يعتبر هاروكي موراكامي بمثابة الظاهرة التحريرية، فهو الكاتب الياباني الأكثر مقروئية عبر العالم. حققت روايته «84 Q 1» ( في ثلاثة أجزاء ) مبيعات بلغت أربعة ملايين نسخة في اليابان. وفي كوريا، تنافس ناشروه بخصوص اقتراحات تزداد ارتفاعا من ناشر إلى آخر للحصول على حقوق الترجمة، علما بأن ترجمات مقرصنة تملأ السوق منذ أكتوبر 2010. في المجموع، هناك قرابة أربعين بلدا حصلت كلها على حقوق ترجمة هذه الثلاثية الصادرة عن «بلافون». مع ذلك، ورغم النجاحات والإشاعات التي يتم الترويج لها سنويا حول إمكانية حصوله على جائزة نوبل للأدب، فإن هاروكي موراكامي، يظل يتمتع ببساطة مدهشة - كما لو أنه لا تربطه صلة بالمكانة الأدبية التي أصبح يتمتع بها. فهو ليس رجل الإعلام: لا يمر أبدا على شاشة التلفزة، نادرا ما يحب الحوارات والصور بشكل أكبر، كما قال لنا وهو يعبر عن أسفه لأنه أخر إعطاءنا هذا الحوار: «إذا انطلقنا، فإننا لن ننتهي وليس ذلك بالأمر المثير». في مكتبة بأحد الأحياء الراقية في طوكيو، استقبلنا رجل ياباني يبدو في الخمسين من عمره، أنيس وباسم، يرتدي سروال «جينز» وكنزة، لحيته حديثة العهد، يظهر جليا أنه يمكن أن يكون صاحب حانة لموسيقى الجاز، مثلما كان في السابق. بسخريته المتحررة من كل القيود، والتي لا تعرف الخبث أبدا، و باستطراداته المليئة بالصور وباستعاراته، كانعكاس للتأرجح بين الواقع والتخييل الذي يميز كتابته، عرض علينا بتفصيل، القلق الذي يعيشه المجتمع المعاصر تحت هدوء السطح. يترك في الغالب جملة في حالة تشويق بدل صياغة سؤال حول جواب قطعي ، كما هو الشأن في رواياته، في النهاية: « لا أعرف متى تنتهي الحكاية إلا أنني أعرف أنها انتهت بالنسبة لي، وأتوقف هنا». نصوص موازية إن رواية «84 Q 1» هي بمثابة النهاية الأدبية للاشتغال على الذات الذي قاد إليه حدثان تفصل بينهما شهور قليلة سنة 1995: زلزال كوبي ( ينحدر منها الكاتب ) والاعتداء بغاز السارين في محطة القطار بطوكيو. مع مرور السنين، تركت الأشباح الشخصية لهؤلاء الأبطال مكانها لأشباح التاريخ الجماعي، كسبت المكائد من حيث النضج، إلا أن نفس الموسيقى الخفيفة، الخاضعة لإيقاع، الجذابة، لا تزال ترن من « كتاب إلى كتاب »، كما يشير إلى ذلك كورنين أطلان الذي ترجم العشرات من رواياته، من بينها « النوم »، وهي مجموعة قصصية، « الفيل يتبخر»، القصة التي نشرت مستقلة في نسخة تزينها رسوم الفنان الألماني كات منشك ( بلافون ). إنها تحفظ حنانا خاصا ل « نهاية الأزمنة » ( سوي، 1992 ). « إنه عمل البدايات المفعم بالطراوة وبالشعر، تبدو فيه للمرة الأولى بنية نصوص متوازية». يتمتع هاروكي موراكامي بفن جعل اللغة اليابانية مشرقة رغم كونها معروفة بغموضها. وتحويل هذه الكتابة الصافية التي تتخذ لها كموضوع في الغالب الغامض، الظل، الحلمي، يتطلب عملا على الصدى ويفرض بعض الانزياحات أحيانا. مزج المحكيات كصُدف، انبثاق العجائبي في قلب اليومي: يتحدث هاروكي عن العالم المعاصر، عن كتابته، عن نفسه بعد اتخاذ نوع من المسافة اللطيفة - كما لو أن أبسط الأشياء في الحياة هي وحدها التي تهم. n يثير كتابكم الأخير، « 84 Q 1 «، المأساتين اللتين هزتا اليابان سنة 1995 - زلزال كوبي والاعتداء بغاز السارين في ميترو طوكيو من طرف طائفة أوم. وكما هو الشأن في أعمالكم السابقة، نلج عالما يتملص معناه إلا أنه يخلف مشاكل المجتمع المعاصر. هل هذا صحيح؟ o نتيجة للأحداث، ثم لاعتداء 11 شتنبر، أصبحت أكثر حساسية تجاه مشاكل المجتمع. فزلزال كوبي واعتداء أوم - « قنبلتان موقوتتان « ادخرهما مجتمعنا نفسه - تسجلان نهاية حقبة، حقبة يابان له نظام صلب، صارم. منذ ذلك الوقت، لم يعد بإمكاننا التفكير في العالم بالطريقة نفسها، وينبغي أن نكون واعين بالشر الراقد بداخل كل واحد منا. n نجد في « 84 Q 1 « شخصيات ومتطرف « متنور « كشخصيات أوم... o ما كان يهمني، هو تألية تطلعات عناصرها لبناء امبراطورية باطنية انطلاقا من أوهام. نتيجة ل « الفقعة المضاربية «، لزلزال كوبي ولاعتداء أوم، تبخر الهدوء الذي كان يسود اليابان. لم يقم 11 شتنبر سوى بتأكيد فقدان القاعدة التي كنا نعتقد أننا نقف عليها بصلابة. حل محل ذلك الشعور بالثقة شعور بالفوضى. في الوقت نفسه، أحدث الانترنيت اضطرابا في نظام التواصل والإعلام. نعيش اليوم في حضارة رقمية، في عالم تغمره العولمة، متخم بالأرقام وبالعلامات، ويصعب أكثر فأكثر التمييز بين الصحيح وغير الصحيح. انضاف إلى موت النصوص العظيمة، فقدان العلاقات الاجتماعية لواقعيتها. كما أنه أصبح من السهل تسخير الإنسان. n من هنا تلميح عنوان كتابك لجورج أورويل: Q تُنطق « كيو « باليابانية، ما يعني أيضا 9. « 84 Q 1 « تُقرأ إذن 1984... o الاختلاف الكبير بين روايتي وعمل جورج أورويل يكمن في كونه يكتب قصة تجري في المستقبل، أما أنا فأعيد خلق الأحداث الماضية التي تطبع حاضرنا. سنة 1949، كان أورويل يصف نظاما توليتاريا. في أيامنا هذه، لم يعد هناك نظام بحصر المعنى، بل وضعيات تتطور من لحظة إلى أخرى أو من مكان إلى آخر، تتسلسل في حركة مسترسلة تتأرجح فيها المعايير. يجرفنا عدم الاستقرار و الميوعة. علاوة على ذلك، ففي أيامنا هذه، وخلافا لعالم أورويل، يتقدم الشر التوليتاري مُقنّعا: إنه خائن أكثر، باسِم أكثر، إنه معرضُ جثت مجهول أكثر. إلا أن حقبتنا فوضوية أكثر وأرى، شخصيا، أن بإمكاننا البحث عن حقيقة داخل هذه الفوضى: ليس هناك شيء أبيض أو أسود دائما. n ماذا تقصد ب «حقبة فوضوية «؟ o إن الوضعيات تتسلسل في منطق بيّن. إن المصادفات، الحقائق وغير الحقائق تتفاعل، تنطبق على بعضها البعض وتتكامل دون أن تكون الحدود بين الاثنين واضحة: لا نعرف أبدا متى نتجاوزها. قبل عشرين سنة، انتقدوني على تشوش المعايير هذا بين الحقائق وغير الحقائق. إلا أن الكثيرين يتقاسمون هذا الإحساس اليوم... الواقعي يبدو لي أحيانا لا واقعيا، والعكس كذلك. حين أكتب، أكتب ما يبدو لي واقعيا، لكن في الحقيقة، ليست تلك هي الحال بالضرورة. حين رأيت الطائرات ترتطم ببرجي المركز العالمي للتجارة، بدا لي ذلك لا واقعيا: كان ذلك نوعا من المغالاة في الواقع، يصدر عن عمل رسومات بالحاسوب... ليس هناك تعريف للواقعي. ما نعتبره كذلك صقيل دائما على نحو مزيف. من وضعية تافهة يستعد اللاعقلي، العبثي، دائما للانبثاق. ينفلت منا شيء ما باستمرار... n حين جمعت شهادات ضحايا طائفة أوم، لكتاب « النفق « ( 1997 )، حاولت مع ذلك إعادة بناء « واقع « ما. o ما كنت أحاول فهمه، هو ما أكدّوه. ربما لم تكن تلك هي الحقيقة، حقيقة الأحداث، بل ما أعادوا بناءه من تلك الحقيقة. لكن ما أهمية ذلك: ما كنت أرغب في معرفته، هو حكايات»هم». سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة. إذا أصبتَ برعب كبير في شارع مهجور ذات ليلة، فإنك تجازف بوصف الشخص الذي هاجمك كإنسان قوي، مهدّدٍ. لكن في الحقيقة، فربما كان شخصا قصيرا تافها. لكنك « رأيته « طويلا ومهددا: إنها حكايت»ك». وهي ما أريد سماعه. بصفتي كاتب رواية، ما كان يهمني من قرابة ستين حوارا التي أجريتها مع ضحايا « أوم «، « حقيقة جماعية «، تلك التي تنبثق من حكاياتهم. حاولت دخول قلوبهم، حاولت الإحساس بخوفهم. n ترجمت، في فترة شبابك، كُتابا أمريكيين أمثال فيتزغرالد، إريفين، شاندلر... هل تعرف الأدب الأمريكي أكثر من معرفتك بالأدب الياباني؟ o لقد انغمست في ذلك الأدب لأنني أحب الجاز: ذلك ما قادني لقراءة كتاب أمريكيين. بعد ذلك تزوجت. وكانت لزوجتي مكتبة ثرية بالروايات اليابانية، فشرعت في قراءتها... n وكذلك فرانز كافكا، الذي يظهر اسمه في عنوان واحد من كتبك « كافكا على الضفة «؟( عن بالافون، 2002، حصل على جائزة كافكا / م ). o إنه كاتب مهم بالنسبة لي. قرأته في فترة المراهقة. فَتَنَني عالمه. إنه هادئ في السطح و عنيف ولا عقلاني في الوقت نفسه. إنه عالم فوضوي، قريب مني بالتأكيد. حين زرت براغ للمرة الأولى، اندهشت لمناخ تلك المدينة التي بدت لي، فجأة، مألوفة. n رواياتك عموما طويلة. إلا أنك تكتب القصة كذلك. o التعبير الطويل هو الأفضل بالنسبة لي. خلال شبابي، كنت أحب الروايات - الأنهار، روايات تولستوي، دوستويفسكي، بالزاك، ديكنس. والقصص؟ إنها مسلية. حين أتعب، أكتب قصصا... n حين تشرع في الكتابة، هل تفكر في مجرى الحبكة؟ o لا. حين أشرع في الكتابة، لا يكون لدي أي تصميم. دماغي فارغ. أتقدم على غير هدى في غياهبي الخاصة. في ما يتعلق ب « 84 Q 1 «، أمامي المشهد الأول: في سيارة أجرة وسط الازدحام بطوكيو كنا نسمع موسيقى كلاسيكية. لا أعرف ما الذي سيحدث في الرواية. أثق فقط في قدرتي على إنهائها. لدي الثقة لكن ليست لدي الحكاية بعد ! اليوم، كتبت ثلاث صفحات، و لا أعرف ما ستؤول إليه. إنه مثير فعلا أن لا نعرف ما الذي سيحدث في التخييل الذي نحن بصدد كتابته. أنام ليلا وأنا أفكر في الشخوص و، صباح الغد، فجأة، تكون الشخصيات مستعدة للحركة. لا أعرف كيف يتصرف الروائيون الآخرون، إلا أن الأمور على هذا النحو بالنسبة لي. n من المؤكد أنك من الروائيين اليابانيين الذين تترجم أعمالهم أكثر و أنت تظل، مع ذلك، على هامش النخبة الأدبية. هل هو اختيار؟ o لا أعرف إذا ما كان اختيارا. ما يحدث فقط، هو أنني لا أشعر بالانتماء للحلقة الأدبية اليابانية. وليست لدي أي رغبة في أن اُقحم في أنشطتها. لا أظهر على شاشة التلفزة، لا أُلقي محاضرات، لا أكتب مقالات، لا أُوقع نسخا من كتبي، لا أنتمي لأية لجنة تحكيم أدبية... لا أهتم بفعل شيء آخر غير الكتابة. أنا كائن عادٍ يكتب. ثم إنني منشغل كما تعلم: بمجموعة أسطواناتي، بكتبي، بزوجتي، بقططي، بأنشطتي الرياضية، بكتابتي، بتناول قنينة جعة... ولا أعلم ماذا أيضا. أحيانا تتم مؤاخذتي بأنني « غير مسؤول اجتماعيا «. إلا أنني أعتقد أن مسؤوليتي الاجتماعية الحقيقية هي كتابة روايات. n خلال شهر فبراير 2009، قبلت جائزة القدس وفي كلمتك بمناسبة تسلم الجائزة أدنت عنف إسرائيل ضد الفلسطينيين. هل هو التزام سياسي؟ o قبلت تلك الجائزة حتى لا أُخيب أمل قرائي الإسرائيليين. كان من السهل جدا بالنسبة لي أن أرفض. ذهبت إلى هناك إذن وقلت ما كان علي أن أقوله. إلا أنني أجد ذلك مرهقا. لقد كانت تجربة خاصة في حياتي. n ما هو دور الكاتب اليوم في اعتقادك؟ o أن يكتب كتبا جيدة. منذ آلاف السنين و رواة وروائيون يحكون قصصا. هدفهم مساعدة الناس على إيجاد المعنى، على هيكلة أفكارهم. إننا نعيش في عالم تسوده الفوضى، يسوده العنف، علينا تقديم قيم معايير. في السابق، زمن المغارات، كان هناك راوية يحكي قصصا وكان المستمعون إليه مشدودين إلى شيء آخر، ربما كانوا بصدد التفكير، بصدد الحفاظ على الأمل بأن النهار سيطلع قريبا. أفكر اليوم في الغياهب العميقة التي تحيط بنا وأنا أكتب رواية. بإيجاز، أُومن بقدرة الحكايات الجميلة. بإمكان التخييل مساعدتنا على كشف جزء من حقيقة. n تُقرأ رواياتك عبر العالم. لكن، وإذا ما استثنينا المتعة التي تمنحها للقارئ، ما هي الإضافة التي تقدمها تلك الروايات؟ o من الصعب التعبير عن ذلك. تتشكل شخصياتي من أناس عاديين، قرائي هم أيضا كذلك. ومن المؤكد أن هذه القناعة هي التي تجعلني مقروءا. ما الذي أقدمه؟ شيء مشترك. مثلا، قرأ روايتي الأخيرة مليون صيني بينما تدخل بيكين وطوكيو في مواجهة حول قضايا ترابية. يعني ذلك أن ملايين الصينيين واليابانيين يتقاسمون شيئا ما بواسطة هذا الكتاب. n أكد العديد من الكُتاب اليابانيين، من الجيل السابق في كل الأحوال، على السمات الخاصة لثقافتهم. وليس الأمر كذلك بالنسبة لك. ما الذي يجعلك تحس إذن أنك ياباني؟ o لا أعرف معنى أن يكون الإنسان يابانيا. أنا ياباني الجنسية. والداي يابانيان. أحب السوشي... وما عدا ذلك، لا علم لي. اكتشفت أنني ياباني حين كنت أعيش بالولايات المتحدةالأمريكية حيث كانوا يسقطون علي دائما صورة: « الكاتب الياباني «. هل الأمر مهم إلى هذه الدرجة؟ مؤكد أن طريقة التفكير، طريقة النظر إلى مشهد تطبعهما ثقافة. إلا أنني لا أعتقد أن توضيح الفارق مسألة أساسية إلى هذا الحد. الرسالة هي ما يهم - بغض النظر عن الخصوصيات الحقيقية أو المفترضة لانتماء ثقافي. عن «لوموند ماغازين» 11 – 02 - 2011