أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. لقد كانت مشكلة الصحراء ووحدة التراب الوطني في صميم التقلبات الحديثة في التاريخ المغربي. جزء كبير من جيش التحرير المغربي رفض، غداة إعلان الاستقلال وضع السلاح، واتجه نحو الجنوب لتحرير الصحراء. ومنذ الأيام الأولى لممارسة الدولة المغربية سيادتها بمناطق الشمال والوسط، دخلت المشكلة الصحراوية كعنصر جوهري من عناصر النزاع والتوتر داخل الحركة الوطنية من جهة وبينها وبين القصر الملكي من جهة ثانية. والحركة الوطنية المغربية هي الحركة الوطنية الوحيدة في المغرب العربي، وربما في الوطن العربي، التي حرمت نتيجة لملابسات خاصة ومعقدة لا مجال للخوض فيها هنا، من أن تتولى قيادة السلطة الجديدة في بلادها. في تونس، وصل حزب الدستور إلى السلطة، وفي الجزائر، استلمت الحكم عناصر مناضلة منبثقة من صفوف جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني. أما في المغرب، فقد نشب منذ اليوم الأول صراع صامت بين أطراف الحركة الوطنية من ناحية، وبينها وبين القصر الملكي وعملاء الاستعمار من ناحية ثانية، انتهى تدريجيا باستحواذ القصر على السلطة. وما يتجاهله أو يجعله كثير من الذين يتعرضون اليوم لموقف الحركة الوطنية المغربية من الأوضاع الداخلية ومن مشكلة الصحراء المغربية، هو أن الجناح الراديكالي في هذه الحركة دخل منذ وقت مبكر في نزاع مع القصر الملكي، كانت مشكلة بقاء جيش التحرير في الجنوب وتقويته لتأدية مهمته التحريرية، أحد عناصره الأساسية. لقد اعتقل الإخوة محمد البصري، وعبد الرحمن اليوسفي، ومحمد بن سعيد، وسعيد بونعيلات، أبرز قادة المقاومة وجيش التحرير، سنة 1960، بتهمة محاولة اغتيال ولي العهد مولاي الحسن (الحسن الثاني حاليا). وكان ذلك الاعتقال بداية لقمع منهجي متواصل ظلت تتعرض له العناصر الوطنية إلى يومنا هذا. المعارضة الراديكالية التي نشأت في المغرب، مع ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي اليوم) في سنة 1959، تكونت بمبادرة من قيادات المقاومة وجيش التحرير. ومنذ ذلك التاريخ أيضا، لم تتوقف موجات القمع المسلطة على الشعب المغربي وقواه الوطنية الأصلية. طبعا كانت هناك فترات هدوء وهدنة يضطر النظام إلى التخفيف خلالها من وطأة آليته القمعية ويسمح بقليل من حرية التعبير والتنظيم. وكانت هذه الفترات تأتي في أعقاب انفجارات شعبية (مثلما حدث سنة 1965 بعد انتفاضة الدارالبيضاء) أو في أثر تصدعات عميقة داخل النظام نفسه (بعد محاولتي الصخيرات والقنيطرة 1971-1972). على أن الشيء الثابت، هو أن المعارضة الوطنية بأجنحتها المختلفة، الاتحادية والاستقلالية والشيوعية، لم تتوقف قط عن المطالبة بعودة الصحراء الغربية إلى المغرب. ولم أتكلم عمدا عن موقف اليسار الجديد لأنه شرح بما فيه كفاية على أعمدة هذه المجلة، وهو باختصار شديد بما فيه كفاية على أعمدة هذه المجلة، وهو باختصار شديد يربط بين تحرير الصحراء، وتحرير المغرب كله من الهياكل العتيقة لإقامة نظام ديمقراطي شعبي، يفتح الطريق لتحولات ثورية ذات أفق اشتراكي. أذكر بهذه الحقيقة التاريخية الملموسة -حقيقة إجماع المغاربة على ضرورة عودة الصحراء- للرد على القائلين بأن الحركة الوطنية المغربية دخلت في لعبة الملك حين وافقت على دمج الصحراء الغربية بالمغرب. ولعلي أكون وصلت هنا إلى بيت القصيد، أو في تعبير أكثر عصرية إلى السؤال المركزي هل يخدم النزاع المغربي-الجزائري حول الصحراء، في حالة تحوله إلى حرب شاملة، أم جرى في ظروف إجماع وطني مغربي، مسألة التحرير الوطني الديمقراطي بالمغرب العربي؟ إني استعمل هنا كلمة "وطني" و"ديمقراطي" رغم ما قد يكون للأولى من رنين متبذل، وما قد تثيره الثانية من غموض والتباس في أذهان بعض الرفاق. وعن سابق إصرار، أستبعد كلمات مثل الثورة الإشتراكية، احتراما لهما، وإيمانا مني بأن لكل مقام مقال، الاعتقادي الجازم بأن القضية المطروحة حاليا، هي ببساطة، هل تقع الحرب أم لا، بين الجزائر والمغرب؟ وبصراحة، بإيجاز مفرط، أقول أن الحرب لن تخدم هذه القضية. وإذا وقعت هذه الحرب، فماذا ستكون نتائجها؟ وأنا لا أطرح السؤال - من يكون المنتصر؟ لشعوري أيضا بضرورة احترام معنى الكلمات. إنه لن يكون هناك منتصر ولا مهزوم، إنما ستقع كارثة وطنية وقومية تترك بصماتها لأجيال، على الذاكرة الجماعية لشعوب المغرب العربي. وحين أفكر بعمق في كل الاحتمالات الممكنة، لا أجد كلاما أقوله لأنصار التصعيد بين الجانبين سوى ما قاله جماعة من اليهود المتخاذلين حين دعاهم النبي موسى إلى قتال المصريين- (اذهب أنت وربك فقاتلا أنا هاهنا قاعدون...) صدق الله العظيم. نعم... "اذهب أنت وربك فقاتلا أنا هاهنا قاعدون.." صدق الله العظيم هذا هو الشعار الوحيد، الذي ينبغي أن يطرحه، في هذه اللحظات الحرجة كل مناضلي المغرب العربي، وهو الشعار الذي ينبغي أن يسود على غيره من الشعارات. ولكن ظروف الإجماع الوطني داخل المغرب، واعتبارات التعبئة الوطنية داخل الجزائر، لن تسمحا قطعا، لصوت ناشز كهذا بالوصول إلى أوساط مؤثرة. ثم إن الحمية الثورية والوطنية (الكوكوت-مينيتية) التي تجتاح الآن عددا من شباب الصحراء المثقف، والمبالغات الإعلامية والديبلوماسية التي تتسم بها مواقف الحكم الوطني الجزائري، والهجوم المستمر لصحف المعارضة والحكم في المغرب على سياسة الجزائر، إن ذلك كله قد يكون أوصلنا إلى نقطة اللاعودة". إن القتلى الآن يعدون بالعشرات في صفوف الجانبين.. فأي حركة وطنية هذه، التي تقتل في ظرف بضعة أسابيع مئات المغاربة و(حسب بيانات البوليزاريو نفسها، تمت تصفية أكثر من ألف جندي وضابط مغربي في العمليات البطولية التي قادها ثوارها الشجعان).. أقول، أية حركة وطنية هذه التي لا تقتل في ظرف ثلاث سنوات سوى بضعة أفراد من الجيش الإسباني، وتحصد في عدة أسابيع مئات المغاربة؟ سوف يردون : لم تكن لدينا أسلحة كافية. وحتى لا يكون هناك أي التباس - أتساءل مرة أخرى لماذا انتبه الإخوة الجزائريون للتواجد الإمبريالي في الصحراء الغربية فقط بعد وصول الجيش المغربي إليها؟ لماذا أصبح مصير "الشعب الصحراوي" الشغل الشاغل للجزائر بعد شهر ديسمبر 1975؟ إنني أطرح هذه الأسئلة البسيطة، كمواطن من المغرب العربي لم يكتسب انتمائه إلى هذه الرقعة من الوطن العربي الكبير بحكم المولد والنشأة فقط، وإنما بسبب ممارسة طويلة، ومعاناة مؤلمة أحيانا. وكيف يستطيع أي عاقل أن يفكر بعد الأخطاء الكبيرة المرتكبة، وأهمها فداحة، وآخرها دويا، طرد آلاف المواطنين المغاربة من الجزائر، في إمكانية إعطاء طابع ثوري للحرب المتوقعة؟ إنها ستكون مغامرة كبرى قد يحترق في أتونها جميع الذين أوقدوها. ولو أني كنت لا مباليا، أو ميكيافيليا، لصفقت للحرب باعتبار أنها سوف تخرج الوضع المغربي، والوضع في المغرب العربي عموما، من الحالة الروتينية التي هو عليها ولكن معرفتي العيانية -لا أقول هذا من باب التبجج وإنما للتأكيد على الطابع الواقعي لملاحظاتي- بالجزائر والمغرب، وإلمامي القليل بالأوضاع الدولية، تجعلني أسيل إلى الاعتقاد بأن الحرب، أيا ما تكون نتائجها، هي في آخر تحليل، كارثة وطنية وقومية. ولهذا أعارضها. إن هناك توازنا بشريا وجغرافيا واقتصاديا يسمح للبلدين بخوض حرب طويلة أو قصيرة، يستطيع كل واحد منها أثناءها أن ينهك الآخر بما فيه الكفاية، والحديث هنا عن وقوف الإمبريالية في جانب، والاشتراكية في جانب آخر، يدخل في باب كلمات الحق التي يراد بها الباطل. بديهي أن الغرب وأمريكا سوف يقفان بشكل أو بآخر، وراء نظام الحسن الثاني، لعل تجربة القوة التي سيخوضها ضد حكم الرئيس هواري بومدين، أن تكون تعويضا عن الهزيمة التي منيت بها الإمبريالية في أنغولا. وبديهي أن الاتحاد السوفياتي قد يدعم الجزائر للصمود في وجه أي تصعيد قد يهدد نظامها الثوري. ولكن هذا البعد الدولي، ليس هو العنصر الحاسم في المرحلة الحالية. وحتى إذا كان كذلك، فهو لا يعفي أي واحد من مشقة التفكير المستقل، ورؤية الأشياء في عناصرها الأولى. وبدون أي نقد مبطن للاتحاد السوفياتي أو الفيتنام أو أية دولة اشتراكية تؤيد الجزائر، فنحن لا نعتقد في ظروف الصراع الدولي الراهن، أن المقياس الصحيح للمواقف التاريخية الصحيحة، هو ما تؤمن به هذه الجهة الدولية أو تلك. والحال أن العنصر الجوهري في الأزمة الراهنة، هو ظاهرة الإجماع الوطني المغربي حول الصحراء. إن هذه الظاهرة هي المسألة المركزية. ووحدهم المتعودون على تحريك الآراء العامة إعلاميا، أو الناطقون باسمهم، أو الذين يحتقرون الجماهير، أو يؤمنون بالمذهب البوليسي لتفسير التاريخ، يستطيعون أن يرتاحوا للتفسير القائل بأن رد فعل الشعب المغربي هو مجرد مناورة. إن مثل هذه التفسيرات تبقى لغوا لأنصاف المثقفين يلتقطون الكلمات ويرددونها دون معرفة معانيها. وهي لا تستحق أي اهتمام لولا أنها تدخل في إطار مسلسل يبدو أن الذين أطلقوه، فقدوا السيطرة عليه. وهذا الفهم السطحي لحقيقة الأشياء، يمكن أن يعطي صورة مزيفة لمسؤولين من المفروض أن يتخذوا قراراتهم على ضوء معطيات أخرى. إن الاستمرار في تناول مشكلة الصحراء على أساس أنها لعبة ملكية، قد يقود إلى أوضاع تصبح فيها الحرب الشاملة الحل الوحيد أمام الطرفين. والحرب في الوضعية الراهنة، سوف تكون بالنسبة للجزائر، مثل حرب عبد الناصر في اليمن. مع فارق جوهري، هو أنه لا يوجد حاليا جمهوريون مغاربة تؤيدهم الجزائر، وإنما رأي عام مغربي ساهمت أخطاء السياسة الجزائرية في جعله يلتف حول الملك، ويعتقد أن عدوه الأول هو جزائر الثورة. ولقد خلفت حرب اليمن ظاهرة خطيرة هي عداء اليمنيين للمصريين، أدت إلى محو الظاهرة الإيجابية المتمثلة في تقوية النظام الجمهوري، وإذا نشبت الحرب، وانتصرت فيها الجزائر، فإنها ستخلف بالتأكيد ظاهرة مماثلة. والسيناريو الذي سيؤدي للحرب جاهز منذ الآن. تقوم عناصر البوليزاريو من حين لآخر بهجومات خاطفة ضد المواقع المغربية في الصحراء، فيرد عليها الجيش المغربي، بعمليات تمشيط، وتتهم الحكومة المغربية الجزائر بأنها هي التي تدبر وتحرك كل شيء. وترد الجزائر بأن لا ناقة لها ولا جمل في الموضوع، وأن الصعوبات التي يواجهها المغاربة هي من فعل الصحراويين. وتتكرر الهجومات والهجومات العكسية. ورد رد الفعل، ورد ورد الفعل المضادة، ويشتد الإجماع الوطني بالمغرب وتتقوى التعبئة الوطنية بالجزائر، إلى أن يأتي يوم يجد فيه أحد الطرفين أن الكأس قد فاضت بما فيه الكفاية، فتحصل الضربة التي تقصم ظهر البعير. ويومها لن تكون هناك مشكلة "شعب صحراوي"، ولا تقرير مصير ولا بطيخ، وإنما حرب مغربية جزائرية، لعل الذين يحضرون لها الآن في غرفة العمليات لا يدركون طبيعتها ولا أبعادها. وسوف يذهب آلاف الشباب إلى الجبهة ونفوسهم معبأة للتضحية، ويسقط مئات القتلى في حرب داحس والغبراء، سلاحها الطائرات والدبابات والصواريخ، بدلا من السيوف والرماح والنبال، والقتلى الذين سقطوا أو الذين سيسقطون، سوف يشكلون مأساة بالنسبة للضمير العربي في المغرب. إنهم لا يمكن أن يعتبروا بأي حال من الأحوال شهداء، لأنهم ينتمون إلى شعب واحد ودين واحد، ولأن مدار المعركة ليس صراعا مذهبيا دينيا، وإنما هو منافسة دموية يلعب فيها كل واحد دورا شبيها بذلك الذي يلعبه أبطال مسرح العرائس "الكارطونيون". إن الشعب المغربي، رغم إجماعه الوطني على استرداد الصحراء، ليس راضيا عن أوضاعه الداخلية أو سياسة الملك العامة، ولكنه مسير لا مخير ولسان حاله يقول : ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوا له ما من صداقته بدُّ والشعب الجزائري ليس متحمسا بالتأكيد لمحاربة شقيقه المغربي، وسوف يذهب أبناؤه إلى الحرب، إن دُفعوا لذلك، وفي نفوسهم حزن عميق. والمأساة أن الخصائل الحربية متساوية عند الاثنين، ولكن من المؤكد أنه لو أُعطيت لهم الكلمة بحرية مطلقة حول مسألة الحرب، وشرحت لهما أبعادها ومخاطرها الحقيقية، لقالا لكل داعية حرب : "... اذهب أنت وربك فقاتلا أنا هاهنا قاعدون". صدق الله العظيم.