لقاء لشبيبة حزب التجمع الوطني للأحرار بفاس حول الحصيلة المرحلية للعمل الحكومي    الانفصاليون في كاتالونيا يخسرون غالبيتهم أمام الاشتراكيين بقيادة سانشيز    طقس الإثنين.. أمطار رعدية مع هبوب رياح قوية بهذه المناطق    خلاف مروري بساحل أكادير يتحول إلى جريمة دهس مروعة (فيديو)    بلينكن يحذر إسرائيل من "الوقوع في فخ القتال مع حماس والانزلاق إلى الفوضى إذا لم يكن هناك خطة لحكم غزة في مرحلة ما بعد الحرب"    نهضة بركان يتفوق على الزمالك المصري في ذهاب نهائي كأس ال "كاف"    إقليم العرائش يستعد لاحتضان الدورة الثانية عشرة للمهرجان الدولي ماطا للفروسية    3 نقاط تفصل فريق الدفاع الجديدي للكرة الطائرة لتحقيق الصعود للقسم الممتاز    المنتخب المغربي للتنس يتوج بطلا لإفريقيا    الجيش المغربي ونظيره الأمريكي ينظمان الدورة ال20 من مناورات "الأسد الإفريقي"    مطلب ربط الحسيمة بشبكة السكة الحديدية على طاولة وزير النقل    رصيف الصحافة: سمك فاسد في "جامع الفنا" يودع 3 أشخاص الحراسة النظرية    النصيري في ورطة بإسبانيا وعقوبة ثقيلة تنتظره    تفاصيل محاولة فرار "هوليودية" لمغاربة بمطار روما الإيطالي        "إيقاعات تامزغا" يرفع التحدي ويعرض بالقاعات السينمائية الأسبوع المقبل    عاصفة شمسية قوية تنير السماء بأضواء قطبية في عدة دول    باريس سان جيرمان يودع مبابي أمام تولوز بالدوري الفرنسي الليلة    وفاة 5 تلاميذ غرقا بأحد شواطئ الجزائر    بونو: هدفنا إنهاء الموسم بدون خسارة وتحقيق كأس الملك    جيتكس إفريقيا المغرب 2024.. وكالة التنمية الرقمية في خدمة النهوض بالابتكار والتكنولوجيا الجديدة    حل مجلس الأمة الكويتي: إنقاذ للبلاد أم ارتداد عن التجربة الديمقراطية؟    أردوغان: نتنياهو بلغ مستوى يثير غيرة هتلر    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    أسعار الطماطم تقفز بأسواق المغرب .. ومهنيون: تراجع الإنتاج وراء الغلاء    معرض الكتاب.. لقاء يحتفي بمسار الأديب أحمد المديني    افتتاح فعاليات الدورة الثالثة للمعرض الدولي للأركان بأكادير    "أسبوع القفطان".. فسيفساء من الألوان والتصاميم تحتفي بعبق الزي المغربي    "كوكب الشرق" أم كلثوم تغني في مهرجان "موازين" بالرباط    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    ارتفاع حصيلة القتلى في غزة إلى 35034 منذ اندلاع الحرب    اليوتوبر إلياس المالكي يمثل أمام النيابة العامة    زلزال بقوة 6.4 درجات يضرب سواحل المكسيك    الدرهم يرتفع بنسبة 0,44 في المائة مقابل الأورو    الإمارات تستنكر دعوة نتنياهو لها للمشاركة في إدارة غزة    المغرب الفاسي يبلغ نصف النهائي بفوزه على المغرب التطواني    الصويرة : دورة تكوينية لفائدة أعوان التنمية بمؤسسة إنماء    الحسيمة تحتضن مؤتمر دولي حول الذكاء الاصطناعي    طانطان.. البحرية الملكية تقدم المساعدة ل59 مرشحا للهجرة غير النظامية    عرض "قفطان 2024" في نسخته الرابعة و العشرين بمراكش    ورشة حول التربية على حقوق الانسان والمواطنة    الصين تطور أول نظام للهيدروجين السائل المركب بالسيارات من فئة 100 كيلوغرام    بعد إلغاء حفل توقيع رواياته.. المسلم يعد جمهوره بجولة في المدن المغربية    مذكرة توقيف تلاحق مقدم برامج في تونس    الهلالي يشارك في الاجتماع الاستثنائي للمجلس العالمي للتايكوندو بكوريا الجنوبية..    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    مطالب نقابية بإقرار منحة لعيد الأضحى    ماذا يقع بالمعرض الدولي للكتاب؟.. منع المئات من الدخول!    النخبة السياسية الصحراوية المغربية عنوان أطروحة جامعية بالقاضي عياض    عائلات "المغاربة المحتجزين بتايلاند" تنتقد صمت أخنوش وبوريطة    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في شهادة لمحامية بن بلة، الأستاذة مادلين لافو - فيرون.. ال 4642 يوما من حياة معتقل..
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 30 - 06 - 2012

هي شهادة تحكي (لحظة صدورها سنة 1978) عن محنة الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة، بعد مرور 13 سنة على اعتقاله يدون محاكمة، ووضعه في معتقل عسكري سري، مقطوعا عن العالم. هنا شهادة جد مؤثرة بتفاصيلها، بقصة محنها، بقصة المقاومة التي أبان عنها الرجل، بقصة قبول شابة صحفية جزائرية الزواج منه، بقصة فقدانه لابنه قبل ولادته، بقصة تبنيه لطفلتين متخلى عنهما.. وحين يقرأها المرء اليوم، يدرك حجم المحنة التي عاشها رجل شهم من طينة الراحل أحمد بن بلة الذي غادرنا منذ شهرين ويزيد. أول رئيس للجزائر المحررة، الذي قضى قبل 8 سنوات في السجون الفرنسية. علما أن أحمد بن بلة، الذي خرج شامخا كما كان دوما من محنة الإعتقال بعد الإنقلاب الذي أطاح به، هو من أصول مغربية من الرحامنة.
الأخلاق
رفضه القاطع الاستفادة من الامتيازات يعكس صورة أخلاقية نادرة
الخيانة
بومدين يخون رئيسه ويضعه تحت الأرض لثمانية أشهر
الوفاء
كلما زارته أمه البالغة من العمر 84 سنة يزيلون ثيابها للتفتيش، فأصيبت بنزلة برد قاتلة
كان نسيم بحري عليل يعبر فوق الجزائر العاصمة، يلطف من حرارة ليل صيفي. في المباني المحادية للشط، كل النوافذ مواربة. فالوقت متأخر. بينما في فيلا «جولاي»، وهي عبارة عن عمارة صغيرة، كانت على العهد الإستعماري تضم مكاتب إدارية، كان رجل يعمل. إنه أول رئيس للجمهورية الجزائرية. إنه مقيم بشقة من أربع غرف مفتوحة على صالات واسعة مزينة بالزليج، فيما الحديقة ملأى بالنخيل والورد المستقدم من قصر الشعب المخصص للضيوف الأجانب. هذا التفصيل يميز أحمد بن بلة، فحين كان يتصرف في أموال طائلة زمن حرب التحرير، كان يفطر فقط بعنقود عنب في ساحة عمومية بطرابلس، أو يقضي فصل شتاء كامل في مدريد بدون معطف لأن 300 فرنك المخصصة له لا تسمح له بامتلاك معطف.
هناك تفاصيل، تصلح لوحدها صورة أخلاقية عن الرجل. فبعد 8 سنوات من الإعتقال، ومشاكل المنفى، وحياة السرية، لا أحد كان سيفاجئ أن الشخصية الأولى في الدولة سوف يخصص لنفسه فيلا على مرتفعات العاصمة يمكنه فيها التمتع بما يحبه: تأمل البحر وخضرة ضاجة أمامه. إن رفضه القاطع من الإستفادة من ذلك يعكس صورة أخلاقية نادرة. إذن في هذا الوقت المتأخر من ليلة 18 و 19 يونيو 1965، كان بن بلة غارقا في دراسة عدد من الملفات. ومنذ شهور وعدد من أصدقائه، وضمنهم ضباط، كانوا يحدرونه من انقلاب محتمل. لكن، هذا الرئيس، الذي الثقة في الرجال مكرمة ثورية عنده، كان موقنا أن اللقاء المرتقب للمؤتمر الأفرو أسيوي أكثر أهمية من أن يقوم رفيق له بالمغامرة بالإنقلاب على مؤسسات الدولة الحاضنة للمؤتمر. رغم ذلك، فإن رجالا من الأمن العسكري متنكرين في زي رجال الشرطة الوطنية، قد أخدوا دورية الحراسة عند مدخل الإقامة. كانت الطريق سالكة. رن الجرس، ففتح هو بنفسه الباب، مرتديا منامته الخاصة. فدخل أعضاء من القيادة العليا للجيش وعدد من الضباط، ضمنهم الكولونيل عباس وقادة الجيش بنسالم وعبد القادر شابو وسعيد عبيد، وكلهم تحت إمرة الكولونيل الطاهر الزبيري.
إنزال الستائر..
لقد استولى الجيش على السلطة. تلقى بن بلة الأمر لارتداء ملابسه والإستعداد للمغادرة. أي مقاومة لن تفيد. وحين كان بن بلة يغير ملابسه، قام القائد شابو بإفراغ سلاحه على أطراف الشقة محدقا في مرآة. حمل الرئيس وسط تلك الجوقة ووضع في سيارة جيب عسكرية ثم أخد صوب مكان سري. كانت العملية غاية في السهولة. وبفضل غبش الظلام، تحركت الدبابات التي كانت موزعة على المدينة لتصوير مشاهد من فيلم «معركة الجزائر العاصمة» لاحتلال المواقع الإستراتيجية. في الصباح استفاقت المدينة على المدافع والرشاشات. اختفى رئيس الجمهورية وعلى مدى 8 أشهر كان مستحيلا التأكد إن كان لا يزال على قيد الحياة. شهدت مدينتا عنابة ووهران مظاهرات احتجاج، لكنها قمعت بقسوة. لقد تحدتث وكالة الأنباء الفرنسية عن حوالي 50 قتيلا. وخلال أيام الإنقلاب الأولى أعلنت الحكومة الجديدة أنها ستنشر كتابا أبيض مخصصا ل «جرائم بن بلة»، متبوعا بمحاكمة بتهمة «الخيانة العظمى». وتم تبرير الصمت بواجب الحكمة الضرورية. فانفتحت فترة رهيبة من القلق وعذاب الإنتظار لعائلته وأصدقائه.
سافرت أمه، القلقة على مصير أصغر أبنائها، هي التي فقدت 3 من أشقائه من قبل، إلى الجزائر العاصمة. ورغم سنها 84 غادرت مدينة مغنية (القريبة من الحدود المغربية قرب وجدة بحوالي 15 كلمترا ? م -)، حيث تقيم مع ابنتيها وصهرها في بيت من أربع غرف في الطابق الأرضي، وكل أثاثها هو ملاحف مصفوفة على الأرض بمحاذاة الحيطان، وهي لا تختلف في شئ عن أفقر دور القرويين. كانت قلقة، لكنها عازمة رغم المنع على البحث عن ابنها الذي عاش العشرين سنة الأخيرة من حياته على ضفاف الخطر. نزلت بالعاصمة عند هذا القريب من العائلة أو ذاك. وكل من آواها يكون مصيره السجن لشهور. هل كانت السلطات (الجديدة) ستتنازل أمام الأسباب الصحية للرئيس. فقد زار طبيبا يوم 14 ماي 1965، شهرا قبل الإنقلاب بمدريد، متخصصا في الأنف والأذن والحنجرة، وكان مقررا أن يجري له عملية جراحية في شهر غشت الموالي على أذنه اليمنى بسبب تفاقم تصلب في الأذن الداخلية. وفي شهر شتنبر 1965، أعلن الدكتور «ألوازولا» أنه مستعد لزيارة مريضه في أية ظروف يريدها معتقلوه (عيون معصبة، سيارة مصفحة، غطاء على الرأس...)، الأساسي هو أن يجري العملية المستعجلة لمريضه. كان بن بلة قد أجرى عملية جراحية على الأنف حين اعتقل في فرنسا، بسجن الصحة. كان مأمولا إذن الحصول على استجابة. لكن السلطات مرة أخرى فضلت لغة الصمت، مما ضاعف من القلق حول مصير الرئيس بن بلة. وكان لابد من شهور من الضغط الدولي كي تقتنع الجزائر بضرورة إعطاء الدليل على أن بن بلة حي.
طرق، ذات ليلة، باب المنزل الذي تنزل به والدة بن بلة، عنصر من الأمن العسكري (الفرقة الخاصة للجيش)، وأمرها أن تكون جاهزة بعد ساعتين. لقد بقيت الأم لثلاثة أيام وهي تركب سيارة بستائر مغلقة. وفي الليل كانت توضع في بناية تعتقد أنها مقر للأمن ولم تكن تتواصل سوى مع حارس البناية. وفي الصباح الباكر تركب الطريق ثانية. كان مفروضا أنها قطعت طريقا طويلة. ثم أخيرا في ليلة اليوم الثالث أدخلت إلى غرفة حيث كان ابنها ينتظرها. فبعد 8 أشهر من العزلة تأكدت الأم أن ابنها لا يزال على قيد الحياة. لقد أدرك السجين بعد كل تلك الشهور من العزلة أن العالم لابد أن يعلم ذات يوم أنه لم تتم تصفيته وأن ذلك عنصر حماية له.
قبر تحت أرضي..
وضع أول رئيس للجمهورية الجزائرية، لشهور طويلة، في سجن تحت الأرض، محروسا بعسكري مسلح لا يفارقه قط. كان بن بلة يخشى تصفيته أثناء نومه، لهذا كان ضحية أرق كبير، وكان لا ينام بغير ثيابه الكاملة وبنصف إغماضة. في مخيمات الإعتقال، على الأقل هناك من يواجهون نفس مصيرك. في السجن، يكون معك سجناء تعيش معهم حياة السجن وتكون تمة محاولات للتواصل عبر مسارب خاصة أو أثناء التلاقي في أماكن مشتركة. أما بن بلة في قبوه فإنه لم يكن أمامه أي أفق غير رجل مسلح جالس أمامه، لا يكلمه قط، ولم يكن يعلم كم سيدوم ذلك العذاب.
هم يودون موته، لكن رغبة جهنمية أخرى، كانت تريد لأعصابه أن تنهار، وأن يغرق في الجنون. وللنجاح في المحافظة على قوته العقلية، كان لابد من امتلاك طاقة تحمل داخلية هائلة. كانت روح العسكري الصبور المتحمل هي الغالبة. وخلال لقائمها الأول، سمح للأم والإبن أن يقضيا معا 48 ساعة. كانت القاعتان المخصصتان لهما، في وسط جيش من الحراس العسكريين، أشبه بجنة تلاق لهما، ولم يكونا مهتمين بالباقي. كانت تضع يديها عليه وتطيل النظر في ابنها الذي اعتقدته ضاع. وعلم عبرها أن الجميع في الخارج قلق على مصيره. لقد ربط الصلة مجددا بالعالم الخارجي. وحين كان يتم التفريق بينهما، لم يكونا يعلمان متى سيلتقيان مجددا. لكنهم وعدوه أن أمه ستعود. وفعلا كان يلتقيها كل ثلاثة أشهر. ودوما نفس الطريقة في حملها إليه. يأتي مرسول يقول لها أن تتهيأ، ثم يمر لحملها معه، وكان الركوب في السيارة يتم دوما بليل، لكن المسافة بدأت تتقلص حتى لم تعد تتجاوز الساعات. كيف يمكن تقبل أن الرئيس بعيد عن العاصمة والحال أن تمة جهاز تلفزة في بلاد لم يكن التقاطها حينها يتجاوز 60 كلمترا عن الجزائر العاصمة؟. كانوا في البداية يغيرون باستمرار مكان احتجازه، قبل أن يجدوا مكانا يوفر شروط الأمان التي أرادوها.
لقد تم توسيع حق الزيارة ليشمل شقيقاته وكذا ابنة أخته. لكن، عكس ماكان عليه الحال حين كان معتقلا عند الفرنسيين أثناء حرب الجزائر، لم يسمح قط لأي من محاميه بزيارته. كان السجين شبه ميت، ولا يسمح بأي إشارة أنه لا يتوفر سوى على 20 مترا مربعا بالكاد تكيفه للتحرك مثل أسد في قفص. وحين كان يمارس بعض الحركات الرياضية، كان عسكري يقف متأهبا أمامه. كان يؤتى بالأكل من ثكنة مجاورة (كان حوالي ثلاثمئة جندي مقيمين في خيام محيطة بالمبنى)، وكان ذلك الأكل بئيسا. وكان بن بلة يكتفي أساسا بالخبز والحليب فقط. كان، بسبب من شدة ارتباطه بأمه، التي فرقت كثيرا بينهما أسباب التزاماته النضالية، يحاول جاهدا أن يخفي عنها ألمه وقلقه. وما لا يقال يحس. فقد كانت مسكونة بقلق أنه بعدها لا أحد سيهتم به. كانت في الرابعة والثمانين من عمرها، وكانت تدرك أن ساعة رحيلها أزفت. كانت تدرك أن امرأة أخرى، هي وحدها التي ستهتم به وبمصيره وترعاه. امرأة تتفهم ظروف حياته، وأن مستقبله غامض، وأنه دوما مهدد، بمعنى من المعاني رجل ميت مع وقف التنفيذ.
احتجاج..
أن ترتبط امرأة برجل في سجنه، أن ترتبط بمصير رجل مهدد بالتصفية في أي لحظة، هذا أمر لا يحتمل. وفي محيط والدته حتى الأرامل كن لا يقبلن ذلك الإرتباط.، لو كان أطلق سراحه سيقبلن، أما في ظروف مماثلة فالأمر مستحيل. وهو مدرك لكل هذه التحديات، ولكل أسباب قلق الأم، عرض صديق على الزهرة السلامي، سبعة وعشرون سنة، صحفية بأسبوعية « الثورة الإفريقية»، فكرة الزواج من سي أحمد. ولأنها اعتقدت أنها مزحة، انفجرت ضاحكة. وحين أدركت أن الأمر جدي، فإنها أجابت بكل الجدية اللازمة: «علي أولا أن أراه». السيدة الزهرة، ذات شخصية. ففي سن السادسة عشرة، بعد اعتقال والدها، ناضلت في صفوف جبهة التحرير، وهي تتابع دراستها الثانوية بفرنسا، بثانوية فيكتور دوريي. بعد عودتها إلى البلد، أدركت أن وضعية المرأة لن تتغير بسرعة. لم يكن بن بلة في نظرها راديكاليا كما يجب. تمة صورة خلال تجمع جماهيري، تظهر فيها هيئة تحرير أسبوعية «الثورة الإفريقية» تطل من على شرفة البناية، وكل أعضائها يصفقون، إلا الزهرة كانت مضمومة اليدين. كان بن بلة، بالصدفة قد انتبه لهذا التفصيل. وحين حملت إليه أمه صورة المرأة التي تقترحها عليه للزواج، عادت صورة الزهرة المحتجة إلى ذاكرته. ومن مكر الأمور أن طلبا للزيارة تم تقديمه باسم الزهرة قد قبل.
واضح، أن السلطات لم تنظر بعين الريبة في البداية للأمر. بل، أن يكون الرئيس السبق متزوجا سيكون في صالح صورتهم العامة، لأن ذلك هو الدليل على أن الرجل يعيش حياة عادية. لن يكون المثال الصارخ لتراكم أخطاء النظام، بعد تأسيسه لعائلة. أو كما قال أحد المسؤولين «ذلك سيلهيه قليلا عن قراءة كتب الإقتصاد والسياسة بنهم». وبعد أخد الإحتياطات المعتادة، تم نقل الصحفية الزهرة السلامي إلى الرئيس المعتقل. وحين رأت الرجل في غرفته الصغيرة، بدى لها مثل نسر وضع في قفص. ولقد تكلما بالساعات. وبعد أن اقتنعت أن لاشئ يفصلها عنه قبلت الزهرة الزواج به. كان ذلك بداية المشاكل بالنسبة لها. فقد اتضح أن الرئيس بومدين قد غير من رأيه أن زواج أسيره سيكون مفيدا له. توالت الإستدعاءات والتهديدات من أجل حمل الصحفية على التراجع عن قرارها. وأثناء تعاظم تلك المعارضة ألح بن بلة على تسريع أمر الزواج، وإلا فإنه لن يتم قط. فتم إحياء حفل بسيط يوم 25 ماي 1971، وكان الزوج غائبا طبعا. لقد حرر قاض العقد وحضر مفتي الجزائر العاصمة لترؤس الحفل. وكلاهما أديا الفاتورة بعد ذلك على حضورهما. بدليل أن كبير المفتين الذي يبقى في منصبه حتى وفاته ويحضر دوما في مقدمة الشخصيات المهمة للدولة، قد همش ولم يستدعى قط بعد ذلك لأي نشاط رسمي. أما الزوجة التي كانت بلباسها الأبيض فإنها لم تتلق سوى تهاني أفراد العائلة. ثم في الليل، أخدت في سيارة مغلقة النوافذ بستائر سود، إلى زوجها السجين.
فرن طبخ في الحمام..
كانت تدرك أي حياة تنتظرها. رغم ذلك كان قلبها مقبوضا، وفي الطريق المؤدية إلى حيث ستقيم، كان وراء كل شجرة رجل مسلح. شهرا بعد ذلك، صدمت عائلتها بالنحافة التي أصابتها. فخلال إقامتها تلك لم تكن تتناول سوى الحليب. ولقد قاومت من أجل جعل حياة زوجها محتملة، ولقد نجحت في أن تحمل إليها المواد الغدائية مباشرة قبل الطهي وأنها هي التي ستتكفل بإعداد الأطعمة. كانت تقوم بذلك فوق فرن طهي صغير وضع في حمام الغرفتين حيث هما مسجونان.. وكلما عادت من زيارة والديها مثلمل أم بن بلة، فإنه يتم تفتيشها بدقة. لقد تجاوزت عن المهانة بالتعود. لكننا لا نتعود على أسباب الإحساس بالمهانة بسبب الأيادي التي تتعمد على تحسس جسدك، وأمام احتجاز كتاب أو علبة مرهم. لقد تم تفكيك ساعة منبهة كانت تريد إهداءها لزوجها بمناسبة عيد ميلاده، ولم تعد تصلح بعدها لأي شئ. ولا يمكن نسيان أن كل شئ مراقب، وأنه حتى لحظات الحميمية تتم بالوشوشات. وكان تمة قلق دائم أن يتغير كل شئ في الغد بدعوى مصلحة الدولة. لقد كان ارتفاع الضغط الذي تسببت فيه تلك الوضعية، أن تم التخلي نهائيا عن تناول القهوة والشاي والنعناع.
كانت والدة بن بلة قد فرحت بالزواج، وبعد أقل من ستة أشهر ستصاب بنزلة برد حادة، بسبب شكل التفتيش الذي كانت تتعرض له في عز البرد، وماتت بسببها في خريف 1971. ولقد ذهبت سدى كل استعطافات العديد من أصدقائه للدولة أن تسمح له بحضور جنازة والدته، بل منهم من اقترح نفسه أن يبقى رهينة بدلا عنه. كانت الزهرة قد أسقطت جنينا في طريق عودتها من مغنية، بلدة مسقط رأس زوجها، حيث جرت مراسيم الدفن. لقد تبخر حلم تكوين عائلة ممتدة. وذات يوم، ذهبت لزيارة والديها، وبالصدفة زارت صديقة لها مولدة فوجدتها في حالة ارتباك. لقد ولدت لديها فتاة شابة بمولودة، وهي غير متزوجة ولا تستطيع العودة إلى أهلها بمولودتها، فقررت تركها في المستشفى، وبدون تردد قررت الزهرة تربية المولود وهي متأكدة أن زوجها سيقبل. وفعلا قبل. لكن تبني مولود، في بلد مثل الجزائر بها خصاص، فإن البحث عن حليب للرضيعة، وكذا ثياب نظيفة وحرارة أبوية، فقد نجحوا في نسج حرارة عائلية في وسط بارد.
جزائرية واحدة لم تنسه..
لم ينتصر عليهما اليأس. فقد كان كل معارف وأصدقاء وصديقات الزهرة يستدعون للإستنطاق، من قبل المخابرات العسكرية، حول ما دار بينهم معها من حديث. وإذا ما رفضوا تبدأ التهديدات وضمنها الترحيل من البلد في حال تعلق الأمر بزوجة ديبلوماسي أجنبي. هكذا تم تنظيم مسلسل عزل الزهرة، وكل أسباب الراحة والدعة منعت عنها. لقد حرص سجانوا بن بلة أن يحرموه من أي شكل لحياة عادية. لكن الزهرة قاومت لتحقيقها له. وفي إحدى خرجاتها، زارت مستشفى وهران بسبب قرارها البحث عن أخت لابنتها المتبناة والتي أسمتها «المهدية». ولم تتحمس لأي من المواليد الذين عرضوا عليها. فأخبرتها الراهبة التي عرضت عليها أولئك المواليد أنه بقيت فقط طفلة سوداء لم يردها أحد ولا حاجة لعرضها عليها. فقالت لها الزهرة أريد رؤيتها.
وراء حاجز سريري صغير كانت طفلة في سنتها الثانية تلعب، مثل حيوان محتجز، ولها حركات خاصة بالأطفال الذين لهم إحساس أنهم منبوذون من العالم الخارجي. تلك الطفلة التي لم تكن تضحك في وجه أحد، ضحكت للزهرة. فاختارتها في الحال. وكان على الزهرة أولا الذهاب لشراء ملابس لها. لقد قضت كل سنتيها الأولى في السرير بلباس النوم. وحسب فرويد فإن مستقبل أي طفل يتحدد في السنتين الأولين. وكانت الزهرة تعلم ذلك. ولقد نبهها الأهل والأصدقاء أنها ستواجه المجهول. كانت الصغيرة لا تعرف المشي ولا الأكل، لأنه لا أحد اهتم بذلك من قبل. كانت لا تعرف معنى الملعقة. كانت أشبه بحيوان مرعوب صغير، لكن بن بلة احتضنها بحب نادر. نورية (هكذا أسموها)، أصبحت طفلة فرحة في سنتها الرابعة. (حين كتابة هذا النص الشهادة الجارحة من قبل المحامية مادلين لافو فيرون. ? م - ).
ألحقت المهدية بمدرسة مخصصة لأبناء الجنود، قريبا من مكان اعتقال أبيها بين بلة. ولقد صدمت معلمتها حين عرفت بعد مدة من تكون حقا، لأنها سجلت باسم مستعار وليس اسم بن بلة. لقد كان اسم بن بلة ممنوعا في الجزائر. بل لقد تم إسقاط كل حقوق المواطنة والجنسية على الرئيس الجزائري الأسبق. فأمام خانة الجنسية بعقد زواجه يوجد البياض. العدم. ما الذي تبقى له غير روحه لنزعها منه. لقد صدقت الزهرة حين صاحت يوم قررت الزواج منه: «إنهم يحاولون جعل الجزائريين ينسون بن بلة. إنني سأحاول فقط أن أتبث لهم أن جزائرية واحدة لم تنسه».
إنه يجوز لنا بهذا المعنى، ادعاء أن بن بلة يعيش حياة عادية. محاط بالحب؟ نعم. طبيعي؟ لا. يكفي فقط تأمل لعب المهدية، إنها تترجم واقع الحال. فهي تحب أن تمدده أرضا، وتربط له يديه خلف ظهره وأن تضع له عصابة على فمه وعلى عينيه لمنعه من الرؤية ومن الكلام. بل حتى في الخارج فإن نفس العبة تلعبها مع الأطفال. كانت تأخد الطفل إلى غرفة فارغة، تربط له اليدين وتنيمه على ظهره وتضع له الوسائد على الوجه، وتأمره بالصمت وتخرج وتغلق عليه الباب. هذا اللعب الطفولي يبعث القشعريرة في البدن. ومرت السنوات دون أن يتم تخفيف الحراسة وشكل المراقبة. فقط بعض التعديلات الطفيفة التي تفرضها الظروف. مثلا إظافة غرفة ثالثة بعد تبني الطفلة الثانية، التي لم يتقبلها قائد الموقع، الذي أخر بعض الوقت قبول دخولها إلى مقر سجن العائلة. قبول وضع فرن للطبخ في المطبخ بعد إلحاح من الزهرة من أجل طهي طعام لائق للصغيرتين، في حال كانت قطع اللحم المقدمة إليها غير متعفنة.
كان بن بلة، مثلما كان عليه الحال أثناء اعتقاله بفرنسا، فقد كان متعودا أن لا يستجدي أي شئ من سجانيه. فقط حين بلغ الأمر المهانة بكرامة زوجته من خلال شكل تفتيشها، هنا احتج على قائد الموقع. وكان الرد هو مضاعفة شكل التفتيش في المرة الموالية. وفي أكتوبر 1977، طلب بن بلة مقابلة القائد وأخبره أنه في حال تواصل عمليات تفتيش زوجته بوقاحة فإنه سيضرب عن الطعام بشكل غير محدود. فوجئ القائد، فهدده أنه لن يسمح للزهرة بالمغادرة نهائيا، حتى لا يصل قط خبر ذلك الإضراب عن الطعام إلى الخارج. لكنه أدرك أن عائلة الزهرة سوف تقلق وتبدأ الإتصالات، وتخبر الصحافة، وأن الإعلام الدولي سيتحدث ثانية عن بن بلة وهذا ما لا يريده أحد في الدولة. فكانت النتيجة أن طلب من سجينه أن يحدد له كل طلباته وكذا أسماء من يود أن يزوروه كتابة. بل أخبر أنه في حالة تراجعه عن قرار الإضراب عن الطعام، فإنه خلال الأشهر الثلاثة الموالية سينقل إلى إقامة محروسة في الشمال غير بعيد عن الجزائر العاصمة سوى ب 100 كلمتر. في الحقيقة، لم يبدأ بعض التحول سوى ثمانية أشهر بعد ذلك، خاصة بالنسبة للزهرة، التي يجب أن لا ننسى أنه مفروض أنها ليست سجينة. فبعد سبع سنوات، أصبحت تسافر في سيارة عادية، ولأول مرة رأت كيف هو مكان الإعتقال من الخارج.
قليل من التراب..
طلب بن بلة أن يلتقي باثنين من محاميه، بعض أصدقائه، أن يبعث رسائل ويتوصل بالجواب عنها. مما سيقدم دليلا آخر على وجوده، وهو الأمر الذي كانت السلطات العليا تتحرج منه. لقد منح أن تزوره محاميه كل شهر، الأستاذ محمد الصغير النقاش، وهو وزيره السابق في الصحة. وسمح مرة واحدة لصديقين له أن يزوراه. ثم شمل حق الزيارة عائلة الزهرة. هكذا لم يلتق بن بلة بأصهاره سوى 7 سنوات من زواجه بشقيقتهم. فيما رفع المنع عن كل الكتب السياسية والإقتصادية التي يود الإطلاع عليها. أما الإقامة المحروسة فهذا أمر غير وارد حتى الآن. لأنه أضيفت للبناية حيث هو معتقل أجزاء أخرى، مع قطعة أرض صغيرة تسمح بزراعة قليل من الورد. وأمام كل الصرامة المتواصلة كانت كل أسباب القلق قائمة متواصلة.
هل هو عداء شخصي والرهاب من هامة شخصية رجل عركته المحن وقوته بدلا من أن تطحنه، ما جعل رئيس الدولة (بومدين) الذي يدعي التقدمية، يبقي في السجن واحدا من أهم الزعماء الثوريين الذي لا يمكن التشكيك قط في أنه ظل وفيا لمصالح الجماهير العربية والإفريقية؟. لقد قيل دوما أن تمة تياران في السلطة بخصوص قضيته. واحد مع تصفيته جسديا وآخر مع تحريره وإطلاق سراحه. لكننا نجهل أين يتموقع بومدين، لكن منصبه يجعله المسؤول الأول عن مصير بن بلة.
عن «جون أفريك» 1978


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.