تشكل الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة فرصة لرؤساء وملوك وقادة دول العالم لطرح رؤاهم وأفكارهم التي تلامس الهموم المحلية وتنطلق نحو عالم أكثر انسجاماً وأكثر أمناً واستقراراً. وقد تم تخصيص هذه الدورة موضوع التنمية البشرية المستدامة، وكانت الكلمة الهادفة والمميزة التي ألقاها جلالة الملك محمد السادس محط اهتمام السياسيين ووسائل الإعلام، لأنها كانت واقعية ونابعة من آلام وتطلعات شعوب العالم النامي التي ماتزال تعاني آثار الاستعمار الأوروبي البغيض الذي جثم على صدورها وتسبب في إلحاق كوارث اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة بها، وماتزال هذه الشعوب تتعرض للتدخلات المستمرة من قبل تلك الدول التي تدعي الريادة في الديمقراطية وحقوق الإنسان فتعمل على فرض مفاهيمها ورؤاها على الشعوب الضعيفة والهدف هو استمرار هيمنتها وبما يحقق لها دوام نهب ثروات وخيرات تلك الشعوب. وتتصرف الدول الغربية دون مراعاة لقواعد الشرعية الدولية التي ساهمت هي في صنعها، هذه الشرعية التي تتحدث عن ضرورة احترام سيادة الدول المستقلة واحترام خيارات الشعوب. فقد دعا جلالة الملك محمد السادس، في الخطاب الذي تلاه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران يوم 24/9/2014، إلى ضرورة احترام خصوصيات كل بلد، في مساره الوطني، وإرادته الخاصة، لبناء نموذجه التنموي، لاسيما بالنسبة للدول النامية، التي ماتزال تعاني آثار الاستعمار. وقال "إن تحقيق التنمية المستدامة يعد من التحديات الملحة التي تواجه البشرية، خاصة ضرورة إيجاد التوازن اللازم بين مستلزمات التقدم الاقتصادي والاجتماعي ومتطلبات حماية البيئة وضرورة الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة". وأكد أن تحقيق التنمية المستدامة لا يتم بقرارات أو وصفات جاهزة، كما أنه ليس هناك نموذج واحد في هذا المجال، موضحاً أن لكل بلد مساره الخاص حسب تطوره التاريخي ورصيده الحضاري، وما يتوفر عليه من طاقات بشرية وموارد طبيعية، وحسب خصوصياته السياسية وخياراته الاقتصادية وما يواجهه من عراقيل وتحديات، فما ينطبق على الغرب، لا يجب أن يتم اعتماده كمعيار وحيد لتحديد نجاعة أي نموذج تنموي آخر. كما "لا ينبغي المقارنة بين الدول، مهما تشابهت الظروف، أو الانتماء لنفس الفضاء الجغرافي". ذكر الملك بأن " الاستعمار خلف أضراراً كبيرة للدول التي كانت تخضع لحكمه، بحيث عرقل مسار التنمية بها لسنوات طويلة، واستغل خيراتها وطاقات أبنائها، وكرس تغييراً عميقاً في عادات وثقافات شعوبها، كما رسخ أسباب التفرقة بين أبناء الشعب الواحد وزرع أسباب النزاع والفتنة بين دول الجوار، فإنه ليس من حق هذه الدول أن تطالب بلدان الجنوب بتغيير جذري وسريع وفق منظومة غريبة عن ثقافتها ومبادئها ومقوماتها. وكأنه لا يمكن تحقيق التنمية إلا حسب نموذج وحيد هو النموذج الغربي". إن هذا الخطاب التاريخي لجلالة الملك هو تجسيد لاستراتيجية "التوجه نحو الجنوب" التي أطلقها جلالته ويسعى دائماً إلى جعلها واقعاً. وقد أصبحت الدولة المغربية بموجب تلك الاستراتيجية مهتمة كثيراً بشؤون دول العالم النامي، حيث إنها أصبحت تدافع عنها في مختلف المحافل الدولية، انطلاقاً من إيمانها أن تلك الدول ظلمت كثيراً من قبل دول الغرب التي تتسبب كل يوم بالمزيد من الكوارث، فمثلاُ فإن تدخّل تلك الدول في ليبيا، تحت مسمى، نشر الديمقراطية، جعل من هذا البلد مرتعاً للإرهاب الذي ينتشر من هناك في مختلف الاتجاهات. وما يدعو إلى الأسى أن الدول الغربية تقف متفرجة على عذابات الشعب الليبي الذي يعيش وسط جحيم لا يطاق. إن الدول الغربية مطالبة بتغيير سياساتها القمعية واللامسؤولة تجاه دول العالم النامي، وخطاب جلالة الملك جاء ليحذر تلك الدول من مغبة الاستمرار في نهجها ذاك الذي لا يساهم مطلقاً في تحقيق الأمن والاستقرار، لكن هل ستستجيب الدول الغربية؟ وهل ستغير من نهجها العدائي تجاه العالم النامي؟ من دون شك، إن الدول الغربية التي استعذبت استغلال الشعوب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لن تتخلى عن ما درجت عليه منذ أكثر من قرنين من الزمان، بل لا بد من مواجهتها ووضع حد لها، وهنا ينبغي على دول الجنوب أن تتحد مع بعضها أكثر لكي تتمكن، عبر العمل الجماعي، من الدفاع عن حقوقها في عالم لا يرحم. وقد كانت المملكة المغربية سباقة في السعي لجمع دول الجنوب مع بعضها، والزيارات الكثيرة التي قام بها العاهل المغربي محمد السادس، والتي شملت دولاً عديدة في إفريقيا، إنما جاءت وفق تلك السياسة. وقد أثمرت تلك الزيارات عن معاهدات واتفاقيات ثنائية كثيرة. وساهمت في إيجاد نواة لوحدة بين دول الجنوب، وماتزال المملكة المغربية سائرة في سياساتها المرسومة حتى تحقيق الهدف النهائي وهو جمع كل دول العالم النامي على صعيد واحد، وبما يحقق لهذه الدول التنمية الصحيحة ويبعد عنها خطر الهيمنة الغربية، ويحقق لشعوبها الأمن والاستقرار. وقد يكون ذلك الهدف صعباً، لكن وجود الإرادة والتصميم لدى الحكومة المغربية، سوف يكون عاملاً حاسماً في الوصول إلى الغاية النهائية بقيام مشروع حضاري جديد نواته المغرب وامتدادته في كل بقاع العالم النامي. *كاتب من الإمارات [email protected]