لن أعتقد في آرائهم: اللهم إذا كنت مجنونا يقول ديكارت: ومهما يكن فهم مجانين ولن أكون أقل غرابة منهم إذا ما سرت في طريقهم، لكن من هم هؤلاء المجانين؟ وكيف يمكن للفيلسوف أن يتخلص منهم؟ هل يتعلق الأمر بأولئك الذين يعتقدون في الخطأ هو الصواب؟، أم الذين يحلمون في واضحة النهار ويعدون الناس بالأوهام؟. فإما أن أظل يقظا وإما أن أنام وهذا معناه أن لا أقع في خداع هذا الشيطان الماكر الذي يعدنا دون أن يفي بوعده، حيث يعدنا عن الفردوس المفقود ولذة الفواكه والأطعمة والأشربة إذا نحن سلمناه أرواحنا، وجعلنا من الحواس مصدرا لمعرفتنا على الرغم من الحواس تخدعنا فكيف يمكن إنكار ذلك؟. ربما إذا كنت من المجانين والمخبولين الذين يقودهم دماغهم المنحرف وعقلهم المتوهم والمختنق بالبخار الأسود للصفراء إلى التوهم بأنهم ملوك، وهم بؤساء، وبأنهم يلبسون الذهب والأرجوان وهم عراة. والحال أنهم مجانين يتمعتون في الأحلام ويشقون في اليقظة. فما دمت أفكر وأحمي نفسه بالكوجيطو، الذي يجعلني أشك في خطاب تجار الحقيقة، فلن أكون مجنونا: فليس الجنون سوى خطأ الحواس، والحلم في واضحة النهار، ذلك أن بنية الحقيقة لا تتشكل إلا عندما يكون العقل مستيقظا والإدراك غير مخدر بفعل الأئمة والسحرة. هكذا يتضح أن ديكارت يفكر في السياسة التي تتوجه إلى الوجدان والحواس، إذ تتحدث مع الناس بلغة الضروريات والمعيشة اليومية تسقط في الخطأ الحسي، والجنون ليس سوى خطأ الحواس، ولذلك فإن هذه السياسة الشعبوية هي سياسة صالحة للمجانين الذين تنتظرهم سفينة الحمقى. حيث ستحملهم إلى أرض أخرى لم تطأها الأقدام. أما العقلاء فإنهم ينتظرون سياسة الحكماء التي تشرع الخير البلاد، وتجعل من الانتماء إلى الوطن نعمة. والحال أن الجنون هو غيابالإدراك وموت الإرادة، ولذلك يقول فوكو: ما دمت أنا أفكر، فإنه لا يمكنني أن أكون مجنونا. ومعنى ذلك أن حماية الشعب من الجنون تتم بواسطة المعرفة والعلم وليس بواسطة بركة أحزاب الأولياء والأضرحة. نعم إن الكوجيطو هو ترياق ضد الانحراف والخرافة والأوهام والهذيان لأنهم مصدر الجنون، جنون الأمة، وينبغي الشك في كل ما يقوله شيطان اللامعنى الماكر، وتحويل الإنسان إلى ذات مفكرة، وليس إلى جسد مستهلك، خاضع للعنف الرمزي، ولعل السياسة المدنية هي وحدها من سيحمي الناس من الجنون، لأنها سياسة تشيد روح العظمة في الإنسان من خلال تربيته في فضاء التنوير والعقلانية بمناهج العلوم الإنسانية، وليس بالخطابة والسفسطة. ولنا أن نتساءل: ما العلوم الإنسانية؟، وما علاقتها بالسياسة؟، وهل عندنا في المغرب علوم إنسانية؟. الحق في المعرفة هو نفسه الحق في تفكيك اللاهوت السياسي الذي يعتقل الأرواح في سجن الاستبداد والخرافة. ولذلك يتعين علينا إصدار مرسوم يقضي بإلغاء سياسة المجانين. وحملها على سفينة الحمقى لتتجه نحو المجنون: إذ يتعين أن يظهر الجنون هناك، حيث تنتصر المعرفة ومن المستحيل قيام حوار بين الجنون والمعرفة. وتظل إمكانية هدم الأسس قائمة بيد أن هذا الهدم قد يؤدي إلى انهيار البناية كاملة. من الحكمة أن لا نثق بأولئك السياسيين الذين خدعونا ولو مرة واحدة، وإلا سنكون مثل مجانين ديكارت الذين يحلمون في اليقظة، وبخاصة وأن الفكر الفلسفي هو إيقاظ بالنسبة لأفلاطون، ويتعرف على نفسه من خلال الشك والنقد، والقتال من أجل بناء مجتمع المعرفة كإنارة مشعة للمجتمع السياسي.. فلا النوم المبتهج بالأحلام ولا الوجدان الملتهب بالخطابة التيولوجية، ولا الوعي المخدر ينفعون في بناء الدولة المدنية التي يكون شعارها: عدالة، حرية، كرامة، وبعبارة واحدة الديمقراطية الحقيقية وليست ديمقراطية الشعارات. نعم إن الحلم لا يقاوم مثل الجنون، ولذلك فإن السياسة عندنا تبني مشروعها، انطلاقا من الأحلام، لأن سياسة اللاهوت تخضعنا: إما أن أكون مستيقظا أو نائما أو تحتجزنا داخل الخارج وخارج الداخل.