يبدو الوضع الآن بعد انتفاضات ما سمي «الربيع العربي» غامضا ومفتوحا على الكثير من الأسئلة، وخصوصا في ظل الفوضى السياسية التي صارت بمثابة أمر واقع مفروض، وانعدام أفق أو بديل واضح، وغياب نخب سياسية تسعى لتدبير تفاوضي وعقلاني لهذه المرحلة المليئة بالغموض والمخاطر. تونس التي بدأت منها الشرارة مع عود ثقاب أشعله البوعزيزي بائع الخضر في جسده بعد أن صب عليه البنزين، صار يحكمها حزب النهضة الإسلامي وتعرف تراجعات على مستوى انفتاح المجتمع واحترام التعدد الثقافي والحريات الفردية وحقوق الإنسان، وخصوصا مع بروز التيار السلفي المتطرف على الساحة والالتباسات التي تطال مواقف وردود أفعال الحزب الإسلامي الحاكم، إزاء التضييق على حرية الصحافة، وحرية التفكير والإبداع ومسألة المساواة بين المرأة والرجل التي اعتبرت مكسبا هاما منذ فترة حكم بورقيبة. أما ليبيا فقد (خرجت ولم تعد بعد) كما قال عنها الصحافي سمير عطا الله في أحد أعمدته بصحيفة (الشرق الأوسط)، وانتقلت من الحكم العبثي للعقيد المهرج والمجنون معمر القذافي، إلى حكم الميليشيات المسلحة، والقبائل والعصبيات، والنزعات الإقليمية، وبروز أصوليين متطرفين كان لبعضهم تجربة هامة في إقليم وزيرستان وأفغانستان. تبدو ليبيا، بعد الخلاص من القذافي بالطريقة الدموية المعروفة، بعيدة عن فكرة تأسيس دولة عصرية ذات نظام مدني يحترم التعدد والحريات، بل إن فوضى السلاح قد تغرقها كلية وتحولها إلى مجرد دولة ضعيفة كما هو الأمر بالنسبة للصومال واليمن. لقد ترك الدكتاتور المقتول خلفه صحراء سياسية، نبتت فيها الأشباح وانتعشت وفرخت ميليشيات تتبنى الشرعية الوحيدة التي صارت ملك يدها إبان الحرب ضد القذافي وهي شرعية السلاح، مع كل ما يترتب عن ذلك من تناسل مريع لفوضى جيو-استراتيجية إقليمية، على الحدود مع تونس والجزائر والنيجر ومالي، التي كانت الأولى التي أدت الثمن الفادح لهذه الفوضى، مع ما يمثله أيضا وصول الأسلحة الليبية المتطورة لأيادي التنظيمات الجهادية في الصحراء الإفريقية الكبرى. لقد تبين الآن بأن اندلاع الثورات في فضاءات ودول حولتها الأنظمة الدكتاتورية المافيوزية إلى صحاري سياسية هو نوع من المجازفة، علما أن الشباب المتنور والعلماني والمنفتح على زمن العولمة قد ذاب وغاب، أو غيبته اللحى والعمائم التي احتلت الواجهة وانبرت بشكل انتهازي بين لتقطف ثمار هذا التغيير، وتحوله إلى مكاسب سياسية آنية. لقد أظهرت التجربة الملموسة أيضا بأن الأحزاب والحركات الأصولية، من تلك التي تدعي الاعتدال إلى التي تتبنى التطرف بشكل صريح، ليست مجرد فزاعة كانت الأنظمة الدكتاتورية تستعملها لإخافة أمريكا والغرب معها وإفزاع النخب الثقافية والسياسية العلمانية داخل مجتمعاتها، بل إنها كائنات حقيقية، زحفت بالأعداد الهائلة لمنخرطيها والمتعاطفين معها لتحصد كل شيء عبر صناديق الاقتراع، أي عبر الديموقراطية التي لطالما اعتبرتها كفرا قادما من الغرب المسيحي. لكن النزعة الميكيافيلية الباردة التي تغلب على هذه الأحزاب والحركات الأصولية، جعلتها كعادتها تفضل وتتبنى مبدأ : (الغاية تبرر الوسيلة). يلزم القول بأن أغلب هذه الحركات عايش الأنظمة الدكتاتورية إما بطريقة تقاسم الأدوار، أي تركها تمارس نشاطها داخل المجتمع شريطة ابتعادها عن التدخل في السياسة أو نقد المستبد، أو تسخيرها لمواجهة المثقفين والمناضلين اليساريين، أو بطريقة الصراع حين تتناقض مصالح النظام معها فيزج الدكتاتور بقادتها في السجون أو يحكم بالإعدام أو النفي على بعضهم الآخر. لقد كانت بشكل ما من الأشكال وجها آخر للأنظمة، بحكم أنها تسعى مثله لفرض الهيمنة على المجتمع وتتبنى اقتصاد السوق والنزعة الليبرالية المتوحشة وتسعى لإقصاء الرأي الآخر، والحد من الحريات فردية كانت أو جماعية. لكن واقع الأمر الآن هو أنها صارت موجودة وحاكمة بقوة الشرعية التي استمدتها من الديموقراطية الحسابية لصناديق الاقتراع، وصارت رقما قوي الحضور في المعادلة السياسية، بل إنها هيمنت بشكل شبه مطلق تقريبا كما حدث في مصر حيث احتلت 75 % في مجلس الشعب والشورى. لم يكن ما يسمى بالربيع العربي سوى المعطى المفاجئ والذي خلق أمرا واقعا جيو ستراتجيا جديدا، (استحواذ الحركات والأحزاب ذات المنحى الأصولي الإسلامي على السلطة) جاء فقط تكريسا لواقع اشتغل على مستوى عقود، وهو تواجد هذه الحركات و تغلغلها الفعلي في النسيج السياسي والاجتماعي وخصوصا بعد الدفعة القوية التي منحتها إياها الثورة الدينية في إيران ( (1978 وحكم الإسلاميين المحافظين في تركيا. لقد صار الإسلام الآن واقعا جيو ستراتيجيا، مطروحا على الكثير من القوى الإقليمية أو الدولية التعامل معه بشكل ما من الأشكال. لكن الحقيقة التي يخفيها الكثيرون هو أن هذه الأحزاب ليست ولن تكون أبدا جزءا من الحل، بل هي جزأ لا يتجزأ من المشكلة - الأزمة، وهذا بالذات ما يحد من طموحها الجارف في أن تشكل بديلا تاريخيا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بديلا لإخفاقات حركات التحرر الوطني الديموقراطية وفشل نموذج الدولة - الأمة، بالرغم من نزوع الكثيرين من الكتبة وأشباه المثقفين والمحللين ذوي الانتماء القومجي والعروبي، من الذين ارتبطوا في فترات ما بالأنظمة الدكتاتورية التي تدعي القومية، إلى تبني الحل الإسلامي باعتباره لا يتناقض مع القومية العروبية. فهل نحن أمام حل آخر يقفز على معطيات التاريخ، شبيه بالحل اللينيني لمشكل القوميات والذي قاد إلى الكثير من الكوارث والتجاوزات؟، نأتي الآن إلى ذكر ما يحدث في بر مصر. لا شك أن لمصر أهمية كبرى باعتبار الدور الوازن سياسيا واستراتيجيا الذي لعبته، وأسهمت من خلاله في خلق توازنات والحفاظ عليها بين مختلف الفرقاء الإقليميين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. مصر تعرف الآن بعد عقود من الدكتاتورية وانعدام الدولة المدنية وهيمنت المخابرات، والجيش ونخبة من السياسيين المتواطئين مع رجال أعمال شبيهين برجال عصابات المافيا الذين مارسوا النهب الاقتصادي لمقدرات البلاد، الإسلاميون من إخوان وسلفيين الذين ترددوا طويلا في الانخراط في الثورة في أيامها الأولى، سرعان ما استحوذوا على كل شيء بدءا من كراسي مجلس الشعب ومجلس الشورى، وإلى رئاسة الحكومة التي يناوشون من أجل حيازتها، وإلى تقديمهم لمرشح للرئاسة بعدما ما أعلنوا مرارا بأنهم لن يفعلوا ذلك. الكثيرون استغربوا التسرع والعجلة التي يريد من خلالها الإسلاميون الاستحواذ على مختلف دواليب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصولا إلى صياغة دستور على مقاس أهوائهم المحافظة وحلمهم بالدولة الدينية التي تنهض و إن بشكل مغاير للنموذج الإيراني، على سلطة الفقيه الذي يؤدي دوره هنا مرشد الجماعة. إنهم البديل الذي يرى نفسه أهلا لتسلم مقاليد السلطة في ظل الغياب الفاجع للنخبة السياسية والثقافية الليبرالية واليسارية العلمانية، وفي غياب مؤسسات حقيقية بإمكانها رأب الصدع الذي خلفته انتفاضة يناير2011، وعدم وجود تقاليد تفاوضية حوارية لتدبير الاختلاف وتجاوز الصراعات والتطاحنات، بين إسلاميين يرون أن هذه فرصتهم التاريخية، ومجلس عسكري جامد يدافع عن مصالحه السياسية والاقتصادية فقط، وشارع ألفت فيه الحشود الاعتصامات وممارسة أقصى أشكال العنف. صحيح أن سقوط زعماء الأنظمة الدكتاتورية الجامدة حدث هام شبيه إلى حد ما بسقوط جدار برلين، وأن هذا السقوط أدى إلى قلب إحدى الصفحات الطويلة الأكثر سوادا في تاريخ الشرق الأوسط وأنه مجرد بداية، لكنه ولد مشوبا بأعطاب كثيرة جدا، كانعدام الفكر والنظرية الثوريين، وانعدام أحزاب سياسية وزعماء يقودون التغيير، مما سهل الصعود السريع للأحزاب والحركات الأصولية. لا أحد يدري إلى متى تستطيع إرادة التغيير لدى الحشود الشابة، أن تصمد أمام المد الأصولي المحافظ لأصحاب اللحى التي اشتعلت شيبا. قد يذهب البعض إلى أن مصير الثورات هو أن تمر من فترة تسودها الفوضى التي تخدم بشكل ملموس القوى والتيارات الرجعية والظلامية، التي مكثت في الظل متربصة بحركة شعبية متعطشة للحرية والعدالة والكرامة، لتصير التيارات الإسلامية هي النواة الجديدة لسلطة شمولية مثل تلك التي شكلتها الأحزاب الحاكمة سابقا. هناك أطروحة مشوبة بالتشاؤم مفادها أن التيارات الإسلامية الصارمة والمحافظة قد تظل زاحفة على السلطة لتنتصر، وتؤسس أنظمة ثيوقراطية على النمط الإيراني. أما الأطروحة الأخرى فتقول بأن هذه التيارات ستنهار وتتلاشى وتذوب تحت ضربات، إلزامات وإكراهات الأسواق الرأسمالية والضغوطات الاجتماعية. يتوقف ذلك على مدى قدرة الشباب الذي تزعم الثورات انطلاقا من الشبكات الاجتماعية في الفيسبوك وتويتر، على تحمل ضغط هذه العاصفة الإسلامية، كما لو كانت مجرد حالة مضطربة وعابرة للطقس، وعلى مدى قدرة النخبة السياسية الليبرالية العلمانية أو اليسارية ذات البعد المدني المواطن، على إعادة تجديد نظرتها وتحليلاتها لما حدث وتوقع ما قد يحدث انطلاقا من الاتكاء على معطيات عقلانية وواقعية، ومدى قدرتها على تحديد مكوناتها للصمود في وجه هذا المد الجارف الذي انتظر سنينا في الظل قبل أن يخرج من قمقمه. إن الضغط الحقيقي المطروح على هذه الانتفاضات والتحولات التي كان باراك أوباما أول من سماها (الربيع العربي)، هو الذي ينحو منحى تجاوز هذه الأعطاب والاختيارات القروسطوية باتجاه دولة الحق والقانون، أي باتجاه النظام الأقرب للطبيعة الإنسانية وهو الديموقراطية... ...