تعتبر الحاخامة الفرنسية دلفين هورفيور أن السلطات الدينية، في الديانات التوحيدية الثلاث ، توظف النصوص المقدسة لتأبيد الأوضاع القائمة, ورغم أن الهرم الديني اليهودي لا يعترف بها كحاخامة، فهي تمارس مهمتها في أحد المعابد اليهودية التابعة للحركة اليهودية الليبرالية بفرنسا في باريس. درست دلفين هورفيور أصول الدين في إحدى المدارس الحاخامية الليبرالية بنيويورك، لكنها فضلت العودة إلى بلدها للعمل فيه بدل المكوث في أمريكا, حيث يعترف بالنساء الحاخامات، وقد أصدرت كتابا بعنوان "ببذلة حواء" تتناول فيه قضايا الأنثى والحشمة في الديانة والتقاليد اليهودية. الحوار التالي أجرته معها يومية "ليبراسيون" الفرنسية (12/ 13 أكتوبر 2013)، وتناولت فيه عدة قضايا تهم الإشكالية النسائية في الديانات التوحيدية وبعض الأحداث الجارية من قبيل قضية الحجاب وتحمل المرأة لمسؤوليات دينية وضرورة إعادة قراءة النصوص المقدسة... { كيف يمكنك أن تكوني حاخامة في ديانة ترتكز على تقليد ذكوري؟ هل الديانة اليهودية معادية للمرأة؟ ليست الديانة، بل الذين قاموا بتأويلها على امتداد القرون، وجميعهم رجال. من الممكن قراءة النصوص المقدسة قراءة مغايرة، بل هي نفسها تلح على أن نقرأها بشكل مغاير! هل يجب أن نصد الطرف عن التقاليد بسبب تضمنها لتفسيرات تبدو لنا غير مستساغة، وفاحشة حتى، أم أنه يجب علينا، على العكس، استعادة تملكها، إعادة تأويلها؟, الديانات التوحيدية الثلاث معادية للمرأة وأبيسية بنفس القدر، وقد عضدت بعضها البعض على مر التاريخ. كما كان للمحيط تأثير كبير على التقاليد الدينية. هكذا، نعثر في التوراة على نساء كن بطلات ثم تغيرن لاحقا، مثل حواء التي ستتحول إلى امرأة شريرة في القرن الأول بسبب تفسيرات رجال الكنيسة للنص من جهة، وبسبب تفسيرات أخرى للنصوص الحاخامية من جهة ثانية. { انطلق الأمر إذن منذ البداية مع آدم وحواء، علما أنه يحال عليهما إلى حدود اليوم للدفاع عن الزواج ك "رباط مقدس بين رجل وامرأة"؟ لما نقرأ سفر التكوين، فنحن نجد أنفسنا أمام حكايتين. الحكاية الأولى تتعلق بالبشرية القائمة في الآن ذاته على الذكر والأنثى: كائن خنثى أصلي، ذكر وأنثى. بعدها، تروي التوراة في قسمها الأول حكاية ثانية مختلفة جذريا عن الأولى: آدم يتعرض للتخدير الطبي ويصبح أول إنسان يصاب بغيبوبة في التاريخ. وسيجري الرب، كبير الجراحين، له عملية جراحية لتخلق المرأة، ليس من "الضلع"، ولكن من "الجنب"، ذلك أن الكلمة العبرية المستعملة (تزيلا) ترد في مكان آخر من التوراة للدلالة على "الجنب". إننا نستعمل كلمة "تزيلا" للإشارة إلى جنب المظلة اليهودية قديما. القول إن أول امرأة خلقت من ضلع آدم، قول يجعلها في وضع تبعية للرجل، وتخلقها من عظم عضدي يجردها من صفة الذات. لكن العودة إلى التقليد الأولي تكشف أن الرجل والمرأة خلقا جنبا إلى جنب، ذاتا وذاتا. كما يكشف لنا النص الأصلي عن التكامل بين الذكر والأنثى: "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ" (سفر التكوين 1). والحال أن الأصوات الدينية الرسمية، البابا بنديكتوس السادس عشر وكبير حاخامات فرنسا جيل برنهايم (قبل استقالته- م)، استشهدا معا بهذه الآية عبر تأويل يزعم أنها تتحدث عن "رجل" و"امرأة" وعن "مشروع مقدس"، وذلك في سياق اتخاذهما لموقف ضد الزواج للجميع. وبالمقابل، فسفر التكوين يؤكد على الذكر-الأنثى مع جميع ما تحتمله كلمتا ذكر وأنثى من معاني ممكنة. { والنص الشهير حول المثلية التي يجعل منها "رجسا"؟ يتم الاستشهاد دائما بنفس النص: " ولا تضاجع ذكرا مضاجعة امرأة إنه رجس". يجب أن نتذكر أن ميزة تقليدنا تتمثل في اتخاذ مسافة تأويلية. حين يتم الحديث عن الرجس (تويفا بالعبرية) في التوراة، فهذا يحيل على أوضاع غير جلية، تنبيه ضد ارتباك هوياتي. ونفس الكلمة تستعمل حين الحديث عن حظر تحويل الجنس. أما بالنسبة لعدم المضاجعة، فهناك الكثير من التأويلات المثيرة. لقد خصص ستيفن غرينبرغ، أول حاخام أرتذوكسي ينشر ذلك علنا، كتابا معروفا حول المثلية في الديانة العبرية، يشرح فيه أن الإشكالية هذه تحيل على سياق حضاري معين يعود إلى الثقافة الإغريقية، لقد كان وضع النساء دونيا، ومن ثمة فإنه لا يمكن لرجل أن يذل نده عبر الحط من قدره عن طريق علاقة جنسية. إن ستيفن غرينبرغ وضع هذه الآية في سياقها التاريخي. { تجعلنا قضية الحجاب وجها لوجه مع معتقدات سلفية مستمرة إلى حد الآن، تتمثل في الخوف من الشعر الذي يجب تغطيته بباروكة أو منديل. وأحيانا الخوف من الجسد برمته الذي يجب حجبه كليا بواسطة البرقع. ما مصدر هذا الخوف من الإغواء؟ نصادف اليوم في أورشليم رجالا يضعون أشرطة لصوقة على نظاراتهم لكي لا تثيرهن النساء المارات في الشارع. إنهم يفضلون الرؤية الضبابية على إبصار جسد أنثوي. أفضل شخصيا هذا الحل: إذا لم يرغبوا في النظر، فليكفوا الطرف! أجل، ليست النساء هن من يجب عليهن الاختفاء من الفضاء العام. لقد فرض عليهن، عبر التاريخ، الانمحاء، حجب كل ما له صلة باللوغوس والوجه والصوت. علما أن هذا الوجه وهذا الصوت هما ما يجعلان الإنسان تجليا لذات. الشعر هو ما يتجاوز. ولذا يلزم حجبه لكي لا تتجاوز المرأة حدودها، لكي تظل حبيسة داخل حدود معينة. أما جسدها، فهو نفيذ أكثر من اللازم، ولذا يجب لفه بطبقة إضافية. المثير في هذا الخطاب الديني هو الخوف من رؤية المرأة، كون الأنثى تشكل خطرا على المجتمع في حالة عدم احتجابها. جميع الديانات تتحدث بإسهاب عن النساء ووضعهن، لكنها لا تتحدث أبدا إليهن. إنها تتحدث عن المرأة دائما انطلاقا من هاجس ضرورة إبعادهن، ذلك أن الفضاء الرئيس مخصص للرجال. في الكنيسة الكاثوليكية، تحضر المرأة بمعية الرجل، لكنها تظل مقصية من التعيين في الدرجات الكنسية. { يظل حظر الحجاب الإسلامي أو السماح به قضية راهنة في فرنسا وإنجلترا. ما موقفك منها؟ أتفهم إرادة بعض النساء في تغطية رؤوسهن، لكنني أتمنى أن يتم تشجيعهن على دراسة الأسباب التي تدفعهن إلى ذلك. إنهن يقررن، في كثير من الأحيان، وضع الحجاب لعدم توفر خيار آخر لهن، أو لافتقادهن للوسائل التي تسمح لهن بدراسة تقاليدهن الخاصة. إن الدفع إلى الاعتقاد بأن اليهوديات وضعن دائما باروكة والمسلمات حجابا زعم يضفي طابع الأصالة على هذا السلوك. والحال أن الإسلام واليهودية عرفا نساء وضعن الحجاب أو الباروكة، وأخريات لم يفعلن ذلك. وهو وضع متولد عن الثقافة المحيطة. أجد صعوبة في اتخاذ موقف إزاء هذه القضية، ما يهمني هو أن يسمح لهؤلاء الرجال والنساء بدراسة أصول هذا السلوك أو ذاك، وهو ما لا يمكن أن يتحقق بدون إمكانية الوصول إلى النصوص. إن السلطات الدينية توظف النصوص كوسيلة سياسية للحفاظ على الأوضاع القائمة، لتجعل الناس يعتقدون أن "الممارسة كانت دائما هكذا". في جميع الديانات، نجد الرواية الرسمية والتهديم، إذ هناك شيء آخر خلف الخطاب الأصولي. (...) { هناك أشخاص مستعدون للتطور في رحم عالم الدين، فهل يشكلون أقلية؟ علما أنك غير معترف بك كحاخامة من طرف اليهودية الرسمية لأنك امرأة... إنه من المستحيل نظريا على امرأة أن تحتل مكانة قيادية في الهرم الديني، ونظرا لغياب أي نص صريح في هذا الإطار، فإن السلطات الدينية تقول: "هكذا كانت الأمور طوال التاريخ، فمن نحن لنغير هذا التقليد؟" من جهتها، تشرح التيارات التقدمية أن دور المرأة تغير. ففي فرنسا، يعتبر النقاش حول المساواة بين الرجال والنساء قضية جيلنا، لكن رجال الدين متخلفون عن الركب ,ذلك أننا حاخامتان اثنتان فقط (في فرنسا) بينما لا توجد امرأة قسيسة أو إمامة. أما عند البروتستانتيين، فهناك نساء كاهنات، كما توجد نساء حاخامات في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ورغم أن مجتمعنا "الفرنسي" جد ليبرالي، فإن الفكر الديني الفرنسي محافظ بشكل خاص.إن ما يكمن خلف قضية النساء، الأنثى، هو قضية الغيرية، والطريقة التي نعامل بها المرآة هي ذاتها التي نعامل بها الآخر، أي الذي يوجد خارج الجماعة، الخاسر في إطار النسق السائد، حبة الرمل التي تعوق عمل الآلة. إذا مكثت النساء مبعدات عن دوائر السلطة، إذا بقين في الهامش، فجميع الآخرين سيظلون يتعرضون للإقصاء. إن سؤال الأنثى هو السؤال الذي يغضب. و خدمة لقرائنا العرب، انتقينا مقالا للباحث سامي لخماري، حول الحلي و دلالاتها الرمزية لدى القبائل المغربية .. جسد من لحم و من ذهب منذ آلاف السنين، لجأ سكان المغرب للحلي. وظائف الحلي لا تتوقف فقط على التجميل بل أصبحت علامة ثمينة للدلالة على الهوية. هنا نظرة على تاريخ الجسد المجَمل بالحلي. حين يفرض الطابو رقابته على تعبيرات الجسد، فإن للمرأة أكثر من حيلة في جعبتها لتجاوزه. فليس إذن صدفة أن تكون الحلي واحدة من المصنوعات الأكثر قدما لدى الإنسانية. فاللقى التي عثر عليها الأركيولوجيون من هذه المصوغات يعود أقدمها إلى عشرات الآلاف من السنين و كانت في البداية عبارة عن قواقع و عضام. و في المغرب لم تشذ نتائج الحفريات الأركيولوجية عن هذه القاعدة. فكثير من اللقى التي تم الكشف عنها في موقع سيدي عبد الرحمان بالدار البيضاء تتماهى مع الحلي. و يرى الأنتروبولوجيون أن استعمال المجتمعات للحلي يستجيب بصفة عامة إلى نفس المعايير. فالاختلاف عبر العالم ، يكون في الشكل الذي تأخذه هذه الحلي، كما أن المادة التي صنعت منها هذه الحلي تشكل مؤشرا جيدا على الوسط الذي يعيش فيه مجتمع معين. و هكذا فإن حليا من القواقع توحي بالقرب من البحر. كما أن وجود العاج يشير إلى واقع آخر و بيئة مليئة بالفيلة. و قد ظهرت الدقة في فن صياغة الحلي بشكل مبكر في المغرب و في المغرب العربي بشكل عام. فالشعوب الليبية القديمة (لقب أطلقه الإغريق على أمازيغ إفريقيا الشمالية) كانت تصنع مصوغات دقيقة. في هذه المرحلة، أصبحت مكانة الحلي مركزية في مسيرة المجتمع. إذ أنيطت بها كثير من الوظائف الأساسية. و أكثرها رسمية هي تلك المرتبطة بالسلطة السحرية التي تملكها هذه الأدوات. فباستخدامها كرُقية، تحمي هذه الحلي أعضاء القبيلة من كافة أشكال الشرور. كما أن التزين، بمواد نادرة و ثمينة، يعد مناسبة أيضا لتجميع الثروة المادية. و الحلية تصلح أيضا كعلامة للدلالة على الهوية، قادرة على الترميز لأصل و مكانة الفرد الذي يحملها. كما لا ينبغي نسيان الدور الأول لوجود الحلي و هو إبراز الجمال الجسدي. فبالرغم من تطور المعتقدات و العقليات ، فإن هذه الوظيفة الجمالية أساسية في مغرب الأمس كما هي في مغرب اليوم. و بطبيعة الحال فإن النساء هن من استخدمن هذه الرمزية. فأصبحت الحلي حديقتهن السرية بدون منازع. الحلي كعلامة هوية: «أرني حليك أقول لك من أنت»، بهذه الطريقة و منذ العصور القديمة، كان أفراد القبائل المغربية يعرفون بعضهم البعض.فمنذ القرن السادس عشر تقريبا، ظهر تياران مغربيان للحلي: فهناك الحلي ذات الصياغة الأمازيغية، التي نجدها بشكل كبير في الأطلس الكبير و في سوس منذ آلاف السنين. و مع انتشار الإسلام و ظهور التجمعات الحضرية، ظهرت الصياغة العربية للحلي أو الصياغة المدينية. لكن الاعتماد على هذه المصوغات للتحديد الإثني يبدو طريقا خاطئا، فداخل كل من التيارين ، توجد الكثير من الاختلافات، لدرجة أنك تجد هذه الاختلافات العديدة لدى قبيلتين متجاورتين. و مع ذلك فإن المواد المستخدمة لدى كل من هذين التيارين تختلف من واحد لآخر. فالفضة تعد من المعادن التي تمهر في صياغتها القبائل البربرية الأطلسية .و تتميز هذه الصياغة بضخامة حجم الحلي و المصوغات. فالصور الأولى للنساء البربريات المتزينات بحلي ثقيلة و سميكة شكلت موضوع إثارة في عالم بداية القرن العشرين. فالصياغة الأمازيغية تراهن أساسا على ضخامة الحلي ،على العكس من الحلي المدينية. و قد ظهرت نجاحات هذه الأخيرة مع الوصول الكثيف لليهود المطرودين من إسبانيا سنة 1492 ،و قد تميزت بأسلوبها و شكلها و حجمها. ففي أحياء اليهود بكل من فاس و مكناس و سلا، تميزت الصياغة بالدقة و المهارة. و هكذا فإن امرأة تحمل قرطين صغيرين من الذهب، تؤكد انتماءها لطبقة اجتماعية ثرية و مدينية. و هذه الطبقة غالبا ما تكون ذات أصول عربية أندلسية تنتمي للأرستقراطية المقربة من الأوساط المثقفة و من السلطة. و علاوة على وظيفته الهوياتية، فإن الحلي تحمل في حد ذاتها رموزا مشفرة، لا يستطيع تأويلها سوى المتمرسون بلغة الرموز هاته. لعبة مزدوجة: على عكس الثياب، فإن الحدود بين الحلي و الجسد تبدو واهية. و النساء تعرفن ذلك جيدا. فلدى الساكنة التقليدية، يشكل حمل الحلي ميلا جماليا للتميز و الخروج عن قيود الثياب المفروضة. فالمغربيات الخاضعات لنوع من الثياب يغطي جسد المرأة بالكامل تقريبا، يلجأن إلى إبراز حليهن. فالأنتروبولوجيون الذين اشتغلوا على المجتمعات البربرية بالمغرب، يتفقون على أن بعض الحلي تتخذ أشكالا إيروسية، و هكذا فإن حلية «تيزرزاي» الشهيرة المثلثة الشكل تتطابق مع شكل العضو الأنثوي. هذه الحمولة الحسية التي تسكن الحلي البربرية لم تغب عن فضول مستشرقي القرنين التاسع عشر و العشرين. فهؤلاء عكسوا في مؤلفاتهم افتتانا كبيرا بالرموز المليئة بالمفارقات التي تثقل الحلي النسائية. و هو ما شكل ملخصا كاملا للتصور النمطي حول المرأة المغربية، أي هذا المزيج الساحر بين الخضوع و الفتنة. و مع ذلك, فإن مظهرا من مظاهر الحلي المغربية قد فات التقاطه من طرف العين الفاحصة للمستكشفين الغربيين. ففن السحر متواجد في بعض الحلي. فكثير من هذه الدمالج أو الخلاخيل أو الأقراط أو الأحزمة أو غيرها، تتضمن عناصر للحماية و الوقاية من العين الشريرة أو السحر. فالمحظوظات اللواتي يحملن هذه الحلي يكن في حرز من الشرور. و لعل أشهر هذه الحروز هو «كف فاطمة»، التي أصبحت جالبة السعد الأكثر رواجا. عالم الحلي هو عالم النساء دون منازع، لكنهن لا يصغن الحلي بأنفسهن إلا نادرا، رغم تمكنهن من تفاصيله. و في أعين الرجال فإن قيمة أي حلية تتساوى مع ثمانة المادة المصنوعة منها. فحتى بداية الاستعمار، كانت الحلية الوحيدة التي يهتم بها الرجال هي الخنجر، الذي و إن كان مزينا بالأحجار الثمينة فإنه يظل وسيلة للقتل.