الدورة الثالثة للمشاورات السياسية المغربية البرازيلية: تطابق تام في وجهات النظر بين البلدين    تفكيك خلية إرهابية موالية ل"داعش" ينشط أعضاؤها بمدينتي تزنيت وسيدي سليمان    موعد لقاء الرجاء الرياضي والنهضة البركانية    بطولة فرنسا: مبابي يتوج بجائزة أفضل لاعب للمرة الخامسة على التوالي    أحوال طقس اليوم الثلاثاء في المغرب    المغرب يعلن تفكيك خلية إرهابية من 4 عناصر في تيزنيت وسيدي سليمان    الشيلي والمغرب يوقعان اتفاقية للتعاون في مجال التراث الوثائقي    المغرب يستعيد من الشيلي 117 قطعة أحفورية يعود تاريخها إلى 400 مليون سنة    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    العثور على باندا عملاقة نادرة في شمال غرب الصين    إسطنبول.. اعتقال أمين متحف أمريكي بتهمة تهريب عينات مهمة من العقارب والعناكب    عجز الميزانية المغربية يفوق 1,18 مليار درهم عند متم أبريل    الإعلان عن موعد مقابلتين للمنتخب المغربي برسم التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    اتفاقية مع "عملاق أمريكي" لتشغيل 1000 مهندس وباحث دكتوراه مغربي    بنموسى يكشف العقوبات ضد الأساتذة الموقوفين    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    كيف بدأت حملة "مقاطعة المشاهير" التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي؟    بنموسى يعلن قرب إطلاق منصة رقمية لتعلم الأمازيغية عن بعد    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    مخرج مصري يتسبب في فوضى بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    الصحافة الإسبانية تتغنى بموهبة إبراهيم دياز    ميراوي محذرا طلبة الطب: سيناريو 2019 لن يتكرر.. وإذا استمرت المقاطعة سنعتمد حلولا بخسائر فادحة    القوات المسلحة الملكية.. 68 عاماً من الالتزام الوطني والقومي والأممي    انقلاب سيارة يخلف إصابات على طريق بني بوعياش في الحسيمة    وزير التربية متمسك بالمضي في "تطبيق القانون" بحق الأساتذة الموقوفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    جائزة أحسن لاعب إفريقي في "الليغ 1" تعاكس المغاربة    تنظيم الدورة ال23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية "التبوريدة"    الجمعية المهنية تكشف عدد مبيعات الإسمنت خلال أبريل    اليابان عازمة على مواصلة العمل من أجل تعاون "أوثق" مع المغرب    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    رشيد الطالبي العلمي في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    مصر على أبواب خطر داهم..    الأساطير التي نحيا بها    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات مبارك عن سنوات الحرب والصراع مع إسرائيل .. ضربوا طائراتى أمام عينى.. فأقسمت أن يشربوا من نفس الكأس
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 10 - 2013

لا يمكن المضىُّ قدماً نحو تفاصيل العمليات التى قام بها سلاح الجو المصري في حرب أكتوبر بقيادة محمد حسنى مبارك، دون الاطلاع على رؤية مبارك للحظة التى تعرّض فيها سلاح الجو هذا للتدمير الكامل فى هزيمة يونيو.. إن مبارك فى مذكراته »كلمة السر« التى تنشرها دار »نهضة مصر« وتنظم حفلاً لتوقيعها يوم 2 أكتوبر القادم يروى، فى فصل خاص، ماذا حدث له وكيف تلقى هذا الخبر الصاعقة، وأين كان، وكيف تصرف، ثم يحلل أسبابه.
إن المذكرات التى أملاها مبارك على المرحوم الإذاعي القدير محمد الشناوى، وحرر نسختها الأولى فى 1978، ثم عثر عليها وحققها وحرر نسختها الجديدة وكتب مقدمتها فى 2013 الكاتب السياسى عبدالله كمال، لا تذهب مباشرة إلى انتصار 6 أكتوبر، وحقيقة الضربة الجوية التى قادها مبارك؛ دون أن تمر على عملية إعادة البناء التى تمت خلال ست سنوات.. بدءاً من اللحظة التالية لهزيمة 5 يونيو.
يقول مبارك فى مذكراته: »فى هذا اليوم، الأشد حزناً فى مراحل حياتى، وقعت أعظم هزائمى الوطنية والشخصية، فقدتُ سلاحي أمام عيني، وخسرت بلادي سلاحها الجوى ومُنيت بهزيمة عسكرية كبرى.. فى هذا اليوم أيضاً تحقق أهم مكاسبنا وواحد من أكبر انتصاراتنا على أنفسنا .
يعود صاحب المذكرات إلى هذا اليوم، بينما يسجل مذكراته بعد تسع سنوات من حرب يونيو إلى ما حدث حقاً يوم الهزيمة:
الوقت: الساعة السادسة من صباح الاثنين، الذي قُدّر له أن يحمل فيما بعد ولبضع سنوات، على امتداد الوطن العربى كله، صفة «يوم الاثنين الحزين».
المكان: قاعدة بنى سويف الجوية. كانت حتى ذلك التاريخ، مقر لواء القاذفات الثقيلة المكونة من طائرات «ت ى 16».
الجندي المصري تجاوز آثار النكسة
بعد ليلة من النوم المتقطع، هاجمنى خلالها أرق غريب، لم أدرك سببه على وجه التحديد. لقد أرجعت هذا الأرق إلى إحساس بتوتر الموقف العسكرى بيننا وبين العدو، وما قد يؤدى إليه من تتابعات محتملة. كنت أشك أننا حسبنا بدقة ما سوف يُؤمّن قواتنا المسلحة عموماً، وقواتنا الجوية بالذات إذا ما وقعت مفاجأة مؤسفة. لقد تحول هذا الشك فيما بعد إلى يقين، أيّدته الأحداث والوقائع.
كنت منذ عودتى من بعثتى الدراسية إلى الاتحاد السوفيتى، أتولى قيادة لواء قاذفات ثقيلة، وهو منصب كان يجرّ علىّ الكثير من المتاعب التى تخلقها »الشللية«، التى كانت منتشرة بشكل مرَضى على مستوى القيادة قبل 5 يونيو 1967. كان سلاحى الوحيد فى مواجهة هذا الوباء (الشللية) هو الانهماك فى العمل إلى الحد الذى لا يسمح لى أنا شخصياً بالوقت الكافى للتفكير فى تصرفات الشلل المحدقة بى، أو محاولة الرد على »المكائد« التى تُحاك ضدى، طمعاً فى الموقع القيادى الذى أتولاه.
إيجابياً، كان هذا الانهماك فى العمل من جانبى يؤدى بالضرورة إلى تحقيق نتائج عسكرية، لا يستطيع أشد الطامعين أن ينكر أثرها على الارتفاع بمستوى القدرة القتالية للواء الذي أتولى قيادته.
أذكر، بينما أستعيد شريط الأحداث التى عبرتها فى تلك الفترة المؤلمة، أننى أمضيت على سبيل المثال، ستة أشهر كاملة فى بدء تشكيل اللواء وإعداده، لا أغادر مقر قيادتى على الإطلاق، ولا أذهب إلى بيتى ولو لحظات عابرة.. وكنت أقضى ساعات النهار وجزءاً كبيراً من الليل فى عمل متواصل، لا أسمح خلاله لنفسى إلا بوقت محدود من النوم الخاطف، الذى يهيئ لى متابعة العمل من جديد.
رغم هذا الجهد المتواصل, فإننى كنت أفاجأ مع بالغ أسفى بأن حالة الشلل التى تحاصرنى فى كل مكان أوجد فيه، كانت تنتهز أى فرصة يتصورون خلالها بأننى غفلت لحظة واحدة عن ألاعيبهم المعرقلة.
فى مثل هذا المناخ المؤسف، كنت أتابع بقلق بالغ، أخبار التطور السريع فى الموقف العسكرى، وبجهد كبير كنت أسيطر على القلق الذى لو استسلمت له فإنه يؤدى بالمقاتل إلى أوخم العواقب، خصوصاً إذا كان يتولى موقعاً قيادياً له أهمية خاصة. وبمواصلة العمل، لا أعتقد أن أحداً قد فوجئ فى مقر قيادة اللواء، عندما رأونى أباشر مهمتى بمكتبى فى تلك الساعة المبكرة جداً من صباح الاثنين 5 يونيو عام 1967.
ويتكلم مبارك عن طبيعة المهام التى كان يكلف بها نفسه فى هذا المناخ: كانت أمامى يومياً مهمة قد يعتبرها غيرى من الزملاء قادة الألوية الجوية، مهمة عادية، بل ودون مستوى اهتمام قائد اللواء شخصياً، وهى مصاحبة مجموعة من الطيارين فى طلعة تدريب عادية. فى منهجى كان الأمر مختلفاً تمام الاختلاف: إن القائد الذى لا يُعنَى بالتدريب المستمر، الذى يحفظ لرجاله مستوى دائم الارتفاع والتجديد من القدرة القتالية، ولا يُشرف بنفسه على هذه المسؤولية، ويتولى متابعتها شخصياً، قائد مقصر فى أداء واجبه.. أو هو لا يعرف حدوده ومسؤولياته القيادية.
هكذا كنت فى غاية السعادة، وأنا أستقبل خمسة من طيارى القاعدة فى بنى سويف جاؤوا يعلنون رغبتهم فى الطيران، لأنه مضى عليهم وقت طويل لم يطيروا. استجبت على الفوز لرغبة المقاتلين الخمسة، ووعدتهم بالاشتراك معهم، وتحددت بالفعل الساعة 9:5 (التاسعة وخمس دقائق) من صباح الاثنين 5 يونيو موعد الطلعة التدريبية المرتقبة.
كان كل شىء يبدو هادئاً وعادياً فى هذا اليوم. ولم يلُح فى الأفق العسكرى على الأقل ما ينذر أو يشير مجرد إشارة إلى احتمال وقوع الكارثة أو ما هو قريب منها.. ولم يرد للقاعدة من القيادة الجوية فى القاهرة، أى توجيه بمهام غير عادية، لهذا مضت الأمور فى مجراها الطبيعى بالنسبة لنا.
أقلعت الطائرة الأولى فى الموعد المحدد تماماً ودون تأخير أو تقديم ثانية واحدة. كان بعض الزملاء يعتقدون أن تلك الدقة نوع من »الحذلقة أو الحنبلية«.. لم يكن الأمر كذلك. وهذه الدقة الزائدة فى احترام الجداول الزمنية للعمليات الجوية يعود إلى أن الحرب الحديثة، أثبتت، بتجاربها المتعددة، أن احترام الطيار المقاتل للجدول الزمنى المحدد لتفاصيل مهمته القتالية أمر لا فكاك منه، بل إن هذا الالتزام الحرفى هو الضمان الوحيد لنجاح المهمة التى عُهد للطيار بإتمامها.. وربما كان احترام الطيار المقاتل لهذا الجدول الزمنى، هو مفتاح النجاة، لا بالنسبة له وحده، بل بالنسبة لقواته الجوية بأسرها. لا أبالغ حين أقول إن تأخر الطيار دقيقة واحدة أو تقدمه عن الموعد المحدد له، قد يتسبب فى حدوث كارثة على المستوى الاستراتيجى للشعب الذى سلم للطيار أمانة الدفاع عن سمائه ضد العدو الجوى.
فى الساعة 9:15 كنا نصعد بطائراتنا الخمس، فوق سحاب منخفض لم يتجاوز ارتفاعه ثلاثمائة متر.. بعد خمس دقائق اهتزت أجهزة اللاسلكى فى طائرتى، بخبر وقع علىّ كالصاعقة. تم إبلاغى بأن القاعدة الجوية التى أقلعت منها منذ لحظات قد هوجمت. فعلتها إسرائيل إذن. قاعدتى الجوية تُضرب وأنا معلق فى الجو، عاجز عن صنع أى شىء، وقاذفاتنا الثقيلة التى يعرف العدو جيداً قدرتها التدريبية الرهيبة، تُدمر الآن وهى جاثمة على الأرض لا حول لها. وأبشع من هذا.. تلك الصفوة من خيرة الرجال، الذين أجهدت نفسى، وأجهدوا أنفسهم معى فى تدريبهم تدريباً متواصلاً للارتفاع بمستوى قدراتهم القتالية، استعداداً للحظة اللقاء بالعدو.. وها هى اللحظة قد حلت.. ولكن فى غير وقتها المناسب، وفى الظروف التى اختارها العدو، ورتب لها.. تُرى ما مصير هؤلاء المقاتلين الشجعان، الذين فاجأتهم طائرات العدو، وهم على الأرض؟
كان هذا بعد وقوع أول ضربة جوية معادية بخمس وثلاثين دقيقة كاملة. تساءلت: كيف ولماذا أضاع مركز العمليات الرئيسى هذا الوقت الثمين، دون أن ينذر باقى المطارات التى لم تكن قد تعرضت للقصف، فى أولى موجات الضربة الإسرائيلية التى بدأت فى التاسعة إلا الربع؟ خمس وثلاثون دقيقة بالكمال والتمام، كانت كافية لإنقاذ جزء لا يستهان به من قواتنا الجوية، بل كانت كافية مع حسن القيادة وسلامة التخطيط والتوجيه لتغيير نتيجة الضربة الجوية القاصمة، وبالتالى تغيير سير المعارك كلها، سواء فى الجو أو على مسرح العمليات البرى.
يأكلنى الغيظ والكمد، وأستغيث بجهاز اللاسلكى فى طائرتى، ولكن الجهاز لا ينطق. لا أحد يسمعنى. لا أحد يسعفنى حتى ولو بأطيب التمنيات. إن مركز العمليات صامت تماماً، وبرج المراقبة فى قاعدتى الجوية التى غادرتها مع رجالى الخمسة كان هو الوحيد الذى يرد علىّ محذراً من الهبوط بسبب تدمير الممرات معلناً عجزه عن إعطائى أية تعليمات بالاتجاه إلى مطار آخر يكون ما زال صالحاً للهبوط.
مرت بنا لحظات من الصمت الكئيب، ونحن نطير بلا هدف.. إلى أين نذهب؟ وفى أى مطار يستقر بنا المطاف؟ لم نكن نعرف، ولم يكن أمامنا وقتها إلا أن نطير ونطير حتى يفرغ الوقود من طائراتنا فتقع كارثة أو معجزة.. وفجأة دبت الحياة فى جهاز اللاسلكى.. اتصال من مركز العمليات، وكان يطلب طلباً غريباً، بدا لى وقتها، وكأنه نوع من السخرية المرة، ونحن معلّقون فى الجو، بلا هدف نسعى إليه، وبلا مطار نثق فى بقاء ممراته سليمة وصالحة.
كان مركز العمليات قد ظن أنه بدأ يستجمع شتات »قدرته« على السيطرة، أو لعله فقدها نهائياً، فإذا به يطلب منا تنفيذ الخطة »فهد«. كدت ألعن محدثى. أى »فهد« هذا الذى يطلبون منى تنفيذه بعد أن ضُربت قاعدتى الجوية، وطائراتها على الأرض، وأنا معلق فى الجو مع زملائى؟! ولم أجد فى هذا الطلب الهازل ما يستحق عناء التفكير فى مجرد الرد عليه حتى بالرفض.
كان غضبى ساعتها هائلاً من هذه القيادة التى تذكرتْ فجأة، ولكن بعد فوات الأوان، أن هناك خطة اسمها »فهد« وأن هذه الخطة يُمكن تنفيذها، ويُمكن عن طريقها أن نلقّن العدو درساً قاسياً.. ولكن متى.. وكيف؟ لقد ضاع الوقت.
مجدداً، سيطرت على الغضب، وبتفكير فورى، حسمت أمرى.. هؤلاء الرجال الخمسة يجب الحفاظ على سلامتهم، والاحتفاظ بطائراتهم إن أمكن. إن الضربة التى دمرت قاعدتنا الجوية فى بنى سويف تعنى كذلك أن المطارات المتقدمة فى القاهرة والدلتا وسيناء قد دُمرت تماماً.. ولكن لا مجال لليأس، فلنسرع بالصعود إلى مصر العليا. وأغلب الظن أن مطار الأقصر لا يزال سليماً، فليكن هو محطة الوصول التى نلجأ إليها مؤقتاً لكى نتزود بالوقود والذخيرة اللازمة، ثم نعاود الطيران، أملاً فى الإسهام بجهد فى المعركة بهذه الطائرات الخمس.
أصدرت أمرى بالاتجاه إلى الأقصر، لأفاجأ بعد هبوطنا بتعذّر إمدادنا بالوقود لعدم وجود المعدات اللازمة للتموين واستحالة إمدادنا بالذخيرة اللازمة، لأنه لا توجد بالمطار ذخيرة. وضاع الوقت فى محاولة استخدام وسائل بدائية لتزويد الطائرات بالوقود، وفى الاستعانة بمركز العمليات للبحث عن وسيلة لإمدادنا بالذخيرة اللازمة لاشتراكنا فى المعركة، إن كانت لا تزال هناك فرصة للاشتراك فيها.
وبينما نحن فى هذا الوضع المزرى أقبلت الطائرات الإسرائيلية، وبدأت عملية قصف المطار. كان هناك عدد من الطائرات المدنية التابعة لشركة مصر للطيران وبعض طائرات النقل الثقيلة التابعة للقوات الجوية.. وقد بدأت الطائرات المعادية بتدمير طائراتنا الخمس القاذفة الثقيلة لكى تُفرّغ من قدرتها التدميرية، ثم تحولوا إلى باقى الطائرات ومنشآت المطار لقصفها.
إن الحرب عمل مرير، مختلفة فى واقعها عما يمكن أن يقرأه عنها إنسان فى كتاب، أو يشاهدها فى فيلم سينمائى. لقد عشت الحرب فى تلك الساعة الكئيبة من صباح 5 يونيو الحزين بطريقة سلبية بشعة على نفسى كطيار مقاتل.. رأيت بعينى طائراتى الخمس، وهى سلاحى فى الحرب، تُدمر أمامى على الأرض وأنا عاجز عن استعمالها، عاجز عن حمايتها من الدمار.. كانت لحظة رهيبة لا تُنسى. وأحسست ساعتها أن فؤادى يتمزق تماماً، مثل الطائرات الخمس التى تمزقت أشلاء على أرض المطار.. إن الحزن الذى شملنى أنا ورجالى الخمسة لا يقدر على وصفه أو الإحساس به سوى طيار مقاتل فقد سلاحه مثلنا، دون أن يتمكن من استعماله.
فى صباح 5 يونيو تلقيت إشارة على اللاسلكى من مركز العمليات يأمرنى بتنفيذ الخطة »فهد«
بإرادة البقاء وحدها تحول الحزن الذى اجتاحنى إلى غضب لا حدود له.. ثم إلى قسم على الأخذ بالثأر. كان احتراق طائراتنا أمام أعيننا إهانة لا يغفرها إلا الجبان، ولا يمحوها الثأر.. لا بد أن نسقى إسرائيل من نفس الكأس، ولا بد لنا مهما طال المدى، أن نجرد طياريها من سلاحهم قبل أن يتمكنوا من استعماله.. ولا بد أن تذوق على أيدينا مرارة تدمير طائراتها وهى جاثمة على الأرض فى ضربة جوية قاصمة، لا تعرف الرحمة ولا تسمح للخصم بالإفلات من مصيره المحتوم.
بينما تؤلمنى هذه الذكرى، قد يكون مدهشاً أن أقول إن تلك الضربة المدمرة قد سببت لنا نحن الطيارين المصريين عكس ما اعتقدت إسرائيل. تصور العدو أن هذه الضربة القاصمة ستؤدى إلى حالة من اليأس يعجز المقاتل المصرى عن احتمالها، وتؤدى به فى النهاية إلى الإقلاع نهائياً، أو مرحلياً، ولفترة طويلة، عن التفكير فى خوض مواجهة جوية مع هذا الشبح المخيف الذى تطلقه إسرائيل فى الجو على هيئة شياطين لا يعرف أحد من أين تأتى، ولكنه يتعذب من وقع ضرباتها الملتهبة القاصمة.
هذا الحلم الإسرائيلى الكبير تحول إلى وهم أكبر تبدد فى نفس اللحظة التى تمت فيها الضربة المفاجئة للطيران المصرى فى جميع المطارات المصرية التى تلقت الضربة الجوية، كان جميع الطيارين الذين شاهدوا بأعينهم طائراتهم تحترق أمامهم وهى جاثمة على الأرض يرددون نفس القسم الذى تعاهدتُ عليه مع رجالى الخمسة فى مطار الأقصر: الثأر.. ولا شىء غير الثأر يمحو الإهانة التى تلقاها نسور مصر الذين حُرموا من أجنحتهم فى ذلك اليوم.
لم يكن الذى احترق يوم 5يونيو هو الجزء الأكبر من سلاحنا الجوى وحده، ولكن الذى احترق بالفعل، وكما أثبتت عمليات أكتوبر المجيدة، هو الأسلوب القديم فى قيادة الطيران المصرى، تخطيطاً وتنفيذاً على جميع المستويات التكتيكية والاستراتيجية.
محمد أنور السادات
لقد نسفت قنابل الطائرات الإسرائيلية، التى تساقطت فوق مطاراتنا يوم 5 يونيو »الشللية«، والأخطاء الكبيرة، والتستر على تلك الأخطاء.. كما أنها حرقت الجهل بفنون القتال الحديث لكى تفسح الطريق، دون قصد منها طبعاً، لجيل جديد من الرجال يملك العلم والقدرة المرتفعة على التخطيط والتنفيذ على أعلى مستوى قتالى معاصر، ويملك قبل كل شىء الرغبة فى الانتقام. ورب ضارة نافعة. وصدق الله عز وجل حين قال فى كتابة العزيز »وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم«. فى مذكراته »كلمة السر« يعود مبارك إلى الأسباب التى دعته إلى كتابة يوميات سلاح الجو بين عامى 1967 و1973.. ويفسر لماذا قرر ذلك فى عام 1978: أكتب هذه المذكرات انطلاقاً من شعورى بالمسؤولية تجاه المواطن المصرى، والقوات الجوية، والقوات المسلحة المصرية كلها، واستجابة لمسؤوليتى تجاه التاريخ والحقائق التى يجب أن يطلع عليها الجميع.
وأشعر بفداحة تلك المسؤولية منذ نبتت فكرة هذا الكتاب الذى يحكى ملحمة الطيران المصرى كاملة، بدءاً من ضربة الخامس من يونيو عام 1967، حتى ضربة »صدام« التى استعاد بها الطيار المصرى سمعته كمقاتل جرىء ومقتدر، فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973. إن المرجع الأساسى لذلك الإحساس هو ذلك الرصيد الهائل من الإعلام الإسرائيلى، الذى امتزج فيه قدر محدود من الحقائق بقدر لا محدود من الأكاذيب والخيالات التى صيغت بذكاء شديد.
وفى أغلب فصول مذكراته يبدو مبارك مهتماً للغاية بالتأثيرات النفسية والمعنوية لهزيمة 5 يونيو كما لو أن الضربة الجوية التى جهز لها فى يوم 6 أكتوبر كانت تستهدف تحقيق الانتصار المعنوى والنفسى قبل أن تحقق الانتصار العسكرى.. يقول: لقد نجح الإعلام الإسرائيلى فى تحويل ضربة إسرائيل للطيران المصرى صباح 5 يونيو 1967 من مجرد خطة عادية -إذا قيست بالمقاييس العسكرية المحايدة والموضوعية- فى إطار الظروف التى تمت خلالها الضربة على جانبى الصراع، إلى أسطورة خيالية تروى أمجاداً خرافية لواضع الخطة »مردخاى هود« وهيئة عملياته العسكرية.
لقد عُرفت تلك الضربة فى الملفات السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية باسم »طوق الحمامة«، ويعود القدر الأكبر من النجاح الذى حققته إلى هذه الصدمة النفسية التى أصابت جماهير شعبنا المصرى، وأمتنا العربية كلها، وهى ترى »أكبر قوة جوية ضاربة فى الشرق الأوسط« -كما كانت القيادات العسكرية المصرية السابقة تُصرح دائماً- تتحطم وهى جاثمة على الأرض، فى ضربة سريعة لم تتجاوز منذ بدايتها فى الساعة 8:45 صباحاً إلى نهايتها نحو الساعة العاشرة، ساعتين فقط.
عامل آخر ساعد على إشاعة الجو الأسطورى حول ضربة إسرائيل للطيران المصرى، وهو الأقاصيص والحكايات المبالغ فيها كثيراً، والتى رواها الجنود العائدون -على أقدامهم- عبر سيناء، تنفيذاً لقرار الانسحاب الذى أصدرته القيادة العسكرية للقوات البرية فى الوقت الذى فقدت فيه هذه القوات أى حماية جوية، فأصبحت خلال عمليات الانسحاب المتسرع غير المنظم مكشوفة تماماً للعدو الجوى، ومعرضة لطيرانه الذى أسكرته نشوة النصر المذهل -حتى بالنسبة لأكبر المتفائلين فى قيادة الطيران الإسرائيلى- فمضى الطيارون الإسرائيليون يعربدون فى سماء سيناء، ويعبثون بالقوات البرية المصرية العائدة، وهم فى مأمن من أى حساب أو عقاب رادع.
ويُضاف إلى ذلك عامل أخير، لعله فى تقديرى أخطر هذه العوامل جميعاً، وهو تلك الأعداد الهائلة من أبناء مصر -سكان مدن القناة- الذين تحولوا مع تصاعد العمليات القتالية على جبهة السويس إلى مُهجّرين، موزعين فى معظم مدن مصر وقراها، وما حمله معهم هؤلاء الإخوة من قصص العدوان الإسرائيلى المتغطرس، والذى كان طيران إسرائيل يمثل رأس الحربة فى كل عملياته.
إن رؤية المواطن المستقر فى داره وعمله، وسط أهله وأصحابه الذين عاش عمره بينهم، لأخ له فى الوطن، وقد أُرغم على ترك مسقط رأسه ومسرح حياته العملية والاجتماعية، ثم تحول رغماً عنه -وتحت وطأة عمليات عسكرية عدوانية- إلى مُهجّر يعيش فى معسكر أو مخيم، ويعيش على إعانة مهما تعاظم قدرها، فهى بالقياس إلى دخله الأصلى محدودة، ودون ما اعتاد أن ينفق على نفسه وذويه؛ هذه الصورة القاسية، حين يشاهدها المواطن المصرى -ويسمع بها أو يراها الإنسان العربى- بعد 5 يونيو 1967، كان لها فعل السحر الأسود فى نفسه، وربما بعثت إلى ذهنه ووجدانه على الفور، بصورة مماثلة طالما قرأ عنها أو سمع بها عام 1948، حين نجحت إسرائيل عشية إعلان قيامها كدولة، فى طرد الملايين من عرب فلسطين وأصحابها الشرعيين، وتحويلهم إلى لاجئين يعيشون فى المخيمات، على صدقات المجتمع الدولى.
وقد تضافرت مع هذه العوامل فى تحقيق الهدف النهائى، الذى سعى الإعلام الإسرائيلى عقب 5 يونيو إلى تحقيقه فى نفسية الإنسان العربى، وهو التهويل لهذه العملية العسكرية التى لا تخرج فى التحليل العلمى عن منهج من الفكر العسكرى الألمانى والإنجليزى -مع بعض الإضافات اليسيرة التى تتفق مع طبيعة وتكوين العقلية العدوانية المسيطرة على قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية- وحصيلة كل هذا أن تحول الطيران الإسرائيلى إلى خرافة وتحول الطيار الإسرائيلى إلى شبح، تنسج مخابرات العدو حوله الأساطير، وتشيعها عبر أجهزة الإعلام العالمى.
وإذا كنا -نحن العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص- نعيب على الإسرائيليين، عسكريين وساسة، تلك المستويات الرهيبة من الغرور والغطرسة التى لا تطاق، والتى استولت عليهم فكراً وسلوكاً، عقب انتصارهم المفاجئ والمذهل، الذى حققوه بأبخس الأثمان، فإننا لا نرضى لأنفسنا -نحن المصريين بالذات- أن يؤخذ علينا ما عبناه على خصمنا، فنستسلم لنشوة النصر الذى حققته قواتنا المسلحة -بجميع أفرعها- يوم 6 أكتوبر، بحيث قضت فى ست ساعات على أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر، فإذا به، بشهادة العدو قبل الصديق، وبعد ست ساعات فقط يترنح من هول الضربات التى كالها له المقاتل المصرى جواً وبراً وبحراً.
ومع يقظتنا الكاملة لهذا المنزلق العاطفى الخطر، الذى يمكن أن يجرنا إليه الإحساس القوى بالنصر الساحق الذى زلزل كيان العسكرية الإسرائيلية.. فإننا -مع كل التواضع الذى تمليه الثقة الكاملة بالنفس، والإيمان الراسخ بالقدرة القتالية الهائلة للجندى المصرى- لا يسعنا إلا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهى أن إسرائيل تؤمن إيماناً راسخاً، بأن عدوها الأول، وخصمها الأخطر شأناً، والأثقل وزناً، هو مصر، وشعبها الأمين.. ذلك الشعب الذى ظل ثابتاً على أرضه كالطود الراسخ يحمى حضارته التى زرعها فى وادى النيل، وحماها ضد موجات الغزو الأجنبى، التى تكسرت على شاطئ صلابة المصريين طوال عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث.
فى مذكراته المهمة تلك يؤصل مبارك، نائب الرئيس الأسبق وقت كتابتها، للأسباب التى يعتقد أنها أدت إلى تعامل إسرائيل مع مصر باعتبارها الخصم الأخطر.. يقول: السبب الأول عسكرى بحت، تمثل فى تكثيف الضربة الموجهة إلى جيش مصر وطيرانها، بحيث أدى هذا التكثيف فى حجم الضربة والعناصر التى استُخدمت فيها -حيث ألقت إسرائيل بكل ثقلها العسكرى تقريباً جواً وبراً على الجبهة المصرية- إلى إحداث شلل مفاجئ فى القيادة المصرية. إن هذا أدى، مع عنصر المفاجأة، إلى ما أدى إليه من هزيمة ساحقة، وغير طبيعية فى نفس الوقت، خرجت بها مصر مهزومة من معركة لم تقم فى الواقع. وكانت النتيجة الحتمية، بعد أن خلا مسرح العمليات من الوجود المصرى الذى تحسب له إسرائيل ألف حساب، أن تفرغت العسكرية الإسرائيلية لباقى أطراف الصراع، على الجبهتين السورية والأردنية، وهى واثقة تماماً من تحقيق النصر، بعد أن فرغت من خصمها الألدّ، وعدوها الأخطر: مصر وجيشها.
المنطق الثانى أخذ شكل الحرب النفسية المسعورة، التى شنّها الإعلام الإسرائيلى بلا هوادة أو رحمة، واستهدف بها تحطيم معنويات الإنسان المصرى -باعتباره الركيزة الأولى فى الصراع العربى- الإسرائيلى، فإذا نجح هذا الإعلام فى زعزعة هذا الإنسان المصرى، وخلخلة بنائه النفسى الصلب، فإنه يفقد ثقته بنفسه وثقته بقواته المسلحة، وبقدرة هذه القوات على شن هجوم مضاد، لتحرير أرضه المحتلة، وبالتالى ينهزم نفسياً حتى النخاع، بعد هزيمة عسكرية لا مجال للتشكيك فيها، ومن ثم سينطوى على نفسه، ثم تتجه حركته -إذا قُدر له أن يتحرك- فى اتجاهين مدمرين، أولهما: فقدان الثقة فى قيادته السياسية التى انتهت به إلى هزيمة ساحقة، وما يتبع فقدان الثقة من تمزق وانفجارات تؤدى فى النهاية إلى انهيار الجبهة الداخلية التى أذهلت كل الخبراء والمحللين العالميين بصلابتها الأسطورية عام 1967 وما تلاها من سنوات الصمود.
إن الخطر الأكثر تدميراً هو موقف الإنسان المصرى فى قضية الصراع العربى- الإسرائيلى كان يكمن فى احتمال عاشت إسرائيل، ولعلها لا تزال تحلم به، بأن تؤدى الخسائر التى مُنى بها الشعب المصرى كنتيجة حتمية لضربة 5 يونيو، إلى وقوفه موقف المتشكك المرتاب فى القضية كلها، وأن ينتهى به هذا الموقف المتردد إلى رفض كامل فى النهاية، يعقبه انعزال مصر عن القضية برمتها. وتلك أعذب أمنيات الفكر الإسرائيلى؛ أن تنجح فى الوقيعة بين الإنسان المصرى وبين أمته العربية جمعاء، وقيعة تنتهى إلى انعزال مصر وخروجها من حلبة الصراع نهائياً، لكى يخلو الجو لإسرائيل، تعربد فيه كما تشاء، وتصنع بالمنطقة ما تريد، وتعيد رسم خريطة المشرق العربى على هواها.
لعل هذا يفسر لنا ضراوة الإعلام الإسرائيلى فى هجومه المخطط المدروس بإحكام ودقة بالغين، على عقل الإنسان المصرى وعاطفته معاً، هجوماً استخدمت فيه كل وسائل الإعلام الحديث، وجندت له كل أساليب الحرب النفسية الحديثة.عشرات الكتب والمؤلفات التى تتحدث عن »حرب الأيام الستة« قدمت لها وزارات الدفاع والخارجية والإعلام الإسرائيلى كل الإمكانيات والتسهيلات الوثائقية والمادية، وعشرات الأفلام (التسجيلية والروائية) التى تم إنتاجها ببذخ خرافى، وبحرفية سينمائية بالغة الدقة والذكاء، تصور كلها بطولات جيش الدفاع الإسرائيلى، وتتغنى بأمجاد »طيران إسرائيل«؛ ذراعها الطويلة ذات المخالب الجهنمية القادرة على سحق أى هدف فى أعمق أعماق الوطن العربى، وخاصة فى ربوع خصمها اللدود الخطير؛ مصر. مئات -ولا نبالغ إذا قلنا آلاف- المقالات والأبحاث العلمية والندوات التى تنشرها أو تذيعها وتعرضها وسائل الإعلام يتغنى كتّابها ومذيعوها »المحايدون« -كما يسمون أنفسهم- بأمجاد العسكرية الإسرائيلية، من ناحية، ويسخرون بهزال العرب وضعفهم وتخلفهم من ناحية أخرى.
أى «فهد» هذا الذى يطلبون منى تنفيذه بعد أن ضُربت قاعدتى وطائراتها وأنا معلق فى الجو؟
ثم.. أخيراً وليس آخراً؛ هذا السيل الرهيب من الأقاصيص المصنوعة -داخل مكاتب المخابرات الإسرائيلية- عن بطولات رهيبة، وقدرات أسطورية لجيش »الدفاع« الإسرائيلى وطيرانه الرهيب. ولعل هذا اللون الأخير من ألوان الحرب النفسية التى شنّها العدو ضدنا، عقب 5 يونيو، كان أخبث وسائلها على الإطلاق، لأنه كان يسعى إلى تحقيق هدفين واضحين منذ البداية: غرس الفزع فى نفس الإنسان المصرى -مدنياً كان أو عسكرياً- من هذه المقولة الخرافية »الذى لا يُهزم أبداً«، ثم قتل الثقة والاحترام اللذين يكنّهما المواطن المصرى لجيشه، عن طريق سيل متلاحق من النكت المرّة التى تسخر من المقاتل المصرى ومن قدرته على الصمود فى الميدان وعجزه عن مواجهة المقاتل الإسرائيلى، سواء تمت هذه المواجهة على الأرض أو فى السماء.
من الحقائق المسلم بها -فى الفكر العسكرى قديمه وحديثه- أن العدو الذى ينجح، عن طريق الحرب النفسية، فى نشر الفزع فى صفوف المدنيين على الجهة المعادية، ثم تصعيد هذا الفزع إلى احتقار للجيش الوطنى والسخرية منه وعدم الثقة به؛ يضمن فى النهاية النصر الكامل والساحق لقواته عند أول مواجهة له مع الخصم الذى نجح فى تدمير معنويات شعبه.
هذه الحقيقة التى جرت الآن مجرى البديهيات فى الفكر العسكرى، كانت نقطة البداية -كما سيتضح فى تلك المذكرات- عندما تحركت العسكرية المصرية بقيادتها الجديدة -بعد 5 يونيو مباشرة- لتحقيق الصمود النفسى أولاً للمقاتل والإنسان المصرى، قبل أى خطوة على الطريق الشاق الطويل الذى انتهى إلى معارك السادس من أكتوبر المجيدة.
عن «الوطن»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.