشها وكان شاهداً على أحداثها المفصلية (انقلاب 1971 مثلا).
وبناء على ذلك، فإن ما شد انتباهي في هذا الفيلم هما علاقتان أرى أنهما يؤطران عمق هذا «اللامكتمل»:
أولا: علاقة الأب (حسن بيدرا الذي أدى دوره حسن ميكري) عازف الكمنجة في جوق الشيخات بالتقسيم الموسيقي (الموسيقى ديال بصح التي ستحقق له الشهرة والترقي الاجتماعي ومغادرة جوق الشيخات)، وهي علاقة حلمية تكاد تنسحب على كل العلاقات الأخرى، وتحديدا علاقة الأب بابنه «ميمو» ( إلياس جيهاني). فالطفل يخضع بشكل من الأشكال لإبدال تناظري بين علاقة الأب بالقطعة الموسيقية (التي تكتب بأناة وبوثوق) وعلاقته بالابن (الذي يُكتب بلغة «التحريض» على التفوق الدراسي). وكلاهما (التقسيم والطفل) يخضع لنوع من العنف: التقسيم يتعرض للإهمال والتلويث والدوس بالأرجل والتتفيه، والطفل يخضع لاختبار التفوق لا ينسجم مع قدراته الدراسية (بغيتك تحقق ذاك الشي اللي ما قدرتش نحقق أنا). وبهذا المعنى، فالأب هو «صانع كل شيء» الذي يتمرد على إعاقته/عقدته (الأمية). يكتب التقسيم الموسيقي ويتمرن على العزف ويمارس انقلابا على طريقة الإمساك بالكمنجة، وعلى نوعية الموسيقى. كما يكتب الابن بوصاياه ويعقدا اتفاقا معه كي يحمله على التفوق، ولو بتمكينه من المال والسماح له بمرافقته إلى الأعراس (نوع من الإرشاء العاطفي). كما يكتب مختلف العلاقات الأخرى، إما بالصمت المتواطئ، وإما بالتدخل المباشر في ضبط إيقاع مختلف العلاقات التي تتم داخل البيت:
- علاقة الشقيق اليساري عبد الله بيدرا ( فهد بنشمسي) بمغنية الفرقة مينة (سليمة بنمومن).
- علاقة عازف الدربوكة علي (عبد الغني الصناك) بالراقصة فاطنة (فدوى طالب).
- علاقة مفتش الشرطة وعضو الفرقة مصطفى (محمد بسطاوي) بالراقصة فاطمة (ماجدولين الإدريسي).
- علاقة عبد الله بالساكسوفون (بالموسيقى عموما).
- علاقة ميمو بسطح البيت (الفضاء السري الذي يلتقي فيه الأب بعشيقته)، وبالسياسة التي قادت شقيقه عبد الله إلى الاعتقال.
هذا يجعلنا نستنتج أن الأب يمسك يجميع الخيوط الضامنة لاستمرارية الفرقة، في علاقتها بمحيطها المحلي والوطني، حتى وهو يحاول الابتعاد عن الالتباس الذي تخلقه علاقة المواطن بالسلطة السياسية والدين والأخلاق (يتدخل لردع الأخ عن ممارسة السياسة وعزف الساكسوفون، يصفع الشيخة فاطنة ويشتمها بسبب ممارستها للجنس مع رجل غريب، يجلد الإبن لأنه تلاعب به، ينهر الابن الأصغر لأنه لا يحسن الأكل مثل الفرنسيين). لكنه مع ذلك لا يمسك بالموسيقى التي يريدها. إنه يلاحقها دون أن يدركها. يصغي إليها ويحاول كتابتها وعزفها ويثابر على تخزين «النوتات» على دفتر التقسيم (التأليف الموسيقي)، في أفق حلم الوصول بها إلى لحظة الاكتمال. وهنا، نكون أمام شخصية مصابة ب»الميسكوفيليا» (عشق الموسيقى) تمارس «موسيقى أدنى» (الشيخات) وتتطلع إلى موسيقى أرقى ومولدة لتجربة انفعالية أرقى (الموسيقى ديال بصح). وعلاقة الأدنى بالأرقى هي أيضا ما تحكم علاقة الأب بابنه. فهو يعتبر نفسه (مجرد عازف كمنجة أمي) مقابل ميمو الذي يشجعه على الدراسة ليكون طبيبا للملك (مادام لا يستطيع أي أحد أن يصير ملكا).
ثانيا: علاقة ميمو بشامة (علية عمامرة)/ الطفلة الخادمة التي أحبها السارد (ميمو): «كيقولو بأن الدنيا كتبدل مللي الواحد كيلقى ديك اللي كيحلم بيها» (يقولون بأن العالم يتغير حين يعثر الفرد على الفتاة التي يحلم بها)..
إن تلك العلاقة، في كل تفاصيلها وتطوراتها، هي التي صنعت، في نظري، «شعرية» جوق العميين، وأخرجته من التوهيم بالواقعية الذي يمكن أن تصنعه السير ذاتية. ولهذا، أجازف بالقول إننا أمام «تخييل ذاتي» تتناسل فيه الذات في صور مختلفة، أي أمام مساحات سردية تقع خارج السيرة الذاتية بالمعنى الحرفي، ما دامت تنبني على وظائف مرجعية تلطفها أخلاقيا وتمنحها مساحة جمالية وشعرية، ومادامت تتداخل فيها ثلاثة أجناس (السيرة الذاتية، المحكي التاريخي، التخييل المتماثل حكائيا). كما أن تقنية التخييل الذاتي، التي استعملها مفتكر، أدخل الفيلم إلى دائرة «محكي الحياة» الذي يكون، حسب طبيعته ووظيفته، في متناول الناس العاديين، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية. وهذا تطلب من المخرج حذقا فنيا وتكوينا سينمائيا مكناه من إضفاء التخييل على السيرة الذاتية عبر استخدام اللعب وأسلوب التمويه الفني لمعاودة النظر في ذاته، وفي ذاكرته السينمائية أيضا (هذا ما يبرر ربما اعتماده على تقنية كشف المرجعيات، وعلى فضح البنى الشكلية للميتا سرد على نحو إرادي ومقصود، مثل المشاهد التي تشير بشكل مباشر إلى مخرجين آخرين، مثل نوري بوزيد وإمير كوستوريكا وآخرين).
فعلاقة ميمو بشامة (الطفلة الجميلة/الخادمة التي يقع استغلالها من طرف مشغلتها زاينة (زهور السليماني)) مبنية، كما يطرحها الفيلم، على الحلم وعلى «اللا اكتمال»، وأيضا على المساحة الفاصلة بين الذات والموضوع؛ فشامة تشبه «اللحن الموسيقي الأرقى» الذي ثابر الأب على ملاحقته دون أن يدركه. إنها لحن ميمو الذي يكتبه بالحب والحلوى والشعر. مجرد كسوة خفيفة يهزها الريح. هذه هي الاستعارة البصرية (الفستان المزركش) التي تؤسس العلاقة بين الطفلين، وتساهم في خلق رؤية للعالم تؤطر التلازم بين الحسي والعقلي. إنها صورة عن الأسلبة التي يراهن عليها مفتكر، كما يراهن على الاختزال والتكثيف في عناصر الموضوع القائمة على الفكر التعبيري واللغة التشكيليّة.
إن هذا هو التوازي الذي استخدمه المخرج، على المستوى الحكائي، لشعرنة «اللامكتمل». التوازي بين تطلع الأب إلى موسيقى أجمل وأرقى تخرجه من مجتمع القاع (الشيخات)، وتطلع الابن إلى شامة (القصيدة). وهو التوازي الذي يمكن تعميمه على كل الخيبات الأخرى المدرجة في الفيلم، وتحديدا حلم جيل السبعينيات (مجتمع بدون فوارق طبقية). خيبة العشيقة فاطمة. خيبة الأم حليمة (منى فتو). خيبة المغنية. خيبة الصديق مصطفى. خيبة اللحن.. وخيبة القصيدة وهي تأمل وتهفو إلى الاكتمال ليتحقق الحب. فالحب صامت.. والشعر وحده يجعله ينطق كما يقول رولان بارت. ويكفي أن نتستغرق في المقطع الشعري الذي ردده العم عبد الله، وأعاد ترديده ميمو على أسماع «ضوئه الهارب» /شامة ليتعمق هذا الإحساس باللا اكتمال:
لست آسفا على شيء
لا نداءات، ولا دموع
كل شيء سيعبر مثل بياض أشجار التفاح
مأخوذا بخريف من ذهب منخفض
يا شبابي، كم أنت بعيد إلى الأبد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.