ثانيا، تكريس نظام الثنائية المجلسية كنظام تمثيلي للأمة وإغناؤه بخيار الجهوية الموسعة: ردا على بعض المطالب الداعية إلى حذف الغرفة الثانية، مجلس المستشارين، ودمجها في المجلس الاقتصادي والاجتماعي من منطلق تقاطعهما في تمثيليتهما السوسيو مهنية، فإن تنصيص الفصل 60 من دستور 2011 على تكون البرلمان من مجلسين اثنين، مجلس النواب ومجلس المستشارين، قد حسم الأمر لصالح الإبقاء على الغرفة الثانية مع إدخال إصلاحات عميقة تطال بنيتها التمثيلية بحيث تستجيب لخيار الجهوية الموسعة، وتطال كذلك اختصاصها الرقابي والتشريعي. ثالثا، تكريس منح رئيس الحكومة حق اقتراح تعيين الوزراء دون حق تعيينهم: وفاء لروح الفصل 24 من دستور 13 شتنبر 1996، المحدد لسلطة الوزير الأول في مجال تكوين فريقه الحكومي في امتلاكه فقط حق اقتراح تعيين الوزراء بدل حق تعيينهم، فإن الفصل 47 من دستور 2011، ورغم التنصيص الصريح على التعيين الملكي لرئيس الحكومة من الحزب الأغلبي، أبقى ضمنيا على ربط اختصاص رئيس الحكومة باختيار فريقه الحكومي بالموافقة الملكية على الأسماء المقترح استوزارها، مضيفا إليه افتقاده، أي رئيس الحكومة، سلطة إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، وإسناد ذلك إلى الملك المخول له وحده حق اتخاذ هذه المبادرة بعد استشارة رئيس الحكومة التي تفيد ضمنيا استبعاد إمكانية اعتراضه على قرار إعفاء وزير أو عدة وزراء.
II- عناصر التغيير في علاقات السلط أولا، ربط إمارة المؤمنين بممارسة الملك لصلاحياته الدينية مقابل تحديد مهامه المدنية: يعد ربط إمارة المؤمنين بممارسة الملك لصلاحياته الدينية أحد أهم التعديلات التي جاء بها دستور 2011 والتي تعد استجابة ملكية صريحة للمطلب الداعي إلى توضيح اختصاصات الملك الواردة في الفصل 19 من دستور 13 شتنبر 1996 والتي أبانت الدراسات المتعلقة بهذا الفصل عن هيمنته على الحياة السياسية المغربية. واعتبارا لغناه الاصطلاحي، على حد تعبير بعض فقهاء القانون الدستوري المغاربة، ومزجه، أي الفصل 19، بين السلطة الدينية والسلطة المدنية المفضي إلى تداخل صلاحيات أمير المؤمنين بمهام الملك الدستوري، فقد اتخذت الاستجابة للمطلب السابق شكل فصل مقتضياته ذات الحمولة الدينية والدلالية وإدراجها في الفصل 41 من دستور 2011 المحدد للصلاحيات الملكية في المجال الديني وتخصيص تاليه، الفصل 42، لتحديد المهام الملكية المدنية. على أن ما يميز الفصل 42 من مشروع الدستور هو دسترته لمهام التحكيم الملكي المستمدة من التقاليد السلطانية العريقة، والتي قد تشمل حتى التحكيم بين مؤسستي البرلمان والحكومة أو بين الأغلبية والمعارضة، مما يطرح تساؤلا حول مكانة التحكيم الملكي أمام قضاء المحكمة الدستورية، المعد بمثابة تحكيم، والمنوط بها دستوريا الفصلُ في تنازع الاختصاص بين الحكومة أو البرلمان أو المعارضة بمناسبة الاختلاف في تأويل مقتضيات فصول الدستور. كما أن ترقية المجلس الدستوري، المختص بالسهر على احترام الدستور، إلى محكمة دستورية، مع ما تحتله هذه المؤسسة الدستورية في بعض الديمقراطيات العريقة من مكانة تجعل منها جهازا قد يشل سياسة رئيس الدولة، واعتبارا لكون مهمة الساهر على احترام الدستور المنوطة بالملك تفيد عمليا المراقبة الملكية لدستورية القوانين، فإن تساؤلا يطرح حول منزلة هذه المراقبة الملكية في علاقتها باختصاص المحكمة الدستورية في هذا المجال. وأمام تحريم الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية على «الجهات القضائية البت في دستورية القوانين»، فإن تخويل المحاكم العادية صلاحية تلقي الدفوعات المثارة بمناسبة النظر في قضية ما، يفرض -في اعتقادنا- ملاءمة مقتضيات هذا الفصل مع مقتضيات الفصل 133 من دستور 2011. ثانيا، ترقية الوزير الأول إلى رئيس للحكومة مع د سترة المجلس الحكومي: بانتقاله من مكانة الوزير الأول إلى منزلة رئيس للحكومة، يكون دستور 2011 قد دشن بداية عهد الاستقلالية العملية لرئيس الحكومة، كما عمل على التجسيد الفعلي للالتزام الدستوري المقر بإعمال قاعدة توازن السلط وتعاونها، التي تفيد عمليا ثنائية السلطة التنفيذية، باختصاصات عددها الدستور لرئيس الحكومة بين اقتراح تعيين الوزراء وسامي الشخصيات في بعض المناصب، والتعيين في بعض المناصب العليا، فضلا عن رئاسته للمجلس الحكومي الملزم دستوريا بإطلاع الملك على خلاصات مداولاته، وكذا إمكانية رئاسته للمجلس الوزاري شرط تحديد جدول أعماله. ثالثا، منح رئيس الحكومة اختصاص حل مجلس النواب دون مجلس المستشارين إعمالا لقاعدة توازن السلط: تفيد قاعدة التوازن بين السلط عمليا التوازن في وسائل الضغط المتبادلة، وهكذا فإن امتلاك مجلس النواب دون مجلس المستشارين حق إسقاط الحكومة لا يعادله سوى امتلاك الحكومة في شخص رئيسها، بموجب الفصل 104 من دستور 2011، حق حل مجلس النواب دون مجلس المستشارين، مقابل انفراد الملك بموجب الفصل 96 باختصاص حل مجلسي البرلمان أو أحدهما فقط. رابعا، تكريس سمو مجلس النواب على مجلس المستشارين: يتخذ هذا السمو مظهر أولوية مجلس النواب على مجلس المستشارين في الاختصاص التشريعي والرقابي والتمثيلي، وهكذا فإن أولوية مجلس النواب في الاختصاص التشريعي تتجلى في أسبقيته في التداول في مشاريع قوانين المالية، أما أولويته في الاختصاص الرقابي فتتجلى في انفراده لوحده بحق التصويت بالثقة على البرنامج الحكومي علاوة على طرح مسألة الثقة، وهذا يتماشى ومعطى سياسي مفاده أن العمق البرلماني والامتداد الأغلبي للحكومة يوجد داخل مجلس النواب الذي يعكس التمثيل السياسي، دون مجلس المستشارين الذي يعكس التمثيل الترابي والسوسيومهني. خامسا، تخفيف العقلنة المتشددة لإعمال مجلس النواب لملتمس الرقابة مقابل سحب هذا الاختصاص الرقابي من مجلس المستشارين: مقابل تكريس سمو مجلس النواب على مجلس المستشارين في المادة الرقابية، بسحب اختصاص تقديم ملتمس الرقابة لإسقاط الحكومة من مجلس المستشارين، وإسناد هذا الاختصاص فقط إلى مجلس النواب، فإن اشتراط نصاب خمس أعضائه، بدل الربع في الدستور الحالي، يعد تخفيفا للعقلنة البرلمانية المتشددة في جانبها المتعلق بضبط سلطة مجلس النواب الرقابية. سادسا، دسترة الاعتراف بحقوق المعارضة البرلمانية: تأويلا لمبدأ حكم الأغلبية، كأحد مبادئ الديمقراطية الليبرالية، على أنه اعتراف بالأقلية وليس سحقا للمعارضة، فإن دستور 2011، وضمن منظور توازن السلط وتعاونها، اعترف للمعارضة بجملة حقوق، أوردها الفصل 10 من الدستور على سبيل الحصر لا المثال، في مقدمتها حق تقديم ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة، وكذا حقها في تشكيل لجان نيابية لتقصي الحقائق. وإذا كان الدافع إلى إبراز الموقع الدستوري للمعارضة البرلمانية، من الناحية السياسية، هو التأكيد على خيار الملكية البرلمانية كنظام للحكم، والتي تجسد المعارضة البرلمانية إحدى آلياتها وميكانزماتها، فإن الاعتراف الصريح لها من قبل الفصل العاشر من دستور 2011 بجملة اختصاصات -رقابية تصل ذروتها بحقها في تقديم ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة، وتشريعية بمنحها حق ترؤس اللجنة المكلفة بالتشريع في مجلس النواب، وقضائية بمساهمتها في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية- يشكل (هذا الاعتراف الصريح، إذن) إغناء للممارسة البرلمانية المغربية، وانسجاما مع القاعدة الدستورية القائمة على أساس اعتبار معارضة اليوم أغلبية الغد إعمالا لقاعدة التناوب الديمقراطي. وأخيرا، وبأيلولة استفتاء الفاتح من يوليوز 2011 إلى إقرار سادس دستور للمملكة، والأول في حكم الملك محمد السادس، بنسبة «نعم» كانت قاب قوسين أو أدنى من نتيجة المائة في المائة، فإن أولى تداعياته السياسية علاوة على تداعياته الرمزية، من حيث اقترانه بحدث التخليد السنوي لذكرى عيد العرش، تقوية المشروعية الدستورية والديمقراطية للمؤسسة الملكية وتجديد التعاقد السياسي بينها وبين الأمة، في ظل سياق إقليمي وعربي يشهد انطلاق موجة دستورية رابعة جارفة اهتزت لها عروش زعامات أعتد الأنظمة العربية. انتهى/ حسن مشدود - باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية