نريد أن نقف ونحن نمهد لتعيين سمات وملامح الطور الانتقالي العربي، أمام نتائج الانتخابات التي حصلت بعد انفجارات 2011، في كل من تونس ومصر والمغرب، بحكم أنها أنتجت ظاهرة فوز تيارات الإسلام السياسي في البلدان المذكورة. فلا يمكن إغفال هذا الأمر، والمجتمعات التي أفرزت وصول الإسلاميين إلى سدة قيادة الأغلبية في الحكم ليست مجتمعات ديمقراطية. ترتب عن وصول حركة النهضة إلى الحكم في تونس، ووصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، ثم حصول حزب العدالة والتنمية على الأغلبية في الانتخابات التشريعية في المغرب، ما دفع تيارات الإسلام السياسي في البلدان المذكورة إلى إعداد خطة جديدة في العمل السياسي العربي. نتبين ملامح ذلك في مواقف الإسلاميين المغاربة بمختلف حساسياتهم السياسية الدعوية الصوفية والأخلاقية، ودون إغفال أنماط التدين الشعبي الأخرى، الامر الذي ترتب عنه نوع من الاصطفاف السياسي الجديد داخل هذه المجتمعات، نتبين إرهاصاته الكبرى في المواقف التي حصلت بعد ولوج البلدان المذكورة، أبواب الطور الانتقالي. قامت جماعة العدل والإحسان وحركة التوحيد والإصلاح، وحزب العدالة والتنمية التابع لها، بتهنئة جماعة الإخوان المسلمين المصرية فور الإعلان عن فوز مرسي بالانتخابات الرئاسية، في أول انتصار انتخابي تحققه هذه الجماعة منذ إنشائها عام 1928. وقد سمح التواصل الحاصل بين جماعات الإسلام السياسي، في تقوية مؤشرات التآمر والمؤامرة، فأصبح هناك من يتحدث عن مؤامرة رتبت ملامحها في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، وحصلت بتواطؤ جهات عديدة، في إطار ما عرف بحاجة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. نتبين في مواقف حزب النهضة وحزب العدالة والتنمية في المغرب، من الأحداث، التي أدت إلى الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، ما يؤكد ما كنا بصدد الإشارة إليه. فعندما نقوم على سبيل المثال، بمراجعة بعض بيانات حركة النهضة التونسية، الصادرة بمناسبة الأحداث التي عرفتها مصر، نجد أنها بيانات شديدة اللهجة، وكاشفة لمواقف حركة النهضة من عملية عزل الرئيس مرسي. بل نكتشف أيضا تأثيرها على مواقف حزب النهضة من المعارضة التونسية. حيث يمكن أن نربط بين ما حدث في مصر وبين جوانب معينة في المأزق الذي عرفه المشهد السياسي التونسي، في موضوع الحوار الوطني وخارطة الطريق التي يقودها التحالف الوطني بقيادة الجناح النقابي، بهدف تليين التصلب في المواقف، التي عرفها المشهد السياسي التونسي. ففي مختلف هذه العناصر، كثير من المعطيات التي ساهمت في تعطيل عمليات رفع المأزق التونسي. وقد نجح الحوار الذي انطلق في ظروف صعبة، بين أغلب مكونات المشهد السياسي التونسي، في التهييء لإيجاد مخرج مُتوافَقٍ بشأنه، حيث انسحبت حكومة النهضة وتم تشكيل حكومة مؤقتة، كلفت بالإشراف على الانتخابات القادمة في سنة 2014، كما تم الاتفاق على أعضاء الهيئة التي تشرف على الانتخابات، وإقرار الدستور التونسي الجديد. نشير في هذا السياق، إلى أن تونس تشكل منذ اندلاع انفجارات 2011 مختبرَ تجاربٍ لمختلف التحولات السياسية العربية، ما حصل منها وما هو في طور التبلور. وهي اليوم تعطي الانطباع بأنها دخلت بعد العمليات الإرهابية، التي تم فيها تصفية بعض الفاعلين السياسيين وبعض رجال الأمن، في مناخ ملغوم ومليء بالمشاكل العويصة والمتشابكة. وقد نتج عن المناخ المذكور، حصول تموقعات حادة في المشهد السياسي الانتقالي التونسي. أما المبادرة التي أطلقها الطرف النقابي فقد تساهم في فتح المشهد السياسي الانتقالي في تونس، على أفق جديد يتيح تجاوز التصلب الحاصل فيه، نتيجة مناخ الإرهاب واشتداد حدة الأزمة الاقتصادية، وتزايد المسافة بين شعارات الثورة والتدابير السياسية القائمة. وإذا ما قمنا بمقارنة ما يجري اليوم في تونس بما جرى في مصر، فستظهر تونس بمظهر متقدم، بحكم ما يتمتع به المجتمع التونسي ونخبه من خصوصيات، مرتبطة بنظامه السياسي ومرجعيته الثقافية. فقد ظلت تونس في عز أزماتها تتصارع دون أن تتخلى أطرافها المتنازعة عن الحوار، وذلك رغم ما يتبينه الملاحظ من استكانة أطراف الحوار إلى لغة محددة. ومع ذلك، فقد لاحت تباشير جديدة، في سياق المساعي الرامية إلى استكمال البرنامج، الذي تم الاتفاق عليه في خارطة الطريق، المقترحة من الطرف النقابي. عندما يضع الباحث في اعتباره شعارات الميادين المعبرة عن مشروع التغيير، ويقارن بينها وبين مواقف وأشكال تدبير الإسلاميين للسلطة في الطور الانتقالي، سيفاجأ بالمسافة الكبيرة الحاصلة بين الشعارات والممارسات. وإذا كان الاحتقان سيد المواقف في الساحتين معاً، فإن العبرة تكون في كيفيات المواجهة والتجاوز، أي كيفيات إدراك شروط وسياقات الطور الانتقالي، ومحاولة ترتيب البرامج والإجراءات المناسبة للنهوض بمتطلباتها. تكشف المآزق التي تعيشها البلدان المذكورة، بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، أمرين اثنين، يتعلق الأول منهما بعدم قدرة الفاعل السياسي على إدراك نوعية التحول الراسم لملامح أفق في الانتقال الديمقراطي المتدرج. ويشير الثاني إلى عدم قدرته من جهة أخرى، على إدارة مرحلة تقع بين طورين مختلفين من أطوار التاريخ، نقصد بذلك ما قبل الثورات وما سيحصل بعدها. إذا كنا قد وضحنا ذهول النخب العربية، أمام الحدث الذي عرفته المجتمعات العربية سنة 2011، فإنه لا ينبغي أن نغفل الإشارة إلى الذهول الآخر، الذي غَشِي أبصار الذين تبوأوا بعد ذلك مقاعد الحكم، في كل من مصر وتونس والمغرب. تبرز المعالم الكبرى لهذا الذهول، في نسيانهم السريع بأنهم وصلوا سدة الأجهزة التنفيذية بعد انفجارات وأحداث تاريخية كبرى. كما تتمثل في عدم انتباههم إلى أنهم يقودون اليوم مرحلة انتقالية، يفترض أنها تمهد لولوج أبواب النظام الديمقراطي. وقد أدى بهم الذهول إلى إغفال أن الترتيبات التي جعلتهم في موقع القرار، تندرج ضمن مطلب بناء برنامج انتقالي محدد، برنامج يناسب مرحلة ما بعد الثورة بمختلف تداعياتها وخاصة منها الجوانب، التي تستدعي القيام بتهدئة الحراك الاجتماعي، وَلَمْلَمَة المخلفات التي تركها في المجتمع والدولة والمؤسسات الصانعة لاستقرار وتوازن المجتمع، إلا أن الذهول دفعهم إلى ركوب مسارات أخرى، فأصبح الاضطراب عنواناً بارزاً في دروب الانتقال المعقدة. ترتب عن الذهول على مقاصد الطور الانتقالي، أزمة عامة في الخطاب وفي الفعل السياسيين، وصَنَع الخوف من الإسلام السياسي داخل المجتمع ووسط النخب ما ضاعف الذهول وحوَّله إلى حالة عامة، وَلَّدت لدى ممثلي الإسلام السياسي إحساساً خارقاً بالنصر. نتبين بعض ملامح ذلك على سبيل المثال، في حديث الإخوان في مصر عن فتح مصر مجددا، من أجل إعادة نشر ألوية الإسلام وأنواره. إن الاستحواذ على السلطة والتفرد بها، واستخدام جرعات زائدة من توظيف الدين في الخطاب السياسي، (مواقف حزب النهضة من التيار السلفي)، أثار مخاوف لدى مختلف الفاعلين السياسيين، الأمر الذي حوَّل المشهد الانتقالي من مشهد للتوافق المرحلي، إلى مشهد مُركِّبٍ لأفعال من الاستقطاب المغذية لآليات في الفعل السياسي، لا تناسب طبيعة الطور الانتقالي الحالي، بكل ما يحمله من أجواء الاضطراب والمواجهة. إضافة إلى ذلك، نلاحظ تنامي خطابات شعبوية لا تعير أي اعتبار للخطاب السياسي المفترض أن يعبر عن تطور الوعي، في حقبة تاريخية لا تتكرر دائماً. نحن نفترض أن مهمة ترتيب برنامج الطور الانتقالي لا يمكن أن يكون إلا جماعياً، إنه برنامج يخص المجتمع في لحظة سعيه لتخطي آثار ما بعد الانفجارات، وبناء جسور العبور التي تهيئ للانتقال الديمقراطي. كما نفترض أن أزمنة ما بعد الثورات، تعد بامتياز أزمنةً للتوافقاتِ المرحلية المؤقتة. فكيف نفسر تناسي الفاعل السياسي العربي لمحطة المراحل الانتقالية؟ كيف نفسر الذهول الذي غشيَّه وأنساه شعارات الميادين وأزمنة الإقصاء، رغم أنه ما يفتأ يتحدث عن كونه كان واحداً من الذين صنعوا مأثرة التظاهر الثوري؟ لم يعد لا للشعارات التي رفعت في الميادين والساحات العمومية، ولا لبرامج الإصلاح أي وجود في الطور الانتقالي، وأصبحنا بدل ذلك، نواجه سلطة تروم ترسيخ نفوذها وقيَّمها، دون التفات إلى البرنامج المرحلي ومهامه المطلوبة، بل دون انتباه إلى تعددية المجتمع وتعدد خياراته السياسية. ولا إلى مكاسب التحديث والمشروع السياسي الديمقراطي الحاصلة في العقود السابقة، فكيف نفهم ما حصل؟ نتجه لتقديم جملة من المعطيات، التي اتخذت لها صوراً محددة في الطور الانتقالي في كل من مصر وتونس، لعلها تسعفنا بمعاينة بعض مآزق الطور الانتقالي العربي.