الكتابُ الذي ننشر ترجمته الكاملة إلى العربية هو- كما أراد له صاحباه (حبيب المالكي ونرجس الرغاي)- ثمرةَ لقاء. لقاء ما بين رجل سياسة وبيْن إعلامية: الأوّل يريد أنْ يقدّم شهادة، والثانية تريد أنْ تفهم. ليس من عادة رجال السياسة أنْ يقدّموا شهاداتهم. قليلون جدا هُم الذين يَقبلون الانصراف إلى تمْرين تقديم الشهادة. ورَغم ذلك، فإنّ تاريخ المغرب المعاصر بإمكانه أن يشكّل تمرينا جيدا للشهادة. فمنذ مستهل التسعينيات، طوى المغرب صفحات مصالحة لم تكن دائما هادئة. إنها مادة رائعة أمام المُنقّبين الذين يرغبون في الذهاب أبعد من الطابع الآنيّ للمعلومةّّّ! كما أنّ هذا الكتاب هو كذلك ثمرة رغبة ملحّة في الفهم، فهم هذا الحُلم المقطوع التمثّل في التناوب التوافقي الذي دشّنه الوزير الأول السابق المنتمي إلى اليسار، عبد الرحمان اليوسفي. وهو أيضا رغبة في فهم ذلك الإحساس بالطَّعْم غير المكتمل للتناوب الديمقراطي. } التناوب على مَرْمى حجر، ونحن على بعد بضعة أيام على تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول، ما هو الدور الذي لعبه عبد الرحيم بوعبيد لكي يصبح ذلك ممكنا، عبد الرحيم بوعبيد هذا الغائب ?الحاضر الأكبر؟ مهما تبلغ أهمية سنوات تسعينيات القرن الماضي، وطابعها الحاسم، فإن التناوب يظل نقطة تتويج لمسار انطلق سنة 1976 على يد عبد الرحيم بوعبيد، بمناسبة انعقاد اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمدينة بني ملال. وقد تحكّمتْ في هذا الاجتماع الظرفية السياسية لتلك المرحلة. كنا غداة انطلاق المسيرة الخضراء، وبالتالي كانت القضية الوطنية تحظى بالأوْلوية الكبرى. وبعد نقاش طويل، اقترح بوعبيد المشاركة في الانتخابات المحلية والتشريعية، بعد 15 سنة من المقاطعة المطلقة. يومها كان الشعار المجدد، الذي يعبّر من الناحية السياسية عن ذهنيّة مناضلينا، هو التالي تقريبا :»لا تهمّنا المقاعد بقدر ما يهمنا إسْماع صوت الشعب». كان عبد الرحيم بوعبيد ذا نظر ثاقب، بقدر ما كان رجُلا استراتيجيا كبيرا. كانت له موهبة اختيار الوقت المناسب لكيْ يخلق الحَدَث ويؤسّس التاريخ، لا ينبغي أن ننسى أيْضا بأنه كان رجلا وطنيّا، وهو أحد الموقّعين على وثيقة الاستقلال سنة 1944. من هنا، سرعان ما أقام عبد الرحيم بوعبيد علاقة بين ديموقراطية صعبة، بطيئة ولكنْ ضروريّة، وبين الدفاع عن الوحدة الترابية؛ وبعبارة أخرى، فإنّ ضمان التعبئة الشعبية يمرّ عبر المشاركة في الانتخابات، حتى وإنْ كانت النتائج معروفة مسبقا. لقد مرّتْ أكثر من عشرين سنة على القرار التاريخي القاضي بالمشاركة في انتخابات 1976، مرورا بالقرار، التاريخي بدوره، القاضي بالمشاركة في حكومة 1998، وهو أمر دالّ على الوتيرةالسياسية بالمغرب. } ولكن إذا كان عبد الرحيم بوعبيد هو مهندس الديمقراطية، فإن عبد الرحمان اليوسفي هو صانع المشاركة. أنت الآن تستحضر وجهيْن من وجوه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أحدهما كان هو الفاعل في مجيء الديمقراطية، أما الثاني هو صانع التناوب، قلت عن عبد الرحيم بوعبيد بأنه كان احد الكبار الاستراتيجيين، ورجل دولة، وبأن عبد الرحمان اليوسفي كان يتوفر حس التاريخ . فما هو الفرق في أسلوب الرجلين؟ يكمن الفرقُ بين الرَّجلين في الأسلوب، وفي المزاج، غير أنّ المساريْن ينخرطان في الدينامية التاريخية نفسها، وبما أنّ عبد الرحيم بوعبيد قد بقي داخل المغرب، فقد برهن عن نوع من البراغْماتية في اللحظات العصيبة، كان يعرف حقّ المعرفة كيفية اشتغال النظام السياسي. هذا في الوقت الذي اضْطُرَّ فيه عبد الرحمان اليوسفي إلى اختيار المنفى طيلة سنوات. ومن ثمّ فقد استفاد من المسافة الضرورية . وبدونهما معا، كان من الصعب أنْ نعيش ما عشناه سنة 1998. } لنصلْ الآن إلى سنوات التناوب. في شهر فبراير 1998 تم تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أوّل من طرف الملك الحسن الثاني. كيف كان ردّ الفعل داخل صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟ هل كان جو الفرحة العارمة ؟هل حلّ اليوم الموعود أخيرا بالنسبة لكم ؟ لقد حرص اليوسفي على أنْ يرتبط الحزب باتخاذ قرار المشاركة في حكومة التناوب. كان التصويت بالإجماع شبهَ كليّ، باستثناء أربعة أصوات لمْ تكن تتبنّى الخطّ السياسي الجديد: يتعلق الأمر بكل من: محمد الساسي وخالد السفياني والناصري بناني ونجيب أقصبي، وقد واصلوا في ما بعد التعبير عن وجهات نظرهم، خارج أجهزة الحزب. ومن ثمّ انعقد اجتماع للجنة المركزية خلال شهر فبراير 1998، وقد انتهى بدعوة الشعب المغربي لدعم التجربة، غير أنّ نوعا من الانتظارية الخفيّة كانتّ سائدة، وقد طرحتالعديد من التساؤلات حول قدرتنا على تجاوز جميع العقبات منْ أجل النجاح. هذا دون أن ننسى المتشكّكين في التناوب . لا ينبغي نسيان أن اليوسفي كان جد ملتزم بالهدف الذي ينبغي أن تصل إليه التجربة. وباعتباره رجل قناعات، فقد لعب، بالمعنى القوي للكلمة، رهان التغيير. } عبد الرحمان اليوسفي تمَّ استقباله من طرف المغفور له الملك الحسن الثاني الذي عينه على رأس الوزارة الأولى، هل أطلعك على ما قال له المغفور له الحسن الثاني خلال المقابلة؟ عبد الرحمان بطبيعته إنسان جدّ كتوم، وقد كان يتحاشى كل ما من شأنه خلق مناخ يعمل على تغذية الشائعات، والأخبار المغلوطة. كان يخبرنا لكي يتخذ القرارات في أفق تعبئة الحزب. كان يتوفر على هامش في مفاوضاته، لأن المغفور له الحسن الثاني كان حريصا على أن تنجح هذه التجربة، وقد برهن اليوسفي على الكثير من المهارة في تشكيل حكومة توافق مؤلفة من خمسة أحزاب: (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب الاستقلال، التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، حزب التقدم والاشتراكية). وقد انتظر بفارغ الصّبْر انتهاء أشغال المؤتمر 13 لحزب الاستقلال. - نعم، حزب الاستقلال الذي كان الخاسر الأكبر في الانتخابات. تماما.بلْ لقد قيلَ إن اليوسفي زار الاستقلالييّن حين كانوا مجتمعين في مؤتمرهم الاستثنائي. - كلاّ! لقد كان الأمرُ يتعلق بمؤتمر عادٍ انعقد نهاية شهر فبراير من سنة 1998، وقد حضر وفد يمثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في جلسة افتتاح حزب الاستقلال. لكن ينبغي أنْ نعرف بأنّ اليوسفي كان قد أعطى للاستقلالييّن الضمانات اللاّزمة. لقد كان مقتنعا إلى حدّ بأن حزب الاستقلال سوف يختار المشاركة في حكومة التناوب. } الاستقلاليّون مفاوضون كبار، وكانوا يخلقون نوعا من الترقّب مع الاقتناع بالمشاركة. ألا ينبغي هناالتذكير بمشاركتهم في حكومة أحمد عصمان في السبعينيّات، وفي حكومة المعطي بوعبيد في الثمانينيات؟ في هذه الفترة، كانت الانتخابات بعيدة كلّ البعد عن النزاهة والشفافية. واجه عبد الرحمان اليوسفي مهمّته الأولى كَرَجُل دولة تكلف بتشكيل حكومة، وكان حوله تحالف يتكوّن من خمسة أحزاب منها مَنْ تختلف عن أحزاب الكتلة الديمقراطية، أفكر في التجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، بدون أنْ ننسى الدعم النقدي لحزب العدالة والتنمية خلال المرحلة الأولى من التناوب، وكان يلزم 40 يوما لليوسفي من أجْل تشكيل جهازه التنفيذي. كان هناك انتظار طويل، هل يمكن أنْ ترويَ لنا قصة تشكيل حكومة التناوب التوافقي هذه؟ ذلك لأنه جرى الحديثُ أوّلاً عن التناوب التوافقي قبل الحديث عن التناوب. - لكنّ الأمر يتعلق بتناوب توافقي إلى حدود 2002 على الرغم من أنّ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كان يحتلُّ المرتبة الاولى في الانتخابات التشريعية لسنة 1997. لقد كان تشكيلُ حكومة التناوب عملية مُضْنية بالفعْل، لأنَّ الأمر كان يتعلق بالتحكيم بين الأحزاب في عملية اختيار الحقائب الوزارية، وبالتوفيق بين مختلف المطالب والمتمنيات. إنه ليس تحكيما سياسيا فقط. ففي بعض الأحيان، كان الأمر يكتسي طابع تحكيم للأشخاص وبين الأشخاص، أما داخل الاتحاد الاشتراكي فلم يصادف اليوسفي مشاكل كثيرة، لأنّه كان يومها يحْظى بدعم المكون النقابي، لذلك كان الأمْر يستدعي بَذْل مجهود تفاوضيّ أكبر مع الأحزاب السياسية الأخرى. وقد كان القصر يتدخّل من أجل جعل الأمور تتقدم، غير أن اليوسفي كان يتوفّر على هامش يسمح له بلعب دوره كوزير أوّل في تشكيلة حكومة التناوب. } وداخل الاتحاد الاشتراكي، ما هي المعايير التي اعتمدها لاختيار الاتحادييّن الذين سوف يصبحون وزراء، وبالتالي يشاركون في حكومة التناوب؟ لمْ تكن هناك معايير، ولم تكنْ هناك إجراءات، بقدر ما كان الأمر يتعلق باستطلاعات واتصالات. } هل كان اليوسفي يعرف بصفة قبْليّة المواصفات الاتحادية التي كان يحتاج إليها أكثر؟ لم يكنْ يبيّنُ ذلك، غيْر أنه كان قد قام باختياراته. كانتْ في ذهنه مُسبقا النواة الصلبة، مع ما صاحب ذلك من تحكيمات تمّتْ أثناء التحضير. } هل كان الاقتراح الأوّل الذي قدّمه هو الاقتراح الجيد؟ وهلْ تمَّ قَبُول كلّ الأسماء الاتحادية التي اقترحها للاستوْزار، علما بأنه بالنسبة لباقي الأحزاب كما قلتَ، كانتْ هناك مساعدة من القصر؟ المناخ الذي كان سائدا، فضْلا عن التزام اليوسفي، يَحْملني على الاعتقاد بأنَّ كل شيء جرى للوُصول بالعملية إلى نهايتها. } لنصلْ الآن الى طبيعة المناصب التي شَغَلَها نساء ورجال الاتحاد الاشتراكي، ما نوعية الحقائب التي اختارها الاتحاد الاشتراكي؟ ويمكن القول عموما بأنّ حزبا في السلطة يفضل المناصب الواعدة بالنسبة للانتخابات القادمة. حقائب»انتخابيّة» أو حقائب «سياسية»، فكيف تحقّق الاختيار داخل عائلتكم السياسية ؟ كان خطأً كبيراً أننا لم نخترْ، منذ البداية، حقائب وزارية لها امتدادات انتخابية. عبد الرحمان اليوسفي له نيّة طيّبة، كان عليه أنْ يحسب لما بعد 2002 لكي تستمر تجربة التناوب، وهي واحدةٌ من حدود المنهجيّة التي اعتمدها عبد الرحمان اليوسفي، والتي لها امتدادات إلى اليوم. ما جرى بَدَا كأنه كان نوعا من توزيع طبيعيّ للمهام: الحزب الاجتماعي الديمقراطي، أي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أُسندتْ إليه الوزارات ذات الصّبغة الاجتماعية، التي لا تتوفر على إمكانيات كافية، وتجُرُّ وراءها إرْثا من الملفات الصعبة، بينما أُسندتْ لباقي التشكيلات السياسية وزارات تقنيّة أكثر وواعدة أكثر. } أنتَ الآن بصدد القوْل بأنه لو أُسندت إليكم مناصب ذات طبيعة مختلفة، فلربّما لم يكنْ مجرى التاريخ مشابها. أعتقد أنّ فرق صوتين اثنين في سنة 2002 ، كان من شأنه أنْ يكون أكثر أهمية، وبالتالي لم ليطرحَ اختيار المنهجية الديمقراطية المشاكل نفسها. إن الخطوات الخاطئة، المتمثلة في التعديل الذي جرى في حكومة اليوسفي الثانية، مع ما صاحب ذلك من توزيع لحقائب وزارية بدون امتدادات في الواقع، زادَ من حدّته نقص كبير في التواصل، هذه كلها عناصر ليست غريبة ولا بعيدة عن الحَرَكة التي قَلَبَت التناوب . } خلال هذه المرحلة الأولى من حكومة التناوب، كنتَ الأستاذ حبيب المالكي وزيرا للفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري . كيف كنتَ تشعر بنفسك داخل هذه الثياب الجديدة في حكومة للتناوب؟ داخل الوزارة التي كنتُ مكلّفا بها، كانت التجربة مُمتعة جدا، صحبة فريق في منتهى الكفاءة والتفاني. فضْلا عن كوننا نجحنا في وضع استراتيجية في مجال التنمية الفلاحية والقروية في أفق 2020، وذلك في إطار ملتقى وطني شاركتْ فيه كل الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات المهنية والحكومة. غير أنّ شعوري كان مختلفا بشكل كبير داخل الحكومة... } ما السّبب في ذلك؟ لقد لاحظتُ بأن الحكومة لم تكنْ تُولي اهتماما للمشاكل الفلاحية، ومشاكل العالم القروي. لم يكن ذلك انشغالا متواصلا، هذا في الوقت الذي ظلّ فيه الثقل الدّيمغرافي والسوسيو اقتصادي في العالم القرويّ حاسما. مع العلم أنه هو العالَم الأكثر تهميشا في البلاد. تماما. فخارج برنامج مكافحة آثار الجفاف، سنة 1999 ، الذي دعّمني فيه بصورة فعالة وجدّ إيجابية، عبد الرحمان اليوسفي، بتمكيني من غلاف مالي بَلَغَ سبعة ملايير وخمسمائة مليون درهم، فإنّ باقي الملفات الأخرى لم تجد نفس التعامل. والنتيجة، هي أنه كل سنة، بمناسبة إعداد الميزانية السنوية، يطفو على السطح ما كان مستورا، مع العلم أنّ وزير المالية كان رفيقا لي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وهكذا، فإنّ جميع المبادرات حوصرتْ: مخططّ أشجار الزيتون الذي يغطي مساحة مليون هكتار، توسيع المناطق المسقية لتصل إلى 1 مليون و300.000 هكتار بهدف تحسين التجهيزات الموجودة، المخطط الوطني لتنمية شجر الصّبّار المخصص للمحافظة على المواشي وحماية البيئة. كلّ هذه المشاريع وجدت حصارا منهجيا. } كيف تفسّر هذا الحصار المنهجي؟ هل هو مقاومة ضدّ التغيير؟ أمْ أنه كانت هناك أولويات تكتسي طابعا استعجاليا أكثر من الأولويات القروية؟ يبدو لي أنّ الأمر كان يتعلق بنظرة وبموقف داخل الفريق الحكومي. وأظنّ أن هذا الموقف كان يترجمُ اختلافات عميقة إزاء السياسة الاقتصادية والمالية التي كانت متبعة آنذاك. فقد كان بعض المقرّبين من الوزير الأول بعيدين عن المغرب العميق الذي لا يعرفونه. وكانوا يعطون الانطباع بأنهم يهتمون بالتصفيقات أكثر مما يهتمون بحاجيات البلاد. } كانت لكَ وجهة نظر مخالفة في ما يخصّ العجز في الميزانية مثلا. تماما. ويمكنني التأكيد أنه في ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، كان الخطابُ السائد استمرارا لخطاب المسؤولين قبل التناوب. وقد كنتُ دائما أقول بأن المغرب يتوفر على معدل نمو كبير، وبالتالي فهو يحتاج إلى سَنّ سياسة استباقية، مع وجود عجز يمكن دعمه، بإمكانه خلق دينامية اقتصادية جد قوية قادرة على تحسين المستوى المعيشي، وتقليص التفاوتات الاجتماعية والجهوية. لكن التوازنات الماكرو اقتصادية باتتْ هي العقيدة المقدّسة. وقد لاحظنا أنه سنة بعد سنة، أدّى ذلك إلى إضعاف النسيج الاجتماعي، وإلى التكوّن التدريجي لجيوب الفقر. فيما بعد، في سنة 2005، لم تكن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعيدة حقا عن النتائج التي تراكمت خلال السنوات السابقة. فنحنُ لمْ نتمكّن، في الحقيقة، من بناء نموذج تنمويّ جذاب وتعبويّ ومتجذّر في الواقع المغربي. } لكن هناك تركة 30 سنة لها نصيب من المسؤولية كذلك. فلا يمكنكم تغيير هذه البنية المالية بعصا سحرية، كما كان يقول عبد الرحمان اليوسفي. أنت محقّة في هذا القوْل. ولكنْ كان يتعيّن وضع الأسس الأولى لهذا التغيير. لم تكنْ طريقة عملنا، في هذا الشأن، لتبيّن بأننا كنا كالآخرين. كنا كَمَنْ ينتمي إلى كوْكب آخر. بلْ أذهب أبعدَ لأقول: هذه هي العقدة التي عند بعض مكوّنات اليسار عندما تصل إلى تدبير شؤون الدولة. ومن المؤسف أنّ الوزير الأول لمْ يرغبْ في فتح نقاش داخل الحزب حول هذ القضايا، وربما لمْ يكن يولي أهمّية كبرى لرهانات السياسة الاقتصادية والمالية. وقد عانتْ علاقاتي باليوسفي من ذلك. وكنت دائما لا أوقّع مسودّة ميزانية وزارة الفلاحة إلا في آخر لحظة، وبإلحاح منه، حتى لا أخلق مشاكل أخرى. } هل يمكن القول، بعبارة أخرى، بأنّ حصيلة حكومة التناوب يمكن الدفاع عنها في شقّها السياسي أكثر من شقها الاقتصادي؟ لقد كانت المهمة الرئيسية لعبد الرحمان اليوسفي، بكلّ تأكيد، هي جعْل المغرب يتنفس من الناحية السياسية. ومرة أخرى أقول بأنه ربح الرّهان في هذا المجال. لكنْ، بالمقابل، لا ينسحب هذا الحكم على القطاعيْن الاقتصادي والمالي. } لَمْ تكونوا متّفقين في أمور كثيرة، ولم تكونوا ترغبون في أنْ تعمل حكومة يسار، يقودها رجلُ يسار، بنفس الطريقة التي كانت تعمل بها الحكومات السابقة. ما الذي كان يمنعكَ من الخروج من الحكومة لتسجّل عدم رضاك؟ ألمْ تفكر في الاستقالة مثلا؟ فكّرتُ في الاستقالة مرّات عديدة. وخلال لقاءات انفرادية مع عبد الرحمان اليوسفي، عبرتُ له عن رأيي تُجاه السياسة المتّبعة في الميدانيْن الاقتصادي والمالي. غير أنّ الرّهان كان يتعدّى الخلاف حول الاختيارات الاقتصادية والمالية. كان الأمر يتعلق برهان وطني يتجاوز الرهان الحزبي. وهذا على أيّة حال هو السبب الذي جعلني أنضبط. لكنني لم أتردّد يوما في التعبير عن اختلافي كلّما كان الملف الاقتصادي والمالي مطروحا على جدول أعمال الحكومة. بل إنني عبرتُ عن هذا الاختلاف بمناسبة انعقاد الملتقى الوطني حول الفلاحة والتنمية القروية في يوليوز سنة 2000. كل هذا ساهم في رحيلي بمناسبة تشكيل الحكومة الثانية التي تحمل مسؤوليتها عبد الرحمان اليوسفي. لقد تنفّستُ في الحقيقة الصّعداء، لكن مع الشعور بأنّ توصيات الملتقى الوطني، الذي انخرط فيه كلّ الفاعلين طيلة أسابيع من العمل، سوف تظلّ قابعة في صناديق الوزارة. } وهل بقيتْ مشروعاتك فعلا داخل الصناديق؟ نعمْ، إلى أن جاء عزيز أخنّوش في نونبر 2007، مع تعيين حكومة عباس الفاسي. فالمغربُ الأخضر الذي تَمّ إطلاقه من خلال استراتيجية 2020، يستمد فلسفته ومحاوره الرئيسية من التفكير الذي قُمْنا به سنة 2000 بمناسبة اللقاءات الوطنية حول مستقبل الفلاحة بالمغرب. ولا يعني هذا التذكير أيّ نوع من الشعور بالامْتلاك، بقدر ما يؤكد ضرورة العمل من منظور تراكمي لاستدراك الوقت الضائع. } هذه هي عقدةُ اليسار حين يصبح في موقع تسيير شؤون الدولة، أيْ اللائي والذين شاركوا في التناوب، والذين كانوا مبتدئين بالنسْبة للسلطة. ألمْ ينتابكم إحساس بأنكم كنتم بمعنى ما رهائن في يد الإدارة التي كانتْ هي من يمسك بزمام الأمور؟ المشكلُ الكبير كان يُطرح على مستوى سيْر التجربة. لقد تمَّ تهميش الاتحاد الاشتراكي. ثمّ إنّ الحزب لمْ يلعب دور بنية التهييء والتتبّع والتقييم والمساءلة. فلو كان الحزب قد لعب دورَه كاملا خلال هذه المرحلة، فأنا على اقتناع بأنه كانت ستجري سلسلة من التعديلات والتقويمات على صعيد المُمارسة، وعلى صعيد تدْبير المشاريع والاختيارات. } لننتقلْ الآن إلى إدريس البصري الذي كان وزيرا للدولة في الداخلية. كيف كانت تجري معه الأمور خلال هذه السنوات الأولى للتناوب؟ هلْ كانَ قوّة مقاومة أمْ بالعكس كان شريكا داخل التناوب؟ طيلة الفترة التي كان خلالها وزيرا للداخلية، كان يبدو أن الأمور تسير بصورة عادية. كان ذلك الحدث الذي ارتبط باليوسفي، وهو الاجتماع الذي عَقَده الوزير الأول مع الوُلاة والعُمّال، والذي رغب اليوسفي من ورائه ربْط الاتصال بالمسؤولين في الإدارة الترابية. وعندما نعيد وضع هذا الحدث في سياق سنوات التسعينيات، فقد كان لحظةَ توتّر جدّ قوية، لأنّ ذلك كان يتعلق بمجال خاصّ. وقد ألقى اليوسفي خلال هذا الاجتماع خطابا في غاية اللباقة والأدب والتفتح، دعا من خلاله رجالَ السلطة إلى العمل من أجل إنجاح التجربة اعتمادا على التوْجيهات المَلَكية. وأمام استغرابه الكبير، لم تَتْبعْ هذا الخطاب أية مناقشة، فقدْ ظلّ الحضور صامتا. } هل يعود السبب إلى كون هؤلاء رجال السلطة لم يعتادوا على المناقشة؟ أعتقد أنّ هناك تضافرًا لعدد من العوامل، غير أنّ موقفهم كان يرتبط على الأرجح باللياقة، وبحساب متعمّد. } هلْ كانتْ هذه هي لحظة التوتر الوحيدة طيلة السنوات الأولى للتناوب؟ طيلة تجربتي في إطار حكومة اليوسفي الأولى، كانتْ هذه هي لحظة التوتّر الكبرى. ولا ينبغي أن ننسى اليوسفي، باعتباره رجلَ دولة، قد نظّم حفل شاي تكريميّ لتوديع إدريس البصري إثْرَ مغادرته وزارة الداخلية. } وهو ما جرّ على اليوسفي غضب الهيئات الحقوقية. تَمَاما. } هل كانَ بالفعل مُضْطرًّا إلى تنظيم ذلك الحفل التكريميّ؟ يتحلّى عبد الرحمان اليوسفي بلياقة كبيرة. بلْ أقول بأنه ذو روح مَدَنيّة عالية. } ولكنْ، عندما تتماسّ المَدَنية مع تعريض السمعة للخطر... اليوسفي هو الرّجل الذي طوى الصفحة، وقد كان واعيا تمام الوعْي بتبعات خطواته ككلّ. وبالطريقة التي يشتغل بها، فليس غريبا أن يستقبل في بيته واحدا من وزرائه الذين غادروا الحكومة، مهما تكن الظروف والملابسات. عبد الرحمان اليوسفي ليس رجلَ سياسة يستعملُ السياسة كأداة. بل إنه يتوفر على رؤية نبيلة للسياسة، وكان يرغب في أن يسير في لعبة المصالحة إلى نهايتها. فالملك هو الذي عيّن إدريس البصري، وهو الذي شكره. وبالتالي، على الوزير الأول أن تكون له اللياقة مع وزير سابق في حكومته. } وأنتَ ماهو رأيك ؟ مع العلم أنّ عددا من الوزراء لم يحضروا حفل هذا الكأس التكريمي الشهير. هذا صحيح بعض الوزراء فضّلوا عدمَ الحضور. لكنْ أعيد مرة أخرى بأن تنظيم حفل شاي من طرف اليوسفي، الذي له طريقته في التصرف، من أجل توديع وزير، لم يثر استغرابي. لقد كان رجُلا متحضّرا، وهذا هو الذي تحكّم في أسلوبه السياسي. وفي نفس اللحظة، كان هناك خارج البيت، عدد من نُشطاء حقوق الإنسان الذين كانوا يتظاهرون احتجاجا على هذا الاستقبال. لقد كانت لحظة كافْكاوية: ذلك أن اليوسفي طيلة حياته كان من أكبر المدافعين عن حقوق الإنسان على مستوى العالم العربي.