شكل المغرب، ومعه المشرق، مصدر إلهام كبير للفنانين المستشرقين. لقد بهروا، على غرار أشهرهم دولاكروا، بنور البلد، مشاهده الطبيعية، طقوسه وعاداته وأنماط الفرجة فيه، هيئات وملامح وملابس سكانه الأهالي من الجنسين، ونمط حياتهم خارج وداخل جدران بيوتهم. جاذبية المغرب، عجائبيته وغرائبيته، طبيعته وساكنته لم تستقطب فرشاة الفرنسيين فحسب، ولم تجعلهم يحولونه إلى تيمات للوحاتهم هم فقط، بل معهم أيضا حفدة ليوناردو دافينشي. لقد ولدت المدرسة الاستشراقية الإيطالية الكثير من الأسماء التي كان المغرب عنوانا رئيسا لإبداعاتها. من هذه الأسماء من زار البلاد وشخص مشاهداته في رحابها، ومنها من أعمل منجز غيره وكتاباته لتخيل مغربه. من بين الأسماء التي بصمت بقوة الاستشراق التشكيلي الإيطالي عبر بوابو تشخيص المغرب والمغاربة، ثمة جيوسيبي سينيوريني سليل العاصمة روما الذي تتلمذ على يد الفنان الشهير أوريرليو تيراتيري. أعمال ذي المرسمين هذا (روماوباريس)، المتوفى سنة 1932، معروضة اليوم في الكثير من أكبر المتاحف الفنية العالمية: باريس، مدريد، هامبورغ، سان بطرسبورغ (لنينغراد سابقا)، بريمن، نيويورك ومتحف كاتالونيا للفن المعاصر بمدينة برشلونة. في هذا المتحف الأخير، يستطيع الزائر التمتع بلوحة لسينيوريني مثيرة للانتباه والتأمل ، لوحة أنجزت سنة 1890 وانتقى لها صاحبها عنوان «عدالة مغربية»، وهي تمثل رأسا مبتورة موضوعة فوق «صينية» يحملها مغربي أسود اللون (أنظر صورة اللوحة). وبالفعل، فإن زج الرؤوس واستعراضها «رياضة وطنية» في مغرب مطلع القرن العشرين وما قبله، يمارسها المخزن ضد بعض أنواع الخارجين عن القانون أو المنتفضين ضد سلطته، مثلما يلجأ إليها زعماء الانتفاضات وقياد قبائل «السيبة» ضد جنود السلطان. وكانت الرؤوس المقطوعة تطوف أزقة المدن فوق رماح المحاربين، مثلما تعلق في أبواب وأسوار المدن لتكون عبرة للآخرين. بل إن منح منظرها كفرجة للعامة، كان يتطلب «معالجتها» حتى لا تتعفن بسرعة، ما فرض وجود «حنطة» مهمتها تمليحها كان جل ممارسيها من المغاربة اليهود. في دراسة بعنوان «العدالة، الجريمة والعقاب في مغرب القرن السادس عشر» (مجلة «حوليات، تاريخ، علوم إنسانية» الفرنسية، العدد الثالث من أعداد السنة الواحدة والخمسين، 1996)، يدرج الباحث الإسباني فرناندو رودريغيث مِديانو عقوبة زج الرأس ضمن تقنيات إذلال الضحية، ميتا كان أو حيا، التي هدفها الإخزاء عن طريق التجريد من الانتماء للإنسانية، إخزاء يتخذ أحيانا سمات «الحيونة»، أي الحط بالإنسان إلى درجة الحيوان. وفي هذا السياق، يسرد الباحث المتخصص في حقول تاريخ المغرب ونخبه خلال القرنين السادس والسابع عشر، ما حدث في فاس سنة 1620. كانت المدينة، أيامها، خشبة لحرب أهلية فعلية بين مكونيها الأساسين، الأندلسيين واللمطيين. وكانت الشخصية الأكثر شهرة ضمن الأولين هي عبد الرحمان بن محمد الفاسي، المدعو بالعارف وزعيم زاوية الفاسيين القوية، الذي أصدر فتوى باللعنة في حق منافسه محمد بن سليمان الأقرع رئيس اللمطيين. في اليوم ذاته، وخلال مناوشة مع جنود السلطان، قطع رأس الأقرع ليموت «ميتة جاهلية، حفظنا وحفظكم الله» وفق توصيف محمد بن الطيب القادري في «نشر المثاني». و«ميتة جاهلية»، يشرح الباحث، عبارة واردة في الأحاديث النبوية ضمن سياق محدد: من فارق الجماعة شبرا، وليس له إمام مطاع، إلاّ مات ميتة جاهلية، أي كموت أهل الجاهلية على ضلال، أو كعاص. إن مقتطف «نشر المثاني» هذا يحدد، انطلاقا من التلميح للتقاليد، نظاما سياسيا متساميا (تمثله في هذه الحالة زاوية الفاسيين)، نظاما يغترف مشروعيته من المرجعية الإسلامية. السلطة، أو السلطان يمارَس في هذه الواقعة من قبل العارف الفاسي الذي يوظف ضد غريمه السياسي، ولو بشكل خارق، تقنية مماثلة للتقنيات التي يستعملها المخزن في سعيه لتجسيد إقصاء الضحية من النظام الشرعي عن طريق ضرب عنقه.