إعادة موضعة معنى الملكية بالمغرب، كان ذلك موضوع لقاء عمومي، بمسرح المركز الثقافي الفرنسي بالدارالبيضاء، من خلال لقاء مناقشة مع الباحث المغربي عمر ساغي، على هامش صدور كتابه القيم الجديد "فهم الملكية المغربية"، الصادر في آخر 2016 بباريس. واعتبارا لنوعية الحضور الكبير والنوعي، وقيمة المقاربات التي تم إعلانها خلال مناقشة ذلك الكتاب وذلك الكاتب، بتأطير رفيع واحترافي من الزميل والباحث الأكاديمي عبد الله الترابي، برزت عالية دبدبات الإهتمام مغربيا بسؤال الملكية بالمغرب اليوم، على مستوى النخبة. الحقيقة، إن قراءة كتاب الباحث المغربي الواعد والرصين، عمر ساغي، تؤكد أمرين: أولها أن المدرسة المعرفية المغربية في مقاربتها لسؤال السياسة بالمغرب أكثر عمقا وعقلانية ونقدية برؤية تاريخانية أصيلة. وأنها مقاربة كيفية وليست كمية. ثانيها، أن القصة المغربية في مجال ممارسة السياسة، من خلال أنظمتها السياسية المتعاقبة منذ قرون، هي فعلا مختلفة ومتمايزة (وليست متميزة) عن باقي التجارب السياسية بكل الفضاء العربي الإسلامي. وهي القراءة، التي شكل ذلك اللقاء المسائي من يوم الأربعاء الماضي، فرصة لإعادة تعميق هذين الأمرين وتأكيدهما، حيث اكتشف الحضور الصلابة المعرفية المؤطرة للرؤية التحليلية التي يصدر عنها الباحث المغربي عمر ساغي. مثلما أن شكل ومستوى مناقشة الحضور له من خلال 12 مداخلة من الجمهور، قد أبرز أن دبدبات الإهتمام العمومي المغربي بسؤال السياسة بالمغرب، هو جد عال، عكس ما يفرزه المشهد العمومي إعلاميا وتواصليا. وأن التجاوب يكون رفيعا وسريعا وعاليا، حين يكون الموضوع المطروح حيويا مثل سؤال الملكية بالمغرب اليوم، وحين تكون المقاربة رصينة، تحليلية، نقدية، غير مجاملة وغير متحاملة في الآن ذاته. هل الملكية "فرصة مغربية"؟. بمنطق التحليل الملموس للواقع الملموس، الجواب هو : نعم. ليس فقط، من جانب الرؤية للواقع العربي اليوم، المكبل بالكثير من أسباب التوتر والقلق والتطرف، من كل الأشكال والأنواع، سواء التطرف الدولتي أو التطرف الديني. بل لأنها حقيقة تاريخية مغربية، تأسست على تراكم للتجربة في التنظيم السياسي، أقله منذ العهد السعدي (أطروحة عبد الله العروي)، ظلت توسعه وترسخه التجربة السلطانية الإمبراطورية للعهد العلوي. وأنه بالعودة إلى درس التاريخ، سنجد، أنه منذ القرن 16، أساسا في الفترة ما بين 1550 و 1560، برزت، بالتوازي، بالعالمين العربي والإسلامي، أربع تجارب سلطانية، هي التجربة العثمانية والتجربة الفارسية الصفدية والتجربة المغولية الهندية والتجربة المغربية. وإذا كان لكل واحدة منها مجالها الجغرافي الحاسم والمؤثر، فإن التجربة المغربية، قد تأسست وصلبت وتقوت، بمواجهة مزدوجة للهيمنة العثمانية، التي وقفت عند حدود وجدة وشرق المغرب وتمنعت عليها الجغرافية المغربية. وأيضا للهيمنة الغربية المسيحية، التي بدأت تتحكم في ما يمكن وصفه ب "النظام العالمي الجديد" لما بعد 1492، تاريخ اكتشاف القارة الجديدة وسقوط الأندلس وخروج سؤال السياسة الإسلامي من مضيق جبل طارق نهائيا، وميلاد الرحلات التجارية الكبرى عبر خط ماجلان. هكذا، تبلورت، منذ القرن 16، دورة جديدة لمعنى الدولة بالمغرب، أصبح فيها للسلطة الرمزية للسلطان قوة مؤثرة على تنظيم المصلحة بكل الغرب الإفريقي والمتوسطي. حيث انتقل التأثير المغربي، عبر مؤسسة الشرفاء، من قوة التوسع الجغرافي كما كان عليه الحال في العهدين المرابطي والموحدي، إلى قوة السلطة الدينية الروحية والرمزية خلال المجال الجغرافي للدولة المغربية. وأصبح ترسيم خط نظام تجاري بين تومبكتو وخليج غانا وبين سجلماسة ومراكش والصويرة، البوابة التواصلية من الجنوب صوب الشمال، مع جنوة ومارسيليا ومانشستير وليفربول وأمستردام. أي أن المجال الجغرافي للسلطنة المغربية الإمبراطورية، قد ظل هو غرب إفريقيا وغرب المتوسط والفضاء المفتوح على مجاهل المحيط الأطلسي. إن مما يطرحه كتاب الباحث المغربي الواعد، عمر ساغي، هو ضرورة الإنتباه إلى أن الملكية فرصة تاريخية للمغاربة. بل وفرصة ذكية ومفيدة تنظيميا اليوم وفي الأفق المنظور لمآلات تطور العالمين العربي والإسلامي في أفق حسابات وتحديات القرن 21. لأنه حين تراجعت وسقطت كل التجارب السلطانية العربية والإسلامية لما بعد القرن 16، في إسطنبول وشيراز وهمدان والهند وباكستان وأفغانستان، بقيت التجربة التنظيمية السطانية المغربية قائمة. لأن الحظ شاء، أن يكون الفريق الإستعماري الغربي الفرنسي الذي وضع اليد على مقدراتها ضمن تيار الحركة الإستعمارية الأروبية، في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 (مع تسجيل أن المغرب من آخر الجغرافيات التي وقعت في براثن الإستعمار)، هو الفريق العسكري الفرنسي المطرود إلى الهوامش الإستعمارية ضمن الجمهورية الثالثة الفرنسية، الذي يمثله الماريشال ليوطي. فهذا الفريق قد عمل على المحافظة على القيمة الروحية للسلطنة الإمبراطورية المغربية، في الآن ذاته الذي عمل على تحديث البنية المؤسساتية للدولة المغربية. فكانت النتيجة تواصل التأثير السياسي والثقافي والسلوكي والروحي للدولة المغربية في فضائها الجغرافي التاريخي بغرب إفريقيا إلى اليوم وسيظل. إن المقارنة، مثلا، مع محاولات تركيا آردوغان، التي تحاول عبثا استعادة روح الإمبراطورية العثمانية عبر القوة العسكرية، وليس عبر القوة الثقافية السلوكية والرمزية، والتي ستجعل أراضيها لن تتوسع سوى بكلمترات بئيسة. تجعل الإستراتيجية المغربية اليوم، منذ 1912، المتأسسة على القوة الثقافية والقوة التعاونية أكثر فعالية. من هنا معنى الرؤية إلى أن الملكية "فرصة للمغاربة"، يمتسب كل راهنيته الرؤيوية التحليلة. ومن هنا أهمية كتاب رائق وعميق مثل كتاب "فهم الملكية المغربية" للباحث الرصين عمر ساغي.