فيضانات إسبانيا.. وزارة الخارجية تعلن استعدادها لتقديم المساعدة للمغاربة بالمناطق المتضررة        مجلس الحكومة يطلع على اتفاقية دولية لتسليم المجرمين بين المغرب وهولندا    مطار تطوان الدولي يستقبل أكثر من 260 ألف مسافر خلال 9 أشهر    مراكش 'إير شو 2024': التوقيع على عدة اتفاقيات شراكة في قطاع صناعة الطيران    الإيرادات السياحية.. تقدم المغرب 10 مراتب في التصنيف العالمي    انخفاض جديد مرتقب في أسعار الغازوال بالمغرب    انييستا: مونديال 2030 يتوفر على "جميع المقومات لتحقيق نجاح كبير"    جماهير اتحاد طنجة تتوجه بنداء لوالي الجهة لإنهاء حرمانها من حضور المباريات    إسبانيا تحصي خسائرها من الفيضانات والسيول.. والأرصاد تحذر ساكنة المناطق المتضررة    إسبانيا تحت وطأة الكارثة.. الفيضانات الأسوأ منذ نصف قرن    نشر أخبار كاذبة والتبليغ عن جريمة غير واقعية يجر شخصاً للاعتقال    المغرب يتابع أوضاع مواطنيه في إسبانيا ويسجل حالة وفاة واحدة    7 نوفمبر بالمسرح البلدي بتونس "كلنا نغني" موعد العودة إلى الزمن الجميل    بدء مناقشة مشروع قانون الإضراب في مجلس النواب في أجواء مشحونة        ائتلاف مكون من 20 هيئة حقوقية مغربية يطالب ب "الإفراج الفوري وغير المشروط" عن فؤاد عبد المومني        المنتخب المغربي للفوتسال يواجه فرنسا وديا يوم 5 نونبر القادم    ماكرون: موقف فرنسا من قضية الصحراء المغربية بصدد تحريك مواقف بلدان أوروبية أخرى    ملف طلبة الطب.. بايتاس يؤكد عدم وجود مستجدات والحل بيد الوسيط    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يُكرم الراحلة نعيمة المشرقي، والممثل الأمريكي شون بين، والمخرج الكندي ديفيد كروننبرغ    المحكمة تقرر تأجيل محاكمة "الستريمر" إلياس المالكي    الكاتب المغربي عبد الله الطايع يفوز بجائزة "ديسمبر" الأدبية    مريم كرودي توثق رحلتها في ورشات الشعر بكتاب "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة"    يهم الصحافيين.. ملفات ساخنة على طاولة لجنة بطاقة الصحافة المهنية    الشرطة الألمانية تطلق عملية بحث مكثفة عن رجل فرّ من شرطة برلين    حماس ترفض فكرة وقف مؤقت لإطلاق النار وتؤيد اتفاقا دائما    اعتقال إسرائيليين بتهمة التجسس لإيران    موسم أصيلة يحتفي بمحمد الأشعري، سيرة قلم لأديب بأوجه متعددة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    موقع "نارسا" يتعرض للاختراق قبل المؤتمر العالمي الوزاري للسلامة الطرقية بمراكش    اعتقال ومتابعة صناع محتوى بتهمة "التجاهر بما ينافي الحياء"    مولودية وجدة ينتظر رفع المنع وتأهيل لاعبيه المنتدبين بعد من تسوية ملفاته النزاعية    طقس الخميس.. امطار ضعيفة بالريف الغرب وغرب الواجهة المتوسطية    لبنان.. ميقاتي يتوقع إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل في غضون أيام    الطاقة الخضراء: توقيع اتفاقية شراكة بين جامعة شعيب الدكالي وفاعلين من الصين    توقيف شخص بسلا يشتبه تورطه في جريمة قتل    مصرع شاب في حادثة سير بتازة    مانشستر سيتي وتشيلسي يودعان كأس الرابطة الإنجليزية    منفذو الهجوم الإسرائيلي على إيران يتحدثون للمرة الأولى    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    إسرائيل تدعو لإقالة خبيرة أممية اتهمتها بشن حملة "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين    القروض والأصول الاحتياطية ترفعان نسبة نمو الكتلة النقدية بالمغرب إلى 6,7% الشهر المنصرم    وزير: الإنتاج المتوقع للتمور يقدر ب 103 آلاف طن في الموسم الفلاحي 2024-2025    الخنوس يهز شباك مانشستر يونايتد    متحف قطر الوطني يعرض "الأزياء النسائية المنحوتة" للمغربي بنشلال    الحدادي يسجل في كأس ملك إسبانيا    التحكيم يحرم آسفي من ضربة جزاء    الممثل المصري مصطفى فهمي يغادر دنيا الناس    دراسة: اكتشاف جينات جديدة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالسرطان    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    إطلاق حملة وطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التناوب ينقذ المثقف اليساري من الانحسار
قصة يسار بدأ «مهمَّشا» وتحول إلى «حاكم» ومتحكِّم في المؤسسات الثقافية التابعة للدولة
نشر في المساء يوم 01 - 01 - 2011

موازاةً مع تجربة «التناوب» التي قادها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ سنة 8991، ظهر ما يمكن اعتباره تجاوزا «تناوبا ثقافيا»، فقذ هيمن هذا الحزب على وزارة الثقافة
منذ ذلك الحين إلى اليوم، كأن الثقافة صارت شأنا اتحاديا خالصا، وواكب ذلك اجتياح للاتحاديين ومن صار في ركبهم من اليساريين الذين «عانوا» من إقصاء الدولة ردحا من الزمان للمؤسسات الثقافية فتداعوا، وكأن الأمر استتب لهم، إلى «قصعة» الثقافة في شقها الرسمي، وخصوصا منها جانب النشر على حساب أموال دافعي الضرائب بغير قليل من المحسوبية والزبونية والحزبية... فنشرت «الأعمال الكاملة» للعديد منهم، بل وحتى للذين لم يكن لهم حظ في أن تقبل دور النشر الخاصة بمسوداتهم... صحيح أن الكثير منهم عانوا من تهميش الدولة في «سنوات الجمر والرصاص» والتي حولها البعض منهم إلى أصل تجاري، لكنهم بسلوكاتهم، التي بلوروها منذ أكثر من 12 سنة، يُعيدون إنتاج ما كانت «تفعله» الدولة في حقهم من «إقصاء» مُفترض لغيرهم من المثقفين، خصوصا الشباب منهم، والذين لم يُكتب لهم أن «يناضلوا» في زمن لم يعيشوا فيه أصلا... وبذلك «انقلبوا» على مُثل طالما بشروا بها كالديمقراطية والاختلاف و«الغيرية» وحرية التعبير... وهلم شعارات. فهل سينتظر «مهمشو» زمن التناوب السياسي زمنا آخر ليصلوا إلى «الحكم» فتصيبهم لوثته و«جنونه» كما أصاب رفاقا كانوا بالأمس على «يسار» السياسة فأصبحوا على «يمينها» أو في قلبها أو ووسطها (وكل ذلك سيان)... ويتحولوا بقدرة قادر إلى مهمِّشين لغيرهم ويتبادلوا الأدوار مع من كانوا بالأمس القريب مهمِّشين لهم؟ متى سيتحرر المثقفون «المسيَّسون حتى النخاع» من نظرتهم الحزبية الضيقة وينفتحون على غيرهم كما يعلنون ذلك (في طقس شيزوفريني يومي) في ما يسوِّدونه من أوراق وما يدبجونه من خُطب؟
شكلت تجربة التناوب التوافقي، في حينها، تجربة واعدة على الصعيد السياسي، على مستوى تداول السلطة، وفتح الآفاق أمام قوى سياسية جديدة لولوج ما سمي آنذاك الانتقال الديمقراطي، وتجاوز العوائق المخزنية الكثيرة التي حالت دون إسهام قوى اليسار، ممثلة خصوصا في الاتحاد الاشتراكي، في المساهمة، بشكل مباشر وملموس، في بناء مغرب ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويُرسي أسس العدالة الاجتماعية ويحقق التنمية الاقتصادية التي سيستفيد من خيراتها الكل. لقد اختار الحسن الثاني، في السنوات الأخيرة من حكمه، منحَ الاتحاد الاشتراكي إمكانية المساهمة في هذا الانتقال الديمقراطي، الذي تم التخطيط له على أعلى مستوى، في ظروف شبه كارثية كان الملك الراحل قد نعتها بخطورة تعرض المغرب ل«السكتة القلبية»... لم تكن التجربة، في حد ذاتها، واضحة المعالم، بل مشُوبة بالكثير من الالتباسات، ولعل الالتباس الكبير هو الذي تجلى في طبيعة التعاقدين: قيادة «الاتحاد الاشتراكي»، ممثلة في المناضل اليوسفي، الذي اعتلى سدة الوزارة الأولى من جهة، وفي المؤسسة الملكية، من جهة أخرى. إلى حد الآن، لا نعرف عن طبيعة هذا التعاقد غير معلومات، مثل أن التعاقد التوافقي غير المسبوق فرضته طبيعة المرحلة، المتمثلة في مرض العاهل الراحل وفي ضرورة التهييء للانتقال السلس للسلطة، من عهد إلى عهد آخر جديد، وضرورة تحييد المعارضة الوحيدة، التي ظلت على مدى سنوات، وخصوصا في الثلاثين سنة الممتدة من 0691 إلى 0991، تمارس دورها الفعّال، سواء عبر مواقفها الصارمة أو عبر المذكرات الإصلاحية العديدة التي كانت تقترحها، أو طبيعة الكاريزما السياسية القوية لقادتها، بدءا من المناضل المختطَف والمغتال، المهدي بن بركة، إلى المناضل الفذ، المغتال هو الآخر، عمر بن جلون، وإلى آخر «الكبار» في الحزب، المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. لقد كانت التجربة هشة الأسس، محدودة الاختيارات، وهنا بالذات تكمن أعطابُها.
سوق المناصب
حملت تجربة «التناوب التوافقي» معها الكثيرَ من المناضلين السابقين والحزبيين إلى دواليب السلطة، فانتشروا في الوزارات والمؤسسات وكتابات الدولة ودواوين الوزراء.. كلٌّ يبحث في «سوق» المناصب عن حصته، أو عن الحصة التي يرى، بحكم أقدميته النضالية والحزبية، أنها «تليق» به. يبدو الأمر، الآن، شبيها، إلى حد ما، باقتسام غنائم حرب طويلة الأمد، شهدت الكثير من المعارك والجولات، قبل أن يخفُت أوارها، وتتجسد في «الغواية» الوحيدة التي ظلت صامدة، بعد أن تلاشى كل شيء، أي غواية الكراسي. فجأة، اكتشف الكثيرون أن حزب المهدي بن بركة وبن جلون وبوعبيد يتضمن العديد من الشخصيات الطامحة إلى الاستوزار، بل إن الكثير منها لم يكن معروفا إلى حين، أو أن علاقته بالحزب التاريخي، ذي التراث النضالي المُكرَّس والمشهود له، غير واضحة ولا متينة. وبعدما تم النظر إلى «التناوب التوافقي» باعتباره تجربةً تاريخية سياسية فريدة وغير مسبوقة في منطقة المغرب الكبير وشمال إفريقيا، من حيث جدة الطرح وضخامة الوعود والرهانات عليها، إذا بها تصير، بين ليلة وضحاها، مسألة كراسٍ ومناصب فقط، ينبغي توزيعها بين قلة من «الحواريين» المختارين، كل حسب رغبته واستطاعته... هكذا وُلِدت التجربة، في حد ذاتها، منذ البدء، معاقة، وانضافت إلى الإعاقات التي أسهم فيها الفَعَلة المباشرون فيها، تلك التي فرضتها السلطة المخزنية على أداء الوزارة الأولى، التي تَحمَّل مسؤوليتَها اليوسفي، من حيث محدودية المهام والاختيارات والوظائف المنوطة بهذه المؤسسة، مما يعوق أصلا قدرتها على الفعل والمبادرة، نظرا إلى محدودية صلاحياتها. لقد كانت التجربة، في حد ذاتها، مجردَ «تكتيك» سياسي مرتبط بإكراهات آنية ومستقبلية على المدى القريب ولم تكن اختيارا جذريا بعيد المدى وإستراتيجيّاً من طرف السلطة المخزنية، وبدا حينها أن الفَعَلة اليساريين المعارضين يريدون، وبسرعة، دفن جثة اسمها «المعارضة السياسية اليسارية» رأوا، في لحظة ما، أنها لم تعد تساير طموحات المرحلة التي هم مقْدمون عليها، لكن الموت لم تطل فقط تواريخ أشخاص، بل أيضا التاريخَ المعلَنَ لمؤسسة حزبية عتيدة.
كان طبيعيا أن تجرف غوايات وأضواء التناوب الديمقراطي التوافقي ليس فقط السياسيين الاحترافيين في الحزب، بل أيضاً أعدادا من مثقفيه، من شعراء وروائيين وباحثين ومتخصصين في مجالات بحثية وعلمية متعددة. ينبغي ألا ننسى، في هذا السياق، أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ظل، على مدى تاريخه النضالي الطويل، الحزبَ الوحيد الذي منح المسألة الثقافية دورا هاما وحاسما في نضاله ومعارضته للسلطة وأن المثقفين، عموما، سواء أولئك الذي انضمّوا إليه أو تعاطفوا معه، شكّلوا دائما جبهة أو كتلة ثقافية تقدمية وظفت الثقافة كجبهة من جبهات الصراع السياسي العنيف، أحيانا، الهادئ، أحيانا أخرى، كما يجب ألا ننسى أن الرهان على النضال الثقافي كان حاضرا دائما، بقوة، في أدبيات الحزب وتقاريره وبياناته، بدءا من كتابات بن بركة وإلى كتابات آخرين، مثل الجابري وبن جلون وبوعبيد وغيرهم. لقد كان وما يزال -بالفعل- حزبَ مثقفين، بالمعنى الذي تحدث فيه الجابري، انطلاقا من غرامشي، عن الدور الذي بإمكان هؤلاء أن يلعبوه داخل «كتلة تاريخية» مفترضة. هنا بالذات، وفي سياق اقتسام المناصب الوزارية بين أعضاء الأحزاب التي منها تشكلت حكومة اليوسفي، كان طبيعيا أن تؤول الوزارة الدالة على الثقل الثقافي السياسي للحزب ودوره الوازن في الساحة الثقافية، والتي هي وزارة الثقافة، إلى أحد أعضائه، ممثلا في الشاعر والروائي محمد الأشعري. لقد تحمّل المثقفون المسؤولية ليس انطلاقا من وضعهم الاعتباري كمثقفين فقط، بل كسياسيين حزبيين. ومن المعلوم أن تسييس الثقافة في المغرب كان إحدى الكوارث الكبرى التي جنَت عليها، ووأدت في المهد، الكثيرَ من الطاقات والإبداعات الواعدة. لنتحدث هنا عن التسييس الطبيعي والضروري في مجتمع ما زال يعاني من إكراهات الأمية الثقافية ومن محدودية انتشار ثقافة حقوق الإنسان، وسيادة أفكار وطروحات نكوصية وظلامية... إلخ. بل عن التسييس السياسوي المغلوط، الذي يطرح المشكلات بطريقة زائفة، مما يجعل إمكانية العثور على حل لها مستحيلا. إذا كان العائق الأول للممارسة الثقافية الواضحة المتوازنة حزبيا وسياسويا بالأساس، فإن العائق الثاني كان مرتبطا بطبيعة المنصب في حد ذاتها، لأن وزارة الثقافة منصب سياسي أولا، قبل أن يكون ثقافيا.
«ثقافة التوافق
لقد أدى التناوب التوافقي في المجال السياسي والوزاري إلى بروز حركة مساوِقة له، يمكن تسميتها التناوب الثقافي. من المعلوم أن تجربة التناوب أتت في فترة شهدت نوعا من الانحسار الكبير للمثقف اليساري المعارض وغياب صورته ووظيفته عن الساحتين الثقافية والسياسية، نظرا إلى اعتبارات متعددة، فهناك خفوت نبرة المعارضة في الخطابات الحزبية وعودة الأحزاب اليسارية المعارضة إلى طبيعتها الحقيقية، أي إلى هويتها كأحزاب إصلاحية، توافقية، لا تتوخى تحقيق «تعاقد تاريخي» من الوضع الاعتباري لقوتها السياسية، بل انطلاقا من تآلفها وتوافقها مع ما هو كائن وسائد، وهناك، من جهة أخرى، خفوت أصوات المثقفين المعارضين إما لانسحاب البعض من الساحة السياسية أو تفضيل البعض الآخر عزلةَ البحث والكتابة، أو طموح آخرين إلى احتلال مناصب في المنظومة التوافقية الجديدة فقط. لا يتعلق الأمر هنا، أبدا، بأحكام قيمة، بل بوقائع وسياقات. لقد كان واضحا منذ البدء أن أعطاب وإكراهات «التناوب التوافقي» ستهيمن أيضا على الفَعَلة الثقافيين داخل ما يسمى «التناوب الثقافي»، سواء من جانب المخزن السياسي أو من الجانب الحزبي السياسوي. لقد تعامل الكثيرون مع الثقافة بمنطق الانتماء الحزبي، الذي يخول للكثيرين العديد من الفوائد والامتيازات، بالرغم من أن كتابا ومثقفين عديدين استبشروا حينها خيرا، حين رأوا مثقفا في مكرَّساً وحقيقيا، من طينة الأشعري، يتولى المنصب.
أشرنا أعلاه إلى أن الطبيعة السياسية للمنصب، بالإضافة إلى وضعه الاعتباري الحزبي، عاملان أعاقا ممارسة المسؤولية الثقافية بشكل واضح ومتساوٍ وجعلا الحصيلة، في نهاية المطاف، محدودة النتائج، بالرغم من العديد من الخطوات والإجراءات غير المسبوقة التي اتُّخذت. يمكن القول إن الكثير من الإخفاقات والالتباسات ترتبط بطموحات الفعَلة، سواء كانوا سياسيين أو ثقافيين، أكثر مما ترتبط بطبيعة المنصب، لأن التدبير الثقافي لا يمكن أن يكون، مهما كانت أبعاده وتعالقاته السياسية، إلا ثقافيا في المقام الأخير، مرتبطا بما يسمى السياسة الثقافية.
هنا بالذات، يكمن مربط الفرس، لأن حصيلة المنجَز الذي أفرزه التناوب الثقافي كانت محدودة وباهتة، بل إنها ظلت حكرا على القلة القليلة من القريبين والنافذين في دوائر القرار الثقافي، بينما استبعد العدد الكبير من المثقفين ولم تتم معاملتهم بالمثل، سواء من حيث توزيع المسؤوليات المتعلقة بمؤسسات، كالمطابع والمجلات الرسمية، أو من حيث نشر الكتاب والدعم المخصص لطبعه. لا أحد يجادل طبعا في الأهمية القصوى لمبادرة إصدار الكتاب الأول، والتي ساعدت الكثير من الكتاب الناشئين على إظهار مؤلفاتهم الأولى للوجود، بعدما ظلت حبيسة الرفوف وأدراج المكاتب. كانت هذه المبادرة، بالرغم من محدوديتها، رائدة، لكنْ لم تعقبها مبادرات أخرى، في نفس أهميتها، ولم يتمَّ تعميمها على الكثيرين ممن يستحقونها. أما مسألة دعم الكتاب فقد تحكمت فيها اعتبارات لم تكن دائما ثقافية ولا أدبية، والكثير من المؤلفات الجديرة بالصدور لم تحظ بهذا الدعم، إما لأن أصحابها بعيدون عن دوائر القرار الثقافي الذي يتحكم فيه الفعَلة في «التناوب الثقافي»، وإما لأن مؤلفاتهم لم تنل الرضا المطلوب. نصل، هنا، إلى مسألة إصدار الأعمال والمجموعات الكاملة للقلة القليلة من الشعراء والكتاب. إذا كان البعض من الأسماء يستحق هذه الالتفاتة، مثل محمد شكري ومحمد زفزاف والقليل من النادرين، فإن الكثير من الأسماء التي صدرت مجموعاتها الكاملة لم تنتج منجزا أدبيا وثقافيا جديرا بأن يسمى كذلك، سواء في الشعر أو في غيره.. ومن الإجحاف الكبير في حق الثقافة المغربية الحديثة اعتبارها رائدة، علما أنْ لا أحد أصلا يقرؤها. هناك أسماء أخرى ممّن يستحقون أن تُنشَر أعمالهم الكاملة، لا مجال هنا لذكر أسمائهم، لم يتم الالتفات إليهم، بمعنى أن التدبير الثقافي للكثير من المبادرات الخاصة بنشر الكتاب غابت عنه (أو غيَّب) الكثير من المعطيات المتعلقة بمنجز الثقافة المغربية الحديثة والحقيقية، لأن شيئا اسمه من أدبيات التسيير الحديث «الحكامة الثقافية» غاب عن أذهان الفعَلة الأساسين في تجربة «التناوب الثقافي» .
إحراق الرأ سمال الرمزي
ما الذي تبقّى من تجربة «التناوب الثقافي»؟ يمكن القول، بالكثير من الحياد والموضوعية، إن الخلط بين السياسي الحزبي، من جهة، والثقافي، من جهة أخرى، لم يسعف الكثير من المثقفين الذين تحملوا مسؤوليات رسمية، في تبيُّن مساراتهم، بالإضافة إلى أن البعض منهم أحرقوا ما تبقى من رأسمالهم الرمزي، علما أن المثقف، عموما، لا يجيد التعامل مع السلطة وأن الثقافي، عموما، كثيرا ما يذوب في ما هو بيروقراطي. لقد وعى الجابري، مثلان ذلك، فانسحب من المجال السياسي ومن المجال الحزبي، وهو مشوب بالكثير من الوقار والاحترام لنفسه ولاختياراته، أولا وأخيرا، وهو ما حصل أيضا مع المرحوم عبد الكبير الخطيبي ومع عبد الله العروي. واكتفى هؤلاء الثلاثة بالانشغال بالمهمة الأساس لكل مثقف، وهي البحث والكتابة وإنتاج المفاهيم والأفكار. ليس في الأمر أدنى دعوة للتمرس داخل برج عاجي، لأن تجارب عديدة بيّنت بالملموس أن المجتمع يحتاج أحيانا كثيرة إلى أن يلعب المثقف دوره الأساس كمثقف وكفى. هنا بالذات، لا بد من القول إن تجربة «التناوب الثقافي»، التي صاحبت تجربة «التناوب التوافقي»، إبان حكومة اليوسفي، واستمرت بعدها بقليل، لم تترك خلفها غير الكثير من السلوكات والمخلفات السلبية، التي أضافت كَمّاً هائلا من الالتباسات، انضاف إلى الغموض الموروث الذي يطبع المشهد الثقافي في المغرب منذ عقود، والذي له علاقة بالوضع الاعتباري الملتبس للمثقف، وبطبيعة الأدوار المنوطة بالثقافة، والتي عومِلت، سواء من طرف الفعلة المخزنين أو الفعلة الحزبيين، كملحق تابع لها فقط، وبالمسألة الثقافية الديمقراطية داخل المنظومة التعليمية وإنتاج ثقافة فاعلة جديرة بذاتها، لا يتعامل معها رجل السياسة فقط كمرجعية يوظفها لإنتاج مشروعية ممارسته...
أي حكامة ثقافية؟
تفترض الحكامة الثقافية، نوعا ما، التدبير العقلاني للشأن الثقافي، سواء على مستوى الإمكانات المتاحة وتوزيع الوظائف والأدوار داخل المؤسسة الثقافية بالشكل الذي يضمن سيرها العادي. إنه نمط حكم رشيد يقوم بتوزيع المهام بشكل تقني يراعي طبيعة الأهداف والغايات المراد تحقيقها وبلوغها بشكل منظم ودقيق. لا يستقيم هذا النمط من الحكامة والتدبير الحزبي السياسي للمؤسسة الثقافية، لأنه كثيرا ما يخلق نوعا من الالتباس والغموض في طبيعة الأهداف المرجوة، فلا يدري الفَعَلة الثقافيون بالذات أين توجد خطوط الفصل بين ما هو سياسي متعلق بالمؤسسة الحزبية وبتصورها الخاص للممارسة الثقافية، وبين ما هو ثقافي يهم شرائح وفئات اجتماعية واسعة ومتعددة.يمكن أن يكون ما يسمى «التناوب الثقافي» خلق هذا اللبس وأضاف إلى الغموض طبقات جديدة، بما أن مثقفي هذا التناوب لم يتخلصوا أبدا، طيلة ممارستهم مهام رسمية، من العباءة الحزبية، التي ظلّت الخيطَ الناظم للكثير من القرارات والخطوات. إن السياسة، كما المهام الثقافية عموما، لا تعني بالضرورة فئة حزبية بعينها، وكلما كانت محايدة وموضوعية، كلما كانت أقربَ إلى الإنتاجية الحقيقية التي تخدم الكل. الآن، إذا ما نظرنا إلى تجربة «التناوب الثقافي»، يمكن القول إنها كانت محدودة الأثر، حتى داخل أوساط المثقفين، أما نشر الثقافة داخل أوساط جماهيرية واسعة، فقد كان من قبيل الأشياء الافتراضية التي لا مجال لها، بل إن التجربة ساهمت، بشكل ما، في انحسار كلي لما تبقى من أدوار المثقفين وفي فقدان الكثيرين مصداقيتَهم.


نهاية الكاريزما الثقافية
رب قائل إن فرنسا نفْسَها تمنح المسؤولية الثقافية لحزبين، كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى الحكومة الاشتراكية التي سادت إبان حكم الرئيس ميتران، والتي تحمَّل مسؤوليةَ وزارة الثقافة فيها جاك لانغ، لكنْ لا مقارنة مع وجود الفارق، كما يقول المناطقة، فالسياسة الثقافية الفرنسية ظلت دائما تقليدا محايدا يخضع لمنظومة خاصة ومستمرة، أيّاً كانت الأحزاب التي ترأس الحكومات.
لقد بيّنت تجربة التناوب الثقافي أنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، بناء تجربة في التسيير والتدبير الثقافيين انطلاقا من رؤى ثقافية محدودة بالولاءات الحزبية، حيث يصير المسؤول الحزبي مفضَّلاً على غيره، مهما كانت كفاءته المهنية ضعيفة أو متدنية، بل ومنعدمة أحيانا كثيرة. حين يصير المثقف موظفا، يفقد الكثير من كاريزميته الثقافية، وأحيانا كثيرة من مصداقيته.
لقد سعى الكثيرون إلى المناصب والدواوين الرسمية وانشغلوا بتدبير كل ما كانوا يحاربونه وما كانوا ضده سابقا. كما أن البعض سعى فقط إلى بناء مجد أدبي، عبر طبع أعماله الأدبية والفكرية وأعمال المقرَّبين والحواريين، مما أقصى عددا كبيرا من الأقلام التي ظلت بعيدة، إلى حد ما، عن «خيرات» الريع الثقافي، بينما لجأ البعض الآخر إلى دُور النشر المشرقية لنشر مؤلفاتهم، واضطروا للاستدانة من أجل طبعها، أو أسسوا دور نشر خاصة بهم تنشر كتبهم، وهو أمر مبرَّر إلى حد بعيد، في ظل الحصار الثقافي الذي عانَوا منه. لم يكن للقمع السياسي والثقافي الذي مورس من أعلى، خصوصا إبان «سنوات الجمر والرصاص»، حيث عملت على سجن مثقفين لإسكاتهم، أو مصادرة كتب معينة وإيقاف مجلات.. لم يكن لهذا القمع وحده الدَّورُ، بل كانت هناك سلطة قامعة مُورِست من الأسفل، أي من الفعَلة الثقافيين الحزبيين أنفسِهم، والذين مارسوا، بشكل ما من الأشكال، حصارَهم الخاص على أسماء ومؤلفات بعينها، وهو ما كانت له عواقب سلبية على الإنتاج الثقافي في المغرب، خصوصا في ظل انعدام البدائل الثقافية ومحدودية الإمكانيات المادية وظروف نشر وترويج الكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.