قبل حدوث الأزمة المالية العالمية، بدأت تظهر في بلاد الغرب نظريات اقتصادية تركز على ضرورة تدخل الدولة في نظام السوق الحرة لإعادة إقامة التوازن بين المواطنين، حفاظا على استقرار النظام السياسي... وحين اشتعلت نيران الأزمة وصفها بعض الاقتصاديين بكونها أزمة تدبير حكومي ناجم عن الكيفية التي تُدَبَّر بها السوق الحرة، إذ تنعدم الرقابة على بنوك الاستثمار والرهن العقاري وغيرها من المؤسسات المالية... نتيجة ذلك، تقدم وزير الخزينة الأمريكي «هانك بولسون» مسنودا بالكونجرس بحلّ يقتضي شراء سندات بقيمة 700 مليار دولار، ما جعل بعض خبراء الاقتصاد ينظرون إلى إجرائه هذا بكونه يشكل أكبر تدخل حكومي في الاقتصاد الخاص منذ الحرب العالمية الثانية في دولة تؤمن بأن السوق الحرة هي التي تضبط سلوكياتها ذاتياً، بدون رقابة أو تدخل من الدولة. ونظرا لانعكاس الأزمة المالية الأمريكية على بريطانيا، فقد ظهرت في هذا البلد نظريات اقتصادية تناقض المفاهيم التقليدية للرأسمالية. وفي هذا الإطار، طوَّر «جيسي نورمان» الذي شارك من قبل في صياغة الفلسفة الجديدة لحزب المحافظين البريطاني رؤية جديدة أطلق عليها اسم «الاقتصاديات الرحيمة». وقد عرض هذه النظرية في كتاب معنون ب «مبادئ المحافظين الرحيمة» يركز فيه على ضرورة الانتباه إلى المسألة الاجتماعية بما يضمن توازنا داخل المجتمع، وبين قوة الدولة وقوته. قبل ذلك، كتب الكاتب الإنجليزي «ماثيو باريس» في صحيفة «التايمز» ما يلي: «لا يمكننا في هذا العصر أن نستغني عن تدخل الحكومة، إذ لم تعد آليات السوق وحدها قادرة على تحريك الاقتصاد والسياسة (...) فلا بد من تدخل الحكومة لإعادة توزيع الثروة والنفوذ بعدالة بين المواطنين، حيث تستطيع الحكومة بتشريعاتها الدفاع عن المصالح الجماعية ضد شهوة النزعة الفردانية» (...) كما أن «العالم يحتاج إلى الخروج من دائرة النموذج الاقتصادي المغلق، والجمع بين ما هو إيجابي في كل من القطاع الخاص والقطاع العام»... إذا كان هؤلاء الاقتصاديون الجدد الذين يركزون على البعد الاجتماعي في تدبير اقتصاديات بلدانهم مقتنعين بأن تجربة تدبير الدولة للمشاريع الاقتصادية قد أثبتت فشلها، فإنهم يلحُّون على أنه لا يزال لها دور أساس في الاقتصاد من أجل الحفاظ على التوازنات وضمان العدالة الاجتماعية عبر المتابعة والمراقبة، حيث يرون أنها إذا تخلت عن ذلك، فستعجز عن ضبط النشاطات الاقتصادية وتنظيمها، ما سيجعل المواطنين يدركون أنها غير قادرة على حماية حقوقهم... ونتيجة ذلك، عندما ترفع الحكومة يدها عن السوق بدعوى احترام قوانينها، فإنها ستعيش أزمات مستعصية الحلول... إن الدولة هي تجمُّع منظّم يربط بين المواطنين من أجل خيرهم أفرادا وجماعات ومجتمعا، ويكمن دورها في ضبط كل النزاعات الفردية التي قد تضر بالمصالح الجماعية... وبدون ذلك، ستكفّ عن أن تكون دولة. والدليلُ على رأيي هذا قولُ الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» في الأسبوع الأخير من شتنبر 2011 عندما تساءل: من نحن؟ وما الذي نهدف إليه؟ وإلى أين نسير؟ لقد طرح هذه الأسئلة على ذاته بسبب المظاهرات التي تم تنظيمها لمواجهة السياسات الاقتصادية والمالية ل «وول ستريت» بنيويورك، والتي عرفتها 45 ولاية أمريكية. وقد نادت تلك الحركة الاحتجاجية بمطالب متنوعة همَّت إصلاح النظام السياسي، وإقامة العدالة الاجتماعية بين الأغنياء ومحدودي الدخل... لكن ما أثار قلق الرئيس أوباما كثيرا هو أن الكتلة الانتخابية المستقلة التي صوتت لصالحه في انتخابات 2008 وأوصلته إلى البيت الأبيض بهدف مساندة شعار التغيير الذي رفعه قد شاركت بكثافة في تلك المظاهرات، حيث عبرت عن غضبها من بقاء الأوضاع على حالها. وجوابا عن هذه التساؤلات التي طرحها على ذاته، اعترف أوباما بأن تلك المظاهرات تعكس مشاعر الإحباط الناجم عن عدم قيامه بما وعد به من تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي... وفي الشهر نفسه، قال «اد ميليباند» زعيم حزب العمال البريطاني أمام مؤتمر الحزب الذي انعقد في ليفربول: «يعرف كل جيل لحظة يحتاج فيها إلى أن يغير الطريقة التي يدبر بها أموره. ونحن الآن في مواجهة تلك اللحظة.» لقد اعتبر هذا القيادي المحافظ أن مفهوم العدالة الاجتماعية يشكل حجر الزاوية في الحفاظ على الدولة الحديثة وسلامتها، ما جعله يركز على ضرورة إقامة توازن اجتماعي بين الأغنياء والفقراء، وبين المواطن والدولة، وتحطيم كل ما يمنح فرصاً للبعض، ويحرم البعض الآخر منها... هكذا أقدم حزب المحافظين في بريطانيا على تغيير مهم في فلسفته السياسية والاقتصادية عبر تبني مفاهيم العدالة الاجتماعية، وتدخل الدولة في السوق الحرة للحفاظ على توازن المجتمع. وقد عاد مؤخرا «ديفيد كاميرون» رئيس الوزراء وزعيم المحافظين للحديث عن «الرأسمالية الرحيمة» الرامية إلى إقامة توازن فعلي بين الدولة والشعب... تجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت قوى عظمى راسخة في النظام الرأسمالي قد فطنت باكرا لتحديات محتملة، مستفيدة في ذلك من خبرة أهل العلم والمعرفة، فإن الاحتجاجات القوية التي عرفتها مختلف أقطار العالم قد كانت مع ذلك مفاجئة، وأسرع من قدرة الدول على الإسراع بالتخلص من المفاهيم والأفكار التي استقرت في بنية الدولة عبر عقود طويلة. من الأكيد أن الدول الغربية كانت تتابع التغيرات المهمة التي تطرأ على مفاهيم التنمية، والاستقرار الداخلي والخارجي، وتََحََوُّل الدول الأسيوية إلى مركز جذب دولي ومنافس قوي للغرب... فقد قامت دول صغيرة بتجارب تنموية تمكنت بفضلها من أن تطور سياسات تختلف من حيث الأهداف والمقاييس والآليات عما ترسَّخ طويلا في الغرب. وهذا ما توفقت فيه أيضاً دول أخرى غير أسيوية، مثل البرازيل التي يعترف لها الجميع بإبداعها الناجح في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية عبر توزيع عادل وإنساني لمعدل التنمية الاقتصادية، بنسبة أعلى للفقراء، ونسبة مضافة أقل منها للأغنياء... تبعا لذلك، فقد غيرت هذه التحولات كثيرا من الأفكار الراسخة في دول متقدمة بصدد التنمية وادارة الاقتصاد والأمن القومي... وبذلك، فإذا كان مفهوم التنمية الاجتماعية لا يحظى باهتمام حقيقي من قبل نظريات اقتصاد السوق، فإن تطور الأحداث واستفحال الأزمات قد جعله يفرض نفسه حتى في أعتى الدول الرأسمالية، حيث اقتنعت بضرورة اللجوء إلى تدخل الدولة لإعادة التوازن في توزيع عائدات التنمية، وضبط الأجور والأسعار، وتطوير برامج الرعاية الاجتماعية والصحية... منذ دخولنا عصر الثورة المعلوماتية، دخل العالم طورَ تغيرات سريعة غير مسبوقة في تاريخ البشرية. تبعا لذلك، فمن لم يستوعب قوانين هذا العصر، وبدل أن يعمل على اللحاق به يختار الركونَ إلى التباطؤ والجمود، وسجن ذاته في رؤى ومفاهيم أكل عليها الدهر وشرب وصارت فاقدة لأي معنى، فإنه يحكم على نفسه بالتخلف والعجز والانقراض. ويقتضي الانخراط في روح العصر والمستقبل خيالا واسعا لتدبير الأزمات لأنه يتطلب القدرة على إبداع الحلول الخلاقة، لا أن يسجن الإنسان نفسه بين جدران مفاهيم أصابها الصدأ. لا يمكن للدولة اليوم أن تُدَبِّر شؤونها بما يخدم أمنها القومي داخليا وخارجيا، بدون اتخاذ قراراتها على أساس الخبرة والعلم والمعرفة، ما يمكنها من إدراك قدراتها، والتنبؤ بالمستقبل والاستعداد له عبر تطوير البدائل الملائمة له، وذلك حتى ولو تطلب الأمر مراجعة الفلسفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعمول بها. لكن ما يستغرب المرء له هو أنه إذا كانت البلدان الرأسمالية العتيدة والمتشددة قد اقتنعت بضرورة تغيير سياساتها الاجتماعية من أجل إقامة توازن اجتماعي يضمن الحفاظ على أمنها القومي، فإن حكومة بلادنا تسير بوطننا في الاتجاه المعاكس لأي تنمية اجتماعية، حيث فرضت ارتفاعا جنونيا في أسعار المواد الأساسية لا يحكمه أي منطق اقتصادي أو اجتماعي أو عقلاني. كما أنها تعمل على تقليص الاستثمار في المجال الاجتماعي عبر سعيها إلى البدء بضرب مجانية التعليم وصولا إلى القضاء المبرم على كل الخدمات العمومية للدولة... إنها لا تعبأ بما يمكن أن ينجم عن ذلك من تهديد لأمننا القومي. خلاصة القول، إن «الحكومة» لا تنتبه إلى ما يجري حولها وطنيا ودوليا، الأمر الذي يدل على أن قراراتها لا تستند إلى أي معرفة أو خبرة... وهذا ما ينم عن أنها تسير بوطننا نحو أفق مظلم... وما يلفت الانتباه هو أن السؤال الذي طرحه الرئيس أوباما والمحافظون البريطانيون على أنفسهم هو تقريبا السؤال ذاته الذي يتردد على ألسنة غالبية أفراد النخبة في بلدنا، حيث يتساءلون: إلى أين ينبغي أن يسير بلدنا؟ قد يكون السؤال المطروح عندنا أشمل وأعمق في النظر إلى مختلف الأوضاع القائمة، إذ إن الهدف عندنا هو بناء دولة العدالة الاجتماعية، والحرية، والكرامة الانسانية... ومثلما تنبه الآخرون إلى ضرورة البدء بتطوير استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار الحاضر والمستقبل، فيجب أن يمتلك بلدنا رؤية واضحة، ويحدد لنفسه أهدافا وخططا وآليات للتنفيذ في مختلف قطاعات الدولة ومستوياتها، وذلك في إطار دولة القانون كما هو متعارف عليها كونيا. كما ينبغي تمتين اللحمة الوطنية عبر تحديث الدولة والمجتمع ودمقرطتهما. وهو ما يشكل إجابة سليمة ومباشرة على السؤال: إلى أين ينبغي أن نسير؟