بعدما انقطع حبل الأمل وتحول حلم ساكنة ثاني أقدم حي صفيحي في المغرب إلى وهم لم يجد بعد طريقه إلى التفعيل، رغم تناسل الوعود التي ظلت شريطا يتكرر في كل مرة دون جدوى.. ولم يجد هؤلاء الذين أضنتهم المعيشة في براريك ضيّقة، تنعدم فيها أدنى شروط الحياة الإنسانية، سوى ترجمة معاناتهم بكتابة شعارات على الجدران يعبّرون فيها عن مآسيهم وأوجاعهم في «سكن الجحيم»، فكان الشعار البارز والعريض الذي كتبه شباب الساكنة بحبر أسود هو «سكن الذل والحكرة».. «المساء» تزور ثاني أقدم حي صفيحي في المغرب وتنقل لكم معاناة ساكنة أفقدتها الوعود الأمل وحوّلت حلمهم إلى وهم..
الدوار.. خزان انتخابي عندما تختلط المعاناة بطعم الانتخابات، تختلط الأوراق، فيصبح اللعب على وتر حاجة الفقراء والمستضعفين من أجل الوصول إلى تحقيق مصالح الخاصة، ولو على حساب هؤلاء، إلا أنه بعد أن افتضحت اللعبة، أصبح هذا الدوار نقطة لم يعد يطؤها المنتخبون والمستشارون وغيرهم من أصحاب المصالح، الذين لا يظهرون في مثل هذه الأحياء إلا في «المناسبات السياسية»، حيث يصبحون أكثر سخاء ويشفقون على الفقراء وذوي الحاجة بتوزيع «البونات»، لكسب الأصوات. يقول مصطفى، الذي يرأس جمعية التحدي، وهي جمعية تم تأسيسها في سنة 2003، تمثل ساكنة الحي وتتحدث باسمهم ويتم الاعتماد فيها على أبسط الإمكانيات المتاحة، إن لأغلب المرشحين مصلحة في استمرار مثل هذه الأحياء، لأنها خزان انتخابي مهمّ، لإطلاق الدعايات والوعود التي تصب في صميم معاناة هؤلاء المقهورين في المجتمع، لبناء مصالح من تطأ قدمه هذا الحي في الفترات الانتخابية والغليان السياسي ويلعبون، بالدرجة الأولى، على وتر تنقيلهم إلى أحياء تعيد إليهم كرامتهم. وتحكي فاطمة، التي تقطن في حي بوهالا منذ أزيد من 15 سنة، بعدما حصلت على براكة بالتفويت، إنها لم تر عائلتها لأزيد من خمس سنوات، والسبب الوحيد هو كونها لا تتوفر على سكن لائق يتسع لأفراد العائلة، ما جعلهم يقطعون معها صلة الرحم، قبل أن تضيف وعيناها مغرورقتان بالدموع: «الإنسان الذي يقطن في هذه البراريك مثله مثل الحيوانات الضالة: لا أهالي، لا عائلة ولا أي شيء».. بالنسبة إلى خديجة، فإن اليوم الذي تتلقى فيه خبر قدوم ضيف ما، يُعتبَر الأسوأ بالنسبة إليها، لأن الساكن في «سجون الحكرة» لا يتحلى بصفات الكرم والضيافة وصلة الرحم.. قبل أن تضيف، بأسى، وهي تقسم بالله، حتى تبين مدى معاناتهم في هذه البراريك، «أضطر إلى النوم في المطبخ، الذي لا يحمل سوى الاسم»، قبل أن تستطرد قائلة: «اليوم الأسود بالنسبة إلي وبالنسبة إلى قاطني البراريك هو اليوم الذي يزورهم أحد الضيوف».. «في الشتا غِريقة وفي الشمس حْريقة».. بهذه العبارة استهلت «مي هشومة»، أكبر معمرة في ثاني أقدم حي صفيحي في المغرب، بعد كاريان سانترال في الدارالبيضاء، وهو دوار محاذي لحي العكاري، المعروف بدوار «البوهالا»، المسمى حاليا دوار «عين عتيق»، المتواجد بالعاصمة الإدارية. يناهز عمر «هشومة» ال100 سنة. عاصرت ثلاثة ملوك، ومنذ الخمسينيات، وهي تقطن هذا الدوار، الذي كان يُطلَق عليه في الماضي اسم «دوار البوهالا»، حيث حصلتْ فيه على غرفة لا تتعدى مساحتها خمسة أمتار، بمساعدة قائد المنطقة، واستقرت فيه وأنجبت فيه أبناء، بل صار لها اليوم أحفاد يقطنون في الغرفة ذاتها، التي تتخذ شكلا هندسيا على الطريقة الأوربية، ويطلقون على هذا الشكل محليا «ظهر الحمار».. لا تختلف معاناة «هشّومة» في شيء عن معاناة باقي قاطنة الحي الأقدم في المغرب، حيث تجد «القطرة» التي تنزل في كل فترة شتاء والليالي المطيرة طريقها نحو الشقوق، فكم كانت الأمطار سببا لخروج قاطني البيت من بيتهم، أما الحرارة الحارقة في فصل الصيف، التي تلفح قاطني المساكن القصديرية، فهي «مسلسل» آخر من المعاناة. تقول «هشومة»، بصوت عال وكأنْ لا أحد يسمعها (تعاني من ضعف السمع): إن «السلطات ومنذ زمن بعيد، كانوا في كل مرة يأتون لإحصاء عدد السكان، بهدف الاستفادة من سكن اجتماعي لائق، يقِيهم شرّ معاناتهم اليومية، غير أن الوعود كلها ذهبت مهب الرياح وبقيت شريط الإحصاء يتكرر سنة بعد سنة، دون أن يجد هذا المشكل طريقه إلى التسوية، قبل أن تستطرد قائلة، إن هذا الحي الصفيحي ميؤوس منه وتحطمت آمال ساكنته.. تذكرت هشومة الكثير من الوقائع التي شهدها الحي الأقدم في المغرب، والواقعة التي ما تزال عالقة في ذهنها هي حريق شب في مسكنها القصديري، لأسباب مجهولة، ونظرا إلى عدم قدرتها على المشي، لتقدُّمها في السن، ولولا ابنها الذي أنقذها لكانت قد «التهتمها» النيران في ذلك اليوم. واستطردت قائلة إن هذا النوع من الحوادث يتكرر بشكل أضحى بديهيا في هذا الحي القصديري. «بّا حماد» نموذج آخر لساكنة دوار «بوهالة». يقطن بغرفة صغيرة تضم الأب والزوجة وأربعة أبناء، أحنهم في السجن. تزامنت زيارة «المساء» لهذا الحي الصفيحي القديم، في يوم ماطر، والمنازل كلها لا تخلو من «القطرة». الأثاث والأغطية الرثة كلها مبللة، في مشهد مؤثر لأسر تعيش الجحيم اليومي داخل براريك القصدير، تكابد يوميا، سواء في فصل الشتاء أو في فصل الصيف. يتذكر «با حماد» ذكريات تاريخية كان هذا الحي مسرحا لها، حيث قال إن تاريخ الجيل الأول الذي ساهم عدد من مواطنيه في القضية الوطنية كانوا يخبئون أسلحتهم لدى ساكنة هذا الحي الصفيحي، وكان عدد من المقاومين قد مروا من هذا الحي. براريك من «طابقين».. المشهد الأكثر إثارة في هذا الحي القصديري، الذي يصبح معه الداخل إليه مسجونا والخارج منه مولودا، هو اتخاذ البنايات الهشة نمطا عموديا بعدما أضحت مساحة الحي لا تتسع للمزيد من البراريك المتناسلة، غير أن «الحاجة أم الاختراع». تمكنَت ساكنة الحي الصفيحي من بناء طابق أعلى البناية القصديرية، للحفاظ على حرمة الأبناء. الصعود إلى الطابق الثاني مهمة صعبة، حيث لا يسع الدرج لوضع قاعدة القدم بأكملها، واستعمال أصابع القدمين أمر ضروري، فالغرفة لا تسع لوقوف شخص بشكل مستقيم، فيها نافذة صغيرة بحجم جُحر مغطاة بقطع من الورق والبلاستيك.. تقول مالكة «البراكة» إنها اضطرت إلى بناء الطابق الثاني «السدة» من أجل أبنائها الثمانية، عل هذا الأمر يخفّف من حدة معاناتهم، خاصة أن الأبناء أصبحوا راشدين ويحتاجون إلى نوع من الاستقلالية داخل «البيت». «فئران في جحور» وصف مصطفى دانبة، ممثل ساكنة الحي الصفيحي الذين يتحدث باسمهم، الوضع الذي يعيشه السكان بوضع «فئران في جحور»، على اعتبار أن «البيوت لا تليق لسكن للحيوانات فما بالك بالإنسان؟!».. فبداخل هذه الجدران المهترئة، تتعرى كرامة الإنسان بكل ما تحمله كلمة العراء من معنى»، قبل أن يضيف أنه «لا يمكن تصور الإنسان في مشهد لا إنساني، هنا الأسرة كلها تنام في حجرة قد لا تكاد تسع لشخصين، فما بالك ب10 أفراد». ويتابع دانبة أن «الأسر تستحي من ذكر الكثير من الأمور، غير أن الواقع يجب أن يتم نقله كما هو ليعرف الجميع مدى حجم معاناة ساكنة هدا الحي، بشكل خاص، وسكان «البراريك»، بشكل عام». وقال دانبة إن «الطفل الذي يعيش في هذه الظروف ويقتسم غرفة النوم مع الأبوين يكبر قبل أوانه.. فيصير مراهقا وهو في التسع سنوات، وهذا يتضح من خلال النقاشات الدائرة مع أصدقاء الحي، حيث تخرج أسرار البيت وحرمتها إلى العلن وتصبح سيرة يتداولها الأطفال عن غير وعي، وفي هذه الحالة، لا يمكن أن نلوم الطفل، بل الدولة التي حرمت أبناءها من سكن لائق ورضيت بأن تداس كرامتهم». ويؤكد مصطفى دانبة أن ساكنة هذا الدوار وصلوا إلى مستوى لا يحسبون معه أنفسهم ينتمون إلى جنس البشر، لأن السكن الصفيحي جرّدهم من هذه الصفة.. قاطعت الزوجة «باحْماد» الذي زارته «المساء» في دوار بوهالا، لتحكي عن طريفة وقعت لابنها قبل أن يزج به في السجن: « أمره أحد رجال الأمن بالدخول إلى البيت قبل أن يسأله عن مقر سكناه، إلا أن الابن أجاب على هذا النحو: «إنني لا أتوفر على مسكن».. وعندما استفزه رجل الأمن قائلا: «علاه أنت ما ساكنش في البراريك»، فكان رد الابن أذكى من السؤال، حيث اكتفى بالقول «إوا ها أنت قلتيها»، في إشارة إلى أن كل من يسكن في منازل الصفيح هو منعدم السكن. «مطامر» لجمع الفضلات.. لم يكن هذا الحي الصفيحي يتوفر، في الماضي القريب، على مراحيض، فكان لا بد للإنسان أن «يخترع» أسلوبا بديلا لقضاء حاجاتهم الضرورية، ليتم بناء «مطمورة» لتجميع الفضلات، غير أن السؤال الأهم هو كيف يتم التخلص من هذه الفضلات بعد امتلاء «المطمورة»؟.. الجواب مضحك.. يقول مصطفى إن ساكنة الدوار تجتمع، مرة في السنة، نساء ورجالا وأطفالا، ويقومون بإفراغ الفضلات عن طريق شحنها في دِلاء و»برويتات» ورميها في مطرح بعيد.. «شر البلية ما يضحك».. هكذا وصف أحد السكان المشهد الذي يشارك فيه الجميع، وكأنهم يُنظّمون مهرجانا شعبيا للاحتفال بيوم «الفضلات».. هذا اليوم الذي بقي من الذكريات التي يتداولونها في ما بينهم من باب الضحك، والتي ما تزال عالقة في أذهان هؤلاء السكان. إذا كان بعض الساكنة يتوفرون على مراحيض داخل براريكهم، فإن الأغلبية الساحقة منهم يقتسمون مرحاضا عموميا. بناية المرحاض أشبه بشق في الحائط، مساحته أقل من متر مربع، والدخول إليه ليس سهلا حتى بالنسبة إلى الأشخاص ذوي الأجساد النحيفة، أما ذوو الأبدان الضخمة فلا مجال لهم في هذا المرحاض العجيب.. حلم يتحول إلى وهم كان أمل الكثير من ساكنة هذا الدوار الصفيحي أن يستفيدوا من سكن يحفظهم من قر البرد وحر الشمس ويعيد إليهم كرامتهم، غير أنه مع مرور الوقت، تبيّنَ أن الوعود لم تكن إلا لغرض في نفس يعقوب وللسعي نحو تحقيق مصالح شخصية. وقال أحد ساكنة الحي إن «التخمة» قد أصابتهم من كثرة الوعود التي تأتي، في غالبها، في فترات معينة، والتي تخدم جهات لها مصالح وأهداف، وتحول حلم الاستفادة من سكن اجتماعي لائق إلى وهم لا ينقضي، وأنهم فقدوا الثقة في كل الجهات المسؤولة بعدما خذلتهم مرات ومرات وبنت مصالحها على حساب معاناة ساكنة الحي. المخدرات والسرقة والفساد منذ بداية التسعينيات، أصبحت المخدرات تكتسح «دوار البوهالا»، خاصة في أوساط الشباب والمراهقين الذين لا يتجاوز مستواهم الدراسي في أحسن الأحوال الابتدائي، نظرا إلى الظروف الاجتماعية التي تدفعهم إلى مغادرة الأسرة والبحث عن بديل، قد يكون أسوأ في بعض الأحيان، والبحث عن بديل خارج البيت الضيق. وحسب شهادة بعض الأبناء، فإن مهد المنحرف والمتشرد هو دور الصفيح والبراريك، لأنه عندما يفقد الإنسان كرامته ولا يتمتع بأبسط الحقوق، فإن ارتكاب الجرائم تصبح بالنسبة إليه مسألة بديهية. يقول أحد شباب الحي الصفيحي في «بوهالا» إنه لا يمكن أن نشجع الأسر على تمدرس أطفالهم وهم لا يتمتعون بأدنى شروط السكن اللائق والعيش الكريم، وما يزيد الطين بلة هو عندما يكون أحد الآباء مدمنا على تناول الكحول أو تدخين السجائر، تتحول الغرفة الضيقة إلى غيمة ضباب أسود، فأين هي شروط التمدرس؟.. وهو ما يشعل فتيل الصراعات داخل الأسرة، والتي تصل أحيانا إلى حد تبادل الضرب، بل إلى جريمة، وهي حالات كثيرة. بؤرة العنف بامتياز تذكر مصطفى واقعة كان «بطلها» أحد قاطني الدوار، الذي كان يضرب أبويه بسبب وضعهم الاجتماعي. وأكد مصطفى أن الابن الوضع الاجتماعي وإدمان الأب على شرب الكحول والدخول في وقت متأخر من الليل كانا عاملين أساسين لضرب الأب، نتيجة الإدمان والإزعاج المتكرر داخل الغرفة الوحيدة التي يتجاوز عدد أفرادها ستة، من بينهم إناث.. المؤسف في هذه الأحياء هو أن الكثير من الآباء يضطرون إلى السماح لبناتهم بالعمل خادمات في البيوت، ليس الهدف الأساسي هو الحصول على المال بقدر ما هو بدافع «التخلص» منهن بهذه الطريقة، نظرا إلى ضيق المسكن، خاصة عندما تضم الأسرة ذكورا. وحسب ما أكد مجموعة من شباب الحي فإن هناك أسرا تدفع بناتها إلى ممارسة الدعارة لضمان لقمة العيش لعدد من أفراد الأسرة، والتي غالبا ما تكون معيلها الوحيد.