الخارجية السويسرية توجه صفعة جديدة للبوليساريو..    مندوبية التخطيط تسجل ارتفاعا في أسعار مواد الاستهاك    الحكومة تتوقع استيراد 600 ألف رأس من الأغنام الموجهة لعيد الأضحى    انطلاق مراسم تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي    والدة كليان مبابي تخرج عن صمتها بخصوص مستقبل إبنها    نجم ريال مدريد يعلن اعتزاله اللعب نهائيا بعد كأس أوروبا 2024    الاتحاك الإفريقي يدين الأحداث التي أعقبت لقاء نهضة بركان والزمالك    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    شاب مغربي آخر ينضاف للمفقودين بعد محاولة سباحة سرية إلى سبتة    الشامي يميط اللثام عن الوضع القاتم ل"تزويج القاصرات"    بسبب النصب والاحتيال.. القضاء يدين مستشار وزير العدل السابق ب"10 أشهر حبسا نافدا"    أمن فاس ينهي نشاط شبكة إجرامية متورطة في التزوير واستعماله وحيازة وترويج مركبات بشكل غير قانوني    ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي يكرم مبارك ربيع وخناتة بنونة وسعيد بنكراد وأمينة المريني في مدينة الدار البيضاء    أكثر من 267 ألف حاج يصلون إلى السعودية    أزيد من 267 ألف حاج يصلون إلى السعودية    الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بأكادير تحطم الرقم القياسي في عدد الزوار قبل اختتامها    تحضيرا لاستقبال الجالية.. انطلاق اجتماع اللجنة المغربية الإسبانية المشتركة    تصفيات المونديال: المنتخب المغربي النسوي يواجه زامبيا في الدور الأخير المؤهل للنهائيات    إميل حبيبي    مسرحية "أدجون" تختتم ملتقى أمزيان للمسرح الأمازيغي بالناظور    في مسيرة احتجاجية.. مناهضو التطبيع يستنكرون إدانة الناشط مصطفى دكار ويطالبون بسراحه    اجتماع تنسيقي لتأمين احترام الأسعار المحددة لبيع قنينات غاز البوتان    مساء اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية: أكنسوس المؤرخ والعالم الموسوعي    صدور كتاب "ندوات أسرى يكتبون"    الاتحاد الأوروبي يعلن عن تقنين استخدامات الذكاء الاصطناعي    بلاغ صحافي: احتفاء الإيسيسكو برواية "طيف سبيبة" للأديبة المغربية لطيفة لبصير    هاشم بسطاوي: مرضت نفسيا بسبب غيابي عن البوز!!    غير مسبوقة منذ 40 سنة.. 49 هزة أرضية تثير الذعر في إيطاليا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    المغرب يسرع الخطى لإطلاق خدمة الجيل الخامس من الأنترنت استعدادا للمونديال    تراجع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثير الفائدة الأمريكية على الطلب    "الفاو"‬ ‬تفوز ‬بجائزة ‬الحسن ‬الثاني ‬العالمية ‬الكبرى ‬للماء ..‬    نقاد وباحثون وإعلاميون يناقشون حصيلة النشر والكتاب بالمغرب    حوار.. وادي ل"الأيام 24″: التفكير في شراء أضحية العيد يفاقم الضغوط النفسية للمغاربة    رئاسة النظام السوري تعلن إصابة زوجة بشار الأسد بمرض خطير    فلسطين تحرر العالم!    اجتماع تنسيقي لتأمين تزويد المواطنين بقنينات الغاز بأسعارها المحددة    49 هزة أرضية تضرب جنوب إيطاليا    صلاح يلمّح إلى بقائه مع ليفربول "سنقاتل بكل قوّتنا"    نجم المنتخب الوطني يُتوج بجائزة أحسن لاعب في الدوري البلجيكي    فيديو "تبوحيط محمد زيان".. أو عندما يَنجح محيط النقيب السابق في إذلاله والحط من كرامته    نقابة التوجه الديمقراطي تدعم الإضراب الوحدوي للأطر المشتركة بين الوزارات    أزمة دبلوماسية بين إسبانيا والأرجنتين بسبب زوجة سانشيز    أمل كلوني تخرج عن صمتها بخصوص حرب الإبادة بغزة    "الكاف" يُدين أحداث نهائي كأس الكونفدرالية بين الزمالك وبركان    رغم خسارة لقب الكونفدرالية.. نهضة بركان يحصل على مكافأة مالية    تفاصيل التصريحات السرية بين عبدالمجيد تبون وعمدة مرسيليا    الصومال تسلم المغرب مواطنين محكومين بالإعدام    لقجع: إخضاع صناديق التقاعد لإصلاحات جذرية يقتضي تفعيل مقاربة تشاركية    مرافعة الوكيل العام تثير جدلا قانونيا بين دفاع الأطراف في قضية بودريقة ومن معه    أكاديميون يخضعون دعاوى الطاعنين في السنة النبوية لميزان النقد العلمي    الأمثال العامية بتطوان... (603)    تحقيق يتهم سلطات بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوث أودت بنحو 3000 شخص    المغرب يضع رقما هاتفيا رهن إشارة الجالية بالصين    معرفة النفس الإنسانية بين الاستبطان ووسوسة الشيطان    شركة تسحب رقائق البطاطس الحارة بعد فاة مراهق تناوله هذا المنتج    لماذا النسيان مفيد؟    أطعمة غنية بالحديد تناسب الصيف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللعب مع المنية : «كفن للموت» لعبد الرزاق بوكبة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 18 - 06 - 2020

مبدع متعدد وكاتب خارج التصنيف،يكتب بنفس الشغف والدفء في الشعر كما في القصة،في الرواية كما في المسرح..ولفرط عشقه للكتابة يحمل دوما ريشة بحنو ورفق طيلة الوقت..ربما لمنحه ونسا وتوازنا في عالم مختل..ريشة تذكرني دوما بما قاله جوستاف فلوبير»أنا إنسان-ريشة،عن طريقها وبسببها وفي علاقة بها أحس،وأكون كثير الإحساس معها.»(1)كاتب حركي وكثير التنقل في المكان والزمان ،فهو مفتون باستدعاء التراث والتفاعل معه،تماما كما هو كثير التنقل من جنس أدبي لآخر ومن تقنية سردية إلى أخرى.كاتب بخافق طفل وروح محب جامح وعقيدة مناضل راديكالي.وربما لهذه الأسباب كلها انتزع الاعتراف بقيمة إبداعاته من خارج الجزائر..يكفي ذكر اسمه في أنطولوجية أدبية صدرت في بريطانيا، وصدور أغلب أعماله بدور نشر خارجية(الأردن،مصر،المغرب..).
هو القادم من قرية صغيرة إلى العاصمة حيث الأضواء والمتاهات،ملاهي لم تحل دون وفائه «لأولاد جحيش»الرحم المجالي الأول الذي رأى فيه النور وترعرع فيه ، والذي خصه برواية»جلدة الظل». فقط تجدر الإشارة إلى أن تنقله إلى المدينة كان فادح التبعات ،تنقل جعله يعيش ظلم الإقصاء من مؤسسة رسمية حيث أضرب عن الطعام مفضلا الموت على عيش تجربة المهانة والإبعاد.. لكنه بهذه التجربة ومن خلالها قوى مناعته في مواجهة تجار المناصب وظل متصالحا مع ذاته.ففي العاصمة خبر زيف العلاقات، وأدرك أن وظيفة اللغة الأساسية هي الخيانة..لهذا فضل التحصن بقيم القرية والكتابة أساسا التي يمكن القول أنها أنقذته من الانتحار .ولربما لصعوبة تكيفه مع قيم «المدينة» أكثر من الترحال..أمر جعله يعتبر أدب الرحلة أقرب الكتابات إليه.يقول في إحدى حواراته:»الأماكن أرواح و الذي لا يتعامل معها بصفتها أرواحا لا يستفيد من رحلاته أبدا..فالأماكن لا تمنح أرواحها أبدا لكاتب استعراضي.»
جاء للسرد من الشعر ،مجيء لون محكياته بحس شعري واضح.. هو الوفي لرهانات التجريب وهو أمر واضح من عتبات أعماله يكفي تأمل العناوين التالية»نيوتن يصعد للتفاحة»و»عطش الساقية»و»كفن للموت»..عناوين مفارقة وبسبب ذلك تخلق الدهشة في تلقيها بسبب طرحها السؤال عن معانيها المخبأة بعناية..يبقى الكتاب القصصي»كفن للموت»أكثر أعماله ترجمة لعدة لغات بما في ذلك اللغة الكراوتية.كتاب قصصي جرب فيه إشباع الموت حياة بالكتابة وجعل المنية لحظة عبور لا محطة توقف..فهو القائل»أحس وأنا أكتب أنني أراوغ موتي لذلك أشبه ذلك الأرنب الهارب من صياده لا يعتمد الخط المستقيم،وهو يهرب حتى ينجو.»
خلفية جمالية وأطروحية جعلت منه اسما جزائريا نقش من معاناة وشغب تجريبي واضح .وإن كان يبدو للبعض كاتبا مهادنا وبالغ الشفافية من خلال حياته المعلنة على شبكات التواصل الاجتماعي ، والحال أن مجمل كتاباته في العمق هي بيانات منددة بمسلكيات جارحة يكفي استحضار عمله»يدان لثلاث بنات» تجربة انتصر فيها للأنثى –باعتبارها واهبة الحياة-نكاية بوأد البنات وهو تقليد عربي/جاهلي بائد.
قضايا في غاية السخونة توسل لها تقنيات سردية مستمدة من الواقع نفسه. قال في تصريح لموقع أنفاس بريس على هامش مشاركته في ملتقى قصصي مغربي» لقد نزلت رفقة القاص أنيس الرافعي إلى أسواق المدينة،ليس بحثا عن حكايات،بل عن تقنيات من شأنها أن تخلص القصة من رتابتها، وتفتحها على أقاليم أصيلة وعذراء في الوقت نفسه.قلت لشخوص قصصي القادمين: استفيدوا من طريقة الخياط في لم الخيوط من غير أن تتداخل فيضيع النسيج،ومن طريقة العرافة في اقتناص الدرهم/ المعنى من سائح عابر يدفع من أجل الوهم،فهل القصة إلا وهم تقدمه اللغة»(2)


يتوزع الكتاب القصصي «كفن للموت» الصادر عن دار العين على 132صفحة..وتسميته بالكتاب القصصي راجعة لاشتغال القاص على تيمة واحدة وهي الموت..وهنا يتضح الاشتغال المفكر فيه قبل بدء فعل الكتابة والأمر مختلف عن المجموعة القصصية التي يتم فيها تجميع قصص كتبت بشكل عفوي واشتغلت على قضايا لا رابط موضوعاتي بينها .أما كتاب»كفن للموت»فقد اتصف إضافة لاشتغاله على جرح الموت حصرا بعدة خاصيات شكلية.
1 – بنية وحجم قصص
«كفن للموت»
1-أ-أسئلة البياض.
أغلب قصص هذا الكتاب القصصي لا تتجاوز صفحة واحد بل هناك قصص لم تتجاوز السطر والنصف وهي على التوالي:خبر عاجل،الأرجوحة،فلاش باك،نبض خاص،ورقة محروقة،حركة أولى،حركة ثانية،حركة أولى مكررة،حركة الحومة،حركة الشرفة والأرجوحة،حركة مدخل العمارة..وحوالي ثماني قصص فقط هي التي قاربت الورقة والنصف(وحجم الورق صغير) وهي:القصة أولا،الهاتف، ورقة مهربة،الحذاء،حلبة اعتراف أولى،ورقة الحيرة،الفيس بوك،الستار،الرسالة. والغاية من هذا الجرد الإحصائي الأولي هي الإشارة إلى كم البياض الهائل الذي تسبح فيها نصوص هذا الكتاب القصصي..بياض طرح علينا جملة من الأسئلة ومنها:هل الكتابة بالبياض قدرة أم عجز،مواجهة أم هروب،جرأة أم خوف، حضور أم غياب ؟وأين تكمن صعوبة إيصال البياض:هل في غرابة معناه عن القارئ التقليدي أم في مجانيته عند بعض الكتاب؟ومتى يمكن اعتبار الحبر والبياض في اشتباك دال بغاية إعطاء الورقة إيقاعا بصريا ودلاليا؟وإذا كان الصمت ملونا للكلام فهل يمكن اعتبار المعادلة صحيحة في مقام الحبر والبياض؟وهل البياض دلالة على حيرة الكاتب، أم دلالة على عجز الكلمات في قول أحشائه؟وبأي معنى حضوره يشوش على رسالة القص؟وهل حضور البياض تعطيل للكتابة أم قول لها بالمحو؟وبأي معنى يمكننا اعتبار البياض نصا موازيا وهاربا من قبضة اللغة؟وإذا اعتبرنا البياض آلية للكتابة هل تتساوى قوتها التأشيرية مع الحبر؟وهل دواعي الكتابة بالبياض جمالية صرفة أم سياسية واجتماعية؟وهل حضوره مجرد تقليد لتجارب غربية أم هو نابع من قلق جمالي محلي؟
في هذا الكتاب القصصي استمد البياض قيمته من الموت باعتباره غيابا يشترط الكفن أولا ..كما يمكن اعتبار صمت القصص عن تشريح ملابسات الموت بدقة، غايته توريط القارئ في قول ما سكت عنه القص.البياض هنا ليس صدقة تكرمت به الورقة ولكنه غاية بقصد إشعار القارئ بوجع الغياب وتبعات المنية.فاصطدام عين المتلقي بالبياض مخيف..سئل ذات مرة الكاتب الأمريكي الكبير إرنست هيمنغواي-وهو الذي اشتغل كمراسل حرب عن أكبر مخاوفه فقال:»التحديق في ورقة بيضاء.»
في واقع الأمر فجيعة الموت ووجع الفقدان المتخيل جعلت القاص عبد الرزاق بوكبة يكتب بالمحو بدل الحبر وهذا رهان جمالي يود قول الكل بالجزء. رهان يحاول تخليص القصة من غلو الخطاب وتنقيته من الزوائد على اعتبار أن « الصمت في دلالته الجوهرية،فعل تلفظ بالغياب،مندرج في الخطاب بعلية سياقية،وخلافا لأفعال الكلام والكتابة التي تتجسد بالنطق والكلمة،لا يولد فعل الامتناع عن الكلام ملفوظا لسانيا، وإنما يحدث فراغا نصيا ونقصانا يكون جزءا أساسيا في التأليف وتكون له دلالة تعادل دلالة الكلام المتحقق أو تفوقه.»(3)ترى ماذا يمكن قوله بعد إعلان القاص نفسه عن موته الخاص بسكتة قلبية في قصة»خبر عاجل»وماذا يمكن القول بعد لدغة الأم المتخلقة من خافق ثعبان لابنها الذي فكر في زيارة قبرها في قصة»مشهد حي.»بالنتيجة اشتغال هذه الكتاب القصصي على البياض هو هندسة جديدة لمساحة الورقة كوسيط بلاغي لإنتاج المعنى.ورقة تنتج معناها بالحبر كما البياض ولذلك فهي ضد ثقافة الامتلاء حيث البياض يقول ما لم تتعود الكتابة على قوله.ولهذا أتصور قارئ حبر هذه القصص دون بياضها، قارئا أعمى. يقول عبدا لله راجع في ذات الأفق وبنفس الخلفية تقريبا:»كم نحن في أمس الحاجة إلى عين غير مدجنة لتكتشف داخل الصفحة حقلا قابلا للتوزيع والتشكيل بحيث يمكن للأرضية-البياض أن تصبح في بعض الأحيان بديلا عن الشكل-الحبر،بل وقد تمددت دلالتها لتتحول نطقا،في حين يتقلص دور الحبر ليصبح مجرد صمت أو نزوعا إلى الصمت.»(4)
1ب- أسئلة الكتابة الشذرية
من الطبيعي جدا أن يستدعي البياض الشذرية والإيماض..فمجمل قصص هذا الكتاب القصصي بحجم كف اليد.قصص كتبت بالمحو وبلاغة الندرة. وهي كتابة شذرية تشكك في الخطابات المطولة والمطلقة وتضع العقل في مأزق.قصص تتمرد على القيود وضوابط القصة التقليدية لتوسع هامش حريتها..قصص تورط القارئ في قول معناها لأنها في العمق تنظر للعالم من ثقب الباب..وهذا ما يفسر افتتانها بالمتناهي في الصغر..لنتأمل قصة»نبض خاص»:أحس باللذة في رجليه،وهما تلتهمان تراب الطريق،وبالوجع في قلبه،كأن فيه جنينا يرغب في الخروج.»فاشتباك اللذة بالألم يحيل على هذا الزوج المفاهيمي الذي يحرك مجموع سلوك الإنسان..فهما من صميم الطبيعة البشرية..فبدون الألم ما كنا لنعرف قيمة اللذة.الأمر هنا أشبه بالنار التي تنقي المعادن النفيسة من الشوائب وتصفي لونها وتجانس مكوناتها.والقصة تخبر أن تجاور اللذة بالألم من صميم الطبيعة البشرية.. فقط فكرة تمثل الرجل نفسه في حالة حمل مثيرة للانتباه وهي تعيد للأذهان وفرة من المبدعين الذين يضعون أيديهم فوق بطونهم ويخبرون أصدقاءهم بوجع قصة أو قصيدة في لحظة مخاض وعلى وشك رؤية النور..والأمر هنا يقلب جذريا صورة فرويد التي تصور المرأة مفتونة بتقليد الرجل..
إن قصص»كفن للموت» بتوسلها الكتابة الشذرية تكون قد فتحت جرح تصدع الذات المطمئنة للمكتمل وتشقق الزمن المغلق.كتابة تمجد النقص واللاكتمال وتعري جراحنا علنا نشفى منها ..قصص قلقة وغير واثقة في أي شيء.قصص مغامرة وصادمة لأنها لا تقفز على جرح الموت محتفية بالبياض لأنها تدرك عجز اللغة في قول الذات بكل أبعادها، وهي بذلك تقع في قلب التجريب الذي يجعل من القصة متنا غجريا ومسافرا باستمرار نحو أمداء بكر. شذرية تجعل الحكي ملتبسا وجامعا بين العمق والامتداد، بين الضيق والاتساع.شذرية بنيت على هدم القص المكتمل والحكي التام.
إن تجريب الكتابة الشذرية كآلية تبالغية يمنح فرصة مساءلة تقنيات الكتابة المكرسة، ويقترح نظائر جديدة في قول الذات.فحجم القصة ومتخيلها ولغتها التلغرافية تحيل على التواصل في مرحلة الطفولة المبكرة حيث تعبير الطفل يحضر دوما منقوص النعوت والصفات، وكأني بالكتابة الشذرية تعيدنا لطفولة الحكي..مع وجوب الإشارة إلى أن الطفل والمبدع لاعبان بارعان بمشمولات الوجود..الطفل يلعب بلعب فعلية، والمبدع يلعب باللغة ومعها ومن خلالها يبحث عن إعادة صنع عالم لم يقل من قبل..إن شذرية قصص هذا العمل لا يمكن اختزالها في بعد جمالي صرف، ولكنها تعيد للواجهة نقاشات حول موت خلان أصفياء أجبرنا على نسيانهم تهيبا من عودة المنية في حال ذكرهم..
2 -أطروحة قصص «كفن للموت»
ثمة خيط ناظم لمجمل قصص هذا العمل وهو الموت.غير أن المفارقة بانكتاب الموت والكتابة عن الأموات تسحب عنهم صفة الموتى بما في ذلك موت الزبير بن نجمة و سارة الأشهب لسبب بسيط أن الميت هو الذي غادر ذاكرة الأحياء ..وما موتهما المتكرر وعودتهما إلى سطح القصص إلا انتصارا للحياة..ويمكننا الوقوف مطولا عند إعلان القاص عبدالرزاق بوكبة عن موته المحتمل في قصة»خبر عاجل»ص31:»الكاتب عبد الرزاق بوكبة يصاب بأزمة قلبية مفاجئة في مركز الشرطة.»أولا دخول اسم القاص لعالم السرد يكسر وهم واقعية المحكي-وثانيا وهذا هو الأهم-هذه القصة تطرح علينا سؤالا في غاية العمق:هل يموت الكتاب حقا؟
نعلم جميعا أن الموت يعد عملية محو لكل ما يعترض سبيله باستثناء الكتابة، إذ أن قراءة سواد حبر الميت وبياض أوراقه يعيد الحياة لأثره الكتابي.بالكتابة يسترد الكاتب الميت حياته مع كل جلسة قرائية. الكتابة بهذا المعنى لعب مع الموت، سخرية من الزمن، هزء من الرحيل الأخير.الكتابة إقامة في اللغة وسباق مع الوقت الآتي، تمظهر لرغبة البقاء، وتمرد على الصمت وإعلان عن حضور الذات.. إن الموت يبدو لأول وهلة غير عادل لأنه يأتي في الغالب بعد نضج الأفراد ذهنيا وجسديا ،لكنه في العمق فعل ديموقراطي يساوي بين جميع الناس. لايقهره سوى الكاتب الذي يعطي حياته بفضل الكتابة تحديدا، عمرا إضافيا.والقاص عبد الرزاق بوكبة وهو يكتب موته المحتمل يخالف بعض الكتاب الذين يكتبون في العادة عن موت الآخرين..ربما لأنهم تعودوا الحديث عن الموت بصيغة الغائب كقولهم:آه لقد مات..لكن قصة»خبر عاجل»تطرح علينا سؤالا مركبا:هل كتابة الموت شيء ممكن؟ أليس الموت كانفصال لحظة تقع خارج المعنى لأنها انتفاء لكل خطاب؟وهل حقا أن الموت وحده يقول حقيقة الحياة؟قديما قال كونفسيوس:»إننا لا نعرف أي شيء عن الحياة فما بالك بالموت؟».لكن خلافا لمن يعتبر الكتابة تغييبا للموت ،يرى الفيلسوف موريس بلانشو أن الكتابة والغياب صنوان حيث قال:»عندما أتكلم أنفي وجود ما أقول،لكنني أنفي وجودي أيضا». في تصور هذا المفكر الكلمة تنوب عن الواقع لكنها ليست الواقع، وبالتالي تصبح الإقامة في الكلمات منفى والكتابة غيابا..ولعلها مفارقة أن هذا الفيلسوف تحديدا هو الذي تأمل طويلا ومليا الموت، عاش ما يقرب من القرن…
إن تأمل الموت من داخل الكتابة كما في قصة»خبر عاجل»جعله أقل صدمة وإيلاما لأننا في الأدب نستطيع رسم شخصية لا تخشى الموت وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها،وأخرى لاتخشى الموت ولكنها تختاره لغيرها.. ولربما بكتابة الموت نقلل من صدمة رؤية جثة الميت التي تجسد اللحظات القصوى لاكتمال القسوة.فإذا كانت الإقامة البيولوجية في الموت مستحيلة لأن العقل يرتفع والجسد يتحلل، فإن الكتابة تمنحنا حظوة مصاحبة الموت باعتباره الدرجة الصفر في التلذذ(5) . في قصة»الهاتف»يرفض الزبير موت خليلته التي أعلن عن موتها وهي على متن الطائرة.. فيضع الهاتف أمامه كي يرن صوتها..يقول السارد في ص20:»لم أوافق حينها على أنها تموت أصلا ،وهذا ما أفعله الآن.هل نسيت أيها الهاتف أنني أنتظر رنتها؟وسوف ترن.هل تراهن؟كن أنت من يحدد الصيغة(…)كأنه لم يصدق ما رأى:سارة محلقة في صندوق خشبي،وأفراد شرطة يطالبونه بالتوقيع على محضر استلام الجثة.»في هذه القصة يجمع الموت بين الشك واليقين..وفي واقع الأمر كلنا نتعامل مع الموت كذلك حيث نعرف أننا سنموت ولكننا نصدق كذبة الحياة. صحيح أننا لا نعرف لا متى ولا كيف لكن انتظاره يولد كما هائلا من الأسئلة من قبيل:ماذا بعد؟وهل سنعود؟وبأي شكل ومتى؟وهل الوعي بالموت دافع لعيش الحياة بملء الانتشاء أم بانكسار وانكفاء على لحظة الفناء؟ أسئلة حملت الكتاب على مساءلة مفهوم الزمن البيولوجي للفرد وسبب محدودية عمره..خلفية جعلت من الموت جرحا محفزا على ترك الأثر باعتبار الكتابة تشبع الموت حياة..غير أن مفارقة الزبير كمنت في كونه رفض موت سارة دونه..فهل هذا يعني أننا لا نعرف أن نحب إلا إذا ضمنا الحياة لمن نحب؟ فإحدى مفارقات الموت هو أنه فردي وعام في ذات الآن.يعيشه كل فرد على حدة ولكننا جميعنا نكتسب خبرة الموت من خلال موت الآخرين..إننا نعرف جميعا أننا سنموت ولكننا لا نعرف زمن الفعل وشكله..بمعنى أننا لا نعرف على وجه الدقة ماذا سيقع وكيف..فمجمل السيناريوهات هي مجرد حدوس.صحيح أن الإيمان بالبعث يصور الموت حدثا عارضا ويجعل فجيعته محتملة جراء تصوره للزمن بشكل دائري..لكن القاص يرى فيه مجرد لحظة عبور وليس محطة توقف..ففداحة الموت نابعة من كونه محايثا لكينونتنا الأمر الذي يدفع الإنسان لاجتراح أجوبة عدة ومنها الحب،الغرق في اللذة وما إليه.. غير أن القاص اختار الكتابة كجواب لجرح الموت المستعصي على الفهم. بالنتيجة»الموت فعل فردي لا يتكرر ولا ينوب فيه شخص عن الآخر.»(6) ولهذا بالضبط هو مرعب علينا الاستعداد له لا انتظاره.
في قصة»ورقة الحيرة»يحدث لزائر مقبرة بمجرد دخولها خروج كل الأموات من قبورهم «حاملين أوراقا كتبت عليها عناوينهم السابقة، وتحتها رسائل طلبوا منه أن يوصلها إلى أهلهم.(ص66)تذكرنا هذه القصة أن الموت يزورنا كل يوم وبالتالي نحن نموت بالتدريج إلا ذا اعتبرنا الموت هو ذاك الرقاد الأبدي الطويل الأمد..والموت التدريجي يؤكد أنه متجذر فينا لأن الشخص الذي كنته بالأمس مات بالتأكيد لكن مع ذلك أبقى مدينا له بما أنا عليه اليوم. ربما كان التفكير في الموت ملهما للإنسان ومحفزا له على فهم التباسه، وإيجاد أجوبة ملينة لوجعه..ولعل انكتابه كما في هذا الكتاب القصصي ملطف لصدمته..الكتابة التي تسمعنا ذاك الآخر الموجود في دواخلنا..الكتابة عنه بهذا المعنى وسيطا لحماية رغباتنا اللاواعية من القمع والكبت والمحو..بالتالي قصص هذا الكتاب يمكن اعتبارها لعبا قصد نسيان ذاك الألم القادم من المستقبل والمترسب في الأعماق..إنه الموت..تقول كلوديت كرمبير»إن الموت بالنسبة للإنسان،ليس فقط حدثا بيولوجيا،بل إنه كذلك حدث نفسي موسوم بالخوف من المجهول، فأن لا تهتم حقيقة بمشكل الموت فهذا يعني تجاهلا منا لأسباب الحياة.»(7).
قد يحدث أن يكتب شخص حي عن شخص ميت وهو أمر طبيعي.. لكن أن يكون الكاتب والمكتوب عنه منتسبان في الآن نفسه للموت والحياة فهذه قمة السخرية من الموت كما وقع في عدة قصص هنا لعبد الرزاق بوكبة..فكتابة شخص حي عن آخر ميت تعني أن الموت والحياة متلازمان ولا معنى لأحدهما دون الآخر.فهما يتناقضان ويتكاملان في الآن نفسه.لكن هل يتفوق الحي حقا على الميت أم العكس؟ألا نخسر نحن الأحياء ما ربحه الميت من مشاعر وهو يفارق الحياة؟هذا الخسران الفادح لا يمكن تعويضه إلا بالكتابة.إذ بها نصنع ذاتا سرمدية نكاية بالذات البيولوجية السريعة العطب.
في قصة»خبر عاجل شكل وجبة دسمة في الفيس بوك»يقوم الكاتب عبد الرزاق بوكبة بقتل نفسي لذاته واصفا إياها بالسرقة الموصوفة لنصوص شكلت لحمة»كفن للموت»لكنه سرعان ما عاد وأحياها في شذرات لاحقة..لنتأمل السياق التالي ص123:»الكاتب عبد الرزاق بوكبة يسطو على مخطوط لكاتبين هاويين يسميان الزبير بن نجمة وسارة الأشهب،وينشره باسمه تحت عنوان «كفن الموت» إن القاص وهو يقتل نفسه رمزيا يجرب فعل الموت الذي لا يتكرر. ولأنه فردي ويقع مرة واحدة، فهو يزلزل اطمئنانا جميعا..إن القاص وشخوصه بتجريب هذا الفعل يرومون لاشعوريا تحقيق الخلود..وإن كانوا يعون تماما أنهم بمجرد ولادتهم يقتربون من الموت كما كل الأفراد.
نخلص إلى أن هذا الكتاب القصصي بجعله من الموت تيمة محورية، يتماس مع لفيف من الفلاسفة الذين جعلوا من الموت مهنتهم واعتبروا التفلسف في العمق ماهو إلا فن تعلن الموت..وعلى رأسهم سقراط الذي فضل الموت معتقلا في أثينا على العيش حرا خارجها وبذلك بنى مجدا لذاته وعاش عمرا أطول من عمره البيولوجي، غير أن فرادة أبطال هذا العمل بما في ذلك الزبير وسارة رفضا الانصياع للموت واعتبارا موتهما لم يحن وقته بعد وإن كان القول بموت بأوان لا معنى له. فالموت لا زمن له، بل ولا حاجة له لمبرر كي يحضر بيننا..فزاوية النظر محددة بشكل دقيق لماهية الموت.فالزبير مثلا نظر للموت باعتباره ملهما في الوقت الذي قد ينظر له آخر قوة مدمرة..بالكتابة والانكتاب تحدى بوكبة وشخوصه الموت.. وعلى حد قول الشاعر:
الخط يبقى زمان بعد كاتبه /// وكاتب الخط تحت الأرض مدفون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.