« ثغر صباي» هو عنوان قصيدة من قصائد ديوان «أجراس السنديان « للشاعرة والفنانة التشكيلية سناء سقي… سأقرأ هذا النص الجميل… مفترضا أن البعد التشكيلي في التجربة الفنية للشاعرة سناء سقي سيطبع بميسمه الخاص كتابتها الشعرية… مستندا في ذلك إلى اعتقادي الراسخ أن الفنون يتشرب بعضها من بعض… القيم الفنية التي تميز كل فن عن باقي الفنون… أشير بداية إلى أن الفنانة سناء سقي، في جمعها بين الشعر والتشكيل ليست بدعا من أهل الفن… فقد سبق كثير من الشعراء مارسوا التشكيل.. وغير قليل من التشكيليين كتبوا الشعر… سواء في الأدب العربي الحديث، أم في الآداب العالمية. ونذكر من بين أبرز الشعراء الذين جمعوا بين الإبداع الشعري والفن التشكيلي الشاعر الأمريكي الكبير إيزرا باوند… وفي الشعر العربي الحديث نشير إلى أن الأديب الفلسطيني الشهير جبرا إبراهيم جبرا، هو من أكبر الشعراء الذين جمعوا بين القصيدة و اللوحة… تتيح لنا قصيدة « ثغر صباي « الحديث عن علاقة الشعر بالرسم، وعن علاقة القصيدة باللون… فالشعر رسم بالكلمات… والواقع أن حضور اللون قوي في الشعر العربي في كل عصوره، وبمختلف اتجاهاته… وجدير بالذكر أن الرؤية التشكيلية كانت حاضرة في الشعر العربي دائما… وكانت وراء أكبر تحولاته.. فالموشح الأندلسي في أحد أبعاده ليس سوى تصور تشكيلي جديد لطوبوغرافيا القصيدة العربية… ونفس الأمر يمكن أن يصدق على الشعر الحر وقصيدة النثر التي انساق بعض روادها في بداية الأمر وراء اعتماد الخطوط و الدوائر والأشكال والفراغات والبياضات، في رسم القصيدة الشعرية لأن هناك علاقة وطيدة بين الصورة الشعرية و التشكيل… وبسن المعنى الشعري واللون. نستحضر هنا على سبيل التمثيل قول الشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته ذائعة الصيت : بأنا نورد الرايات بيضا # و نصدرهن حمرا قد روينا وقول أبي تمام : بيض الصفائح لا سود الصحائف في # متونهن جلاء الشك و الريب ويتميز ديوان « أجراس السنديان» بأن الشاعرة سناء سقي تضع بإزاء كل نص شعري لوحة تشكيلية… وهي مبادرة فنية لا تحدث إلا قليلا… تنتقل الشاعرة التشكيلية من التواصل مع القارئ بالحروف والكلمات، إلى التواصل معه باللون والتشكيل… فتصير الألوان والخطوط، وتقنية الضوء والظل علامات ذات أبعاد دلالية، ترتبط بالمحتوى العاطفي والفكري الذي تريد الفنانة أن تنقله عبر اللوحة… ولا شك أن قراءة اللوحة التشكيلية تحتاج من المتلقي خبرة جمالية ومرانا بصريا حتى يتمكن من فك شفرة هذه اللوحة… ولا يقع هذا الفك إلا حين يحدث اللقاء بين الخبرة الجمالية للمتلقي، بالخبرة الجمالية للفنان. وبهذا يتحول المتلقي إلى شريك في بناء التجربة الجمالية للوحة… تتميز لوحة « العين» المصاحبة لنص « ثغر صباي» بأن الرهان فيها ليس هو نيل إعجاب المشاهد… ولا حتى إثارة دهشته، وإن كان هذا قد يحدث لاحقا أو ضمنا… لكن الرهان فيها هو إثارة السؤال في ذهن المتلقي… إذ يمكن أن يطرح التساؤل : ما علاقة العينبالصبا وثغره…؟… ولأن اللون هو من أهم مفاتيح قراءة كل لوحة تشكيلية، فإن لوحة « العين» تتشكل من أربعة ألوان هي : الأبيض، الأسود، الرمادي والبرتقالي. يحيل لون السواد في رموش العين المكتحلة إلى الصبا… وحيوية الشخص في صباه و طفولته… وما تتضمنه من جمال وحيوية وإقبال على الحياة… في حين يحيل لون البياض على المشيب الذي يمثل أفق كل حياة لكل شخص… وبياض الشيب يرمز أيضا إلى النور الذي يشير إلى حصافة الرأي التي يصل إليها الإنسان في مرحلة المشيب، بينما يمثل اللون الرمادي السياق الزمني والنفسي لتجربة التحول من السواد إلى البياض… من سواد الصبا، إلى بياض المشيب لأن الرمادي ينتج عن مزج اللونين الأبيض و الأسود في الوقت الذي يدل فيه اللون البرتقالي المشوب بصفرة، على الاحتراق والتوهج. و هذا ينسجم مع دلالة الرماد الناتج عن اشتعال الشيب في الرأس… ويذكرنا هذا بالآية القرآنية الكريمة « و اشتعل الرأس شيبا.. « إن لوحة العين باعتبارها تشكيلا فنيا، جاءت تعضد الدلالات النفسية والعاطفية والفكرية التي شحنت بها الشاعرة نصها الشعري.. إن رمزية الألوان في اللوحة دعامة فنية لرمزية الحروف والكلمات في النص، وهذا تصديق لرأي الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي كان يؤكد أن العلاقة بين اللغة و الرسم، علاقة لامتناهية… وبعودتنا إلى القصيدة « ثغر صباي» نجدها تبتدئ بإشارة لونية قوية، تضمنتها العبارة الشعرية « يكتحل مغزلي» . ففضلا عن وظيفة الانزياح الدلالي التي أدتها العبارة بإسناد الاكتحال إلى المغزل الذي يرتبط عادة بغزل البياض… فضلا عن ذلك سترسم هذه الإشارة اللونية السوداء شبكة سيميائية من المداليل التي ستوجه القصيدة نحو أفق سوداوي. اتضح بعض هذا في قول الشاعرة « بخيوط سود»… وسيظل طيف السواد حائما فوق النص في غير ما مناسبة. فللرماد نسب معين إلى السواد في عبارة « يعشق رمادي» . وتشير كلمة « الجون» في عبارة « جون الخلود» إلى لون السواد، لأنها من المشترك اللفظي الذي يدل على المعنى ونقيضه مثل لفظ « الجلل» الذي يدل على الأمر الخطير، وعلى الامر الحقير في ذات الوقت… ويجد لون السواد صداه في خاتمة القصيدة في قول الشاعرة « يا صباي الشبيه بمقلتيك»…فعادة ترتبط المقلتان بسواد العين. ومن جهة أخرى، يلاحظ القارئ النبيه بقليل من الحصافة، أن لون السواد ينشر ظلاله في النص عبر حضور معان شعرية تنسجم معه وتعضدهمثل معاني الرماد، السراب، الألم، الجنون و الوداع… وهي كلها مفردات معنوية شكلت النسيج الدلالي للنص الشعري. في نهاية هذه الورقة، أود أن أعود فأذكر بالفرضية التي انطلقت منها، وهي أن الشاعرة سناء سقي، بوصفها فنانة تشكيلية، يتسرب ماء التشكيل في جداول النصوص الشعرية التي كتبتها والتي ستكتبها. وقد حاولت هذه الوقفة المتعجلة من نص « ثغر صباي» أن تؤكد صدقية تلك الفرضية، وأن تبين جانبا من جوانب أسلوب الشاعرة سناء سقي في كتابة بوحها الشعري بالقلم و الريشة.