قدر الشعراء في بلادي أن يعانوا الهشاشة العاطفية مقرونة بالهشاشة الاجتماعية، وأن يعبروا جسر الحياة خفافا كأثر الفراشات الذي كتب عنه محمود درويش: أَثر الفراشة لا يُرَى أَثر الفراشة لا يزولُ هو جاذبيّةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلُ حين يتَّضحُ السبيلُ وها قد رحل عنا أمس، زميلنا عبد الحميد بنداوود، بعد أن اتضح السبيل، وضاقت العبارات. مر الأمس الجمعة 31 ماي 2019 كئيبا داخل هيئة التحرير بعد أن نزل الخبر الصادم في الساعة العاشرة والنصف صباحا: لقد رحل الزميل والشاعر والحكيم عبد الحميد بن داوود، بعد 4 أيام على تشخيص وضعه الصحي ووصول آخر التحاليل الطبية من الخارج، مؤكدة أن المرض الشرس قد فتك بجل أعضاء جسمه الذي لا يحتمل الالم، هو الجسد الذي لم يعبر مسامه يوما إلا الفرح ، فرح كان يقطره حتى من قارورة الألم أحيانا، قبل أن ينتهي نهاية رجل شجاع. في ديوانه الوحيد «التشظي» الصادر عن وكالة شراع والذي نشره بعد إلحاح استمر سنوات من زملائه ومحبيه، بث عصارة تجاربه في الحياة والتأمل الواعي، في مزج خلاق بين رؤية الفليسوف وعمق الحكيم، وروح الشاعر، كلٌّ جَمَعه مصهورا بسخرية سوداء تنصب شباكها للقارئ كي يندمج في التجربة فتصيبه عدوى السخرية من هذه الحياة التي تسير على رأسها، بما يجعل تجربته تتجاوز الإغراق في الذات متوجهة الى الآخر، جاعلة منه المركز والشعاع . أذكر أنه كتب ساخرا في تشظياته:» مرة جمعت كل جراحي وحقائبي، واقتنيت من الحلم زورقا، ألقيت به في الكأس، وشرعت أجذف وأجذف وأجذف، محاولا الفرار مني». اليوم، يفر شاعر الشذرة عبد الحميد الى مثواه الأخير، مؤمنا بأن» ليس الموت هو الحقيقة الأولى ولا الحقيقة الأخيرة.. ولكنه الحقيقة الدائمة» ( من ديوانه التشظي). التحق ابن تازة في بداية مشواره الصحفي بجريدة «العلم» لفترة قصيرة ، ثم انتقل الى جريدة «البلاغ المغربي» ليستقر بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» التي التحق بها في1 فبراير 1990 إلى أن تقاعد منها ، وهو يشغل مسؤولية مدير مكتب الرباط بها في 31 دجنبر 2018. طيلة مدة اشتغاله بالجريدة والتي بلغت 28 سنة، برع الراحل بن داوود وأبدع في مختلف الأجناس الصحفية من العمود إلى الافتتاحية، الحوار والربورتاج والمتابعة والقراءة النقدية. صدر له ديوان واحد «التشظي»، اختار أن يعكس من خلال عنوانه سيرة التشظي التي كان يحياها، والتي كانت عبارة عن تشذر بين الهنا والهناك، بين الألم والفرح ، بين الفشل والنجاح، بين جمر حكايات الهامش وأوجاع الناس، هو الذي كان يمشي بين الناس بسيطا، ضاحكا يوزع الابتسامات بسخاء، فيما كان كان مقلا ومقتصدا في كتابة الشعر أو بالأحرى في نشره ، هو الذي كان يؤجل العديد من أحلامه الى حين، وهي دعوة مفتوحة للجهات الوصية ولأصدقائه ومحبيه لجمع ما نثره طيلة مساره في الكتابة ونشره تكريما لروحه الشفيفة. وداعا زميلنا وشاعرنا عبد الحميد بن داوود القائل «أحمل همومي على نعش، وتحملني همومي إلى حتفي». حتف قاس لاراد لقضاء الله فيه.