على غرار ما تذهب إليه حنه آرندت التي ترى أن النظر إلى السياسة من منظور الحقيقة يضعنا خارج السياسة، ربما أمكن أن نذهب إلى القول إن النظر إلى التاريخ من منظور الحقيقة فقط، قد يدعنا خارج التاريخ. علاقة الكذب بالتاريخ متعددة الأوجه، ففضلا على أن مفهوم الكذب نفسه قد عرف تغيّرا عبر العصور، إذ أن هناك، كما أشار جاك دريدا بعد حنة آرندت، «تاريخا للكذب»، فإن الشكل الذي أصبح الكذب يتخذه اليوم، جعله يتجاوز الفرد والأخلاق ليطال الجماعة والسياسة فيعْلق بالتاريخ. وربما كانت الحداثة مقترنة بهذا التحول الجذري الذي لحق طبيعة الكذب، والكذب السياسي على وجه الخصوص حيث لم يعد، كما كتبت آرندت «تسترا يحجب الحقيقة، وإنما غدا قضاء مبرما على الواقع، وإتلافا فعليا لوثائقه ومستنداته الأصلية». لم يعد الكذب إذن إخفاء للحقيقة، وإنما صار إتلافا لها، لم يعد مكرا تاريخيا، وإنما غدا مكرا بالتاريخ. معنى ذلك أولا أن هناك، كما يشير دريدا، «جدة تاريخية في تداول التعارض حقيقة/ كذب، إن لم يكن في ماهية الكذب ذاته». لذا فربما لم يعد يكفينا أن نتساءل: ما هو الكذب؟ وإنما ما الذي يقوم به فعل الكذب؟ وما الذي يرمي إليه؟ ليس الكذب مجرد قول محرف، وإنما هو قول فاعل، إذ يتوجب على الكاذب أن يكون على علم بما يعمل، وأن يرمي من كذبه القيام بفعل، وإلا فهو لا يكذب. الكذب بمفعولاته، إنه يتعلق بإخراج القول إلى الفعل، أو بالرغبة في ذلك، وليس بمضمون القول وفحواه. بهذا المعنى تشير آرندت أن الكذب، على عكس الحقيقة التي تتصف ببرودتها وسعيها نحو الموضوعية والحياد، أن الكذب يتولد ويعمل في غمرة الفعل ومعمعته. على هذا النحو فإن التعارض بين الحقيقة والكذب ليس تعارضا منطقيا ولا حتى نظريا، وأنا لا يمكنني أن أحكم على قول بأنه كذب إن أنا حصرت نفسي في النظر إلى فحواه، واقتصرت على المقول. ما يزيد الأمر صعوبة هو أن الكذب لا يتعارض فحسب مع الصدق والحقيقة. كان مونتيني قد أشار أن «قفا الحقيقة يتخذ ألف شكل، ويتوزع في حقل لا حدود له». من هنا تعذر التمييز بين الكذب و»جيرانه» المتعددين. الكلمة الإغريقية التي تدل على الكذب تعني في الوقت نفسه الخطأ والمكر والغلط والخداع والتدليس، مثلما تعني الإبداع الشعري، وكلنا يعلم أن «أعذب الشعر أكذبه». ميز القديس أوغسطين الكذب عن مجرد الوقوع في الغلط، وذلك بالتأكيد على القصدية في فعل الكذب. فالكذب هو الرغبة في خداع الغير، حتى وإن اقتضى الأمر، في بعض الأحيان، قول الحقيقة. يمكن أن يصدر عنا قول خاطئ من غير أن نكذب. لكن بإمكاننا أن نقول الحقيقة بهدف الخداع، أي الكذب. إذ ليس من الكذب أن يصدر عنا الغلط إذا ما كنا نظن أنه صواب. فليس الكذب هو القول الخاطئ، ليس هو الخطأ. يمكننا أن نكذب بقول الحقيقة. الكذب خداع قبل كل شيء، إنه حمل على الاعتقاد. يصر المفكرون الأخلاقيون على التمييز بين الكذب والغلط بإلحاحهم على النية في فعل الكذب. فالكذب في رأيهم هو أساسا الرغبة في خداع الغير، «حتى وإن اقتضى الأمر قول الحقيقة». للبت في هذه المسألة لا بأس أن نستعين بما يرويه فرويد عن اليهوديين اللذين التقيا في قطار، فسأل أحدهما الآخر عن البلدة التي يتوجه نحوها. أجاب الثاني: «أنا متجه إلى كراكوفيا». رد الأول متعجبا: «يالك من كذاب، إذا كنت تقول إنك ذاهب إلى كراكوفيا، فلأنك تريد أن أعتقد أنك ذاهب إلى لومبيرغ، لكن أنا أعرف أنك ذاهب حقا إلى كراكوفيا». ما يمكن ان نستخلصه من هذه الحكاية هو أن الكذب ليس أساسا مسألة مقاصد ونوايا، ليس مسألة أخلاق. ذلك أن سوء التفاهم والشعور بنية الخداع والكذب، ربما يتولدان من غير سوء نية، فلا علاقة إذن لمعنى الفعل بنية صاحبه. وفرويد يؤكد أن المسافر الأول كان بالفعل متوجها إلى كراكوفيا. ولعل ما ينبغي استخلاصه بهذا الصدد هو الإفتراض المبدئي لسوء النية و»أصلية» الكذب التي كانت ولا تزال تطبع الحياة البشرية، والتي احتدت ربما بفعل عوامل سنعرض لها فيما بعد. هذا ما سبق لميشيل فوكو أن أوجزه بقوله إن اللغة تعني دوما غير ما تقول. فحتى إن كان من اللازم الحديث عن سوء النية هنا فربما لا تكفي الأخلاق وحدها لتحديده. ذلك أنه يبدو راجعا لطبيعة اللغة ذاتها، أي لما يسميه فوكو «خبث الدليل ومكر العلامة». فكما لو أن الحقيقة، بمجرد أن تسكن الكلام وتغدو موضع حوار حتى تفقد جزءا من صدقها، وتكتسي رداء الكذب، أو على الأقل، تتصف بدرجة منه. وبطبيعة الحال من يقول اللغة، بقول كل شيء، يقول التاريخ في امتداده، بل يقول الكائن في كليته. يتضح لنا قصور أخلاق النية بشكل أكبر إن نحن أخذنا بعين الإعتبار ما آلت إليه آليات الخداع في مجتمعاتنا المعاصرة. لا أشير هنا فحسب إلى ما تتحدث عنه آرندت عندما تكشف عما قامت به مختلف التوتاليتاريات من تزوير للحقائق وغرس للكذب في العقول والمكر بالتاريخ نفسه، وإنما إلى الأكاذيب التي «أصبحت تعتبر أدوات ضرورية ومشروعة» في خدمة كل الفاعلين السياسيين مهما كانت الأنظمة التي يعملون في حضنها فتمكنهم من تأويل الحدث نفسه بحسب ما تمليه مقتضيات الفعل ومتطلبات اللحظة. لعل أكثر آليات الكذب انتشارا في هذا الصدد هي ما يمكن أن نطلق عليه «أسطرة» التاريخ، وانتزاع الحدث عن ملابساته وظروفه الخاصة لجعله بداية متكررة، و»ذكرى» ما تفتأ تحيا وتخلد. وفي هذا الصدد تنبغي الإشارة إلى الدور الذي أصبحت تقوم به وسائط الإعلام، والدعاية الرسمية وغير الرسمية من تلوين للأحداث التاريخية وفق ما تتطلبه الحاجة، وما تستدعيه الظرفية. فمقابل محدودية الكذب الذي كانت تمارسه القنوات الديبلوماسية التي كانت تراعي سرية العمليات وتلوينات الخداع، فإن الكذب يمارس اليوم على مرأى ومسمع من الجميع، وبصدد أحداث ربما لا تخفى «حقيقتها» على أحد. ويكفي أن نتذكر كذبة القرن الماضي التي صدرت بأعلى صوت، ومن منبر الأممالمتحدة، عن أكبر مسؤول في خارجية أكبر دول العالم، والتي نقلت صورتها عبر شاشات العالم جميعها. وهنا لا بد أن نؤكد على الدور الذي أصبحت تلعبه الصورة في إضفاء طابع «المصداقية» على عمليات الكذب هذه. في هذا السياق تبين ح. آرندت كيف أن عصر الصورة يُصاحب بهوس الإلتصاق بالواقع المباشر: «فكما لو أن إنسان عصر الصورة، الذي يقدس الشفافية، قد تخلى عن كل مثل أعلى قد يكون بالنسبة إليه مصدر توجيه وإكراه، فانطوى على نفسه بعيدا عن أي انفتاح على الخارج، وصار مكتفيا بعالمه الضيق، ملتصقا بالمألوف الذي يعج بتمثلات تلتصق أشد الإلتصاق بالواقع المباشر». هاهنا لايعود الكذب محتاجا إلى صخب وتدليس وإخفاء. إنه يصبح كذبا «سلميا» «ديموقراطيا» في غنى عن «إتلاف وثائق وإحراق مستندات»، ولا حتى «قضاء مبرم على الواقع»، ليكتفي بتفتيت الأحداث وحلها إلى وقائع جزئية تغيّب معناها وتذيب دلالاتها.