في ساعات النهار يسود الصمت في الحي القديم من درعا.. الشوارع مهجورة، الدكاكين مغلقة. في ساحات المدينة تنتشر إطارات السيارات المشتعلة، الحجارة، حطام الزجاج وطوب الإسمنت.. بقايا المعارك التي عربدت في المساء الماضي. جنود مسلحون يملؤون شبكة مكتظة من الحواجز على الطرقات. وهم يتمترسون خلف أكياس الرمال قرب الدبابات ويوجهون سلاحهم نحو المواطنين القلائل الذين يتجرؤون على التجول في الشوارع. في المسجد العمري الذي كان في حينه بؤرة الانتفاضة واستخدم بعد ذلك كمستشفى ميداني، يتمترس الآن جيش الرئيس الأسد؛ في المسجد وفي كل أرجاء المدينة. «انصرفوا بسرعة، يوجد قناصة في كل زاوية»، يهتف نحونا رجل يعمل وحده في المقبرة في المدينة؛ فهو يحفر عميقا في الأرض، وذلك لأن جنازتين أخريين ستصلان اليوم. وفي محيطه صفوف طويلة من القبور حديثة العهد مغطاة بالتراب الأحمر، كالجروح المفتوحة في اللحم البشري، فالعشب لم يتمكن بعد من أن ينمو على القبور. الموت، الاعتقال، الدمار: يبدو أن درعا، مدينة المائة ألف نسمة التي تقع على بعد كيلومترات معدودة من الحدود الأردنية، تخرب في الحرب الأهلية. هنا اندلعت الانتفاضة ضد الرئيس الأسد في منتصف مارس 2011. المظاهرات تحول إلى معارك شوارع ورد الحكم بأعمال القمع العنيف. والنهاية لا تبدو في الأفق، مثلما في ساحات أخرى من الكفاح المدني السوري في مدن حمص، إدلب وحماة. وتبلغ المعارضة السورية عن 11 ألف قتيل منذ بدأت الاضطرابات. 1.385 شخص قتلوا هنا، في درعا، والقتل مستمر. القناصة يطلقون النار على المتظاهرين في الليالي، السلاح الثقيل يضربهم في النهار، بعضهم يذوي تحت التعذيب في السجون. لا ذكر لتطبيق خطة المراحل الست لمبعوث الأممالمتحدة كوفي عنان والتي زعم أن النظام السوري تبناها. فقط في هوامش المدينة يمكن أن نرى سكانا يديرون نوعا من الحياة العادية. توجد بعض الدكاكين المفتوحة التي يمكن أن تُشترى منها بضائع أساسية قليلة؛ أما المؤسسات العامة كالمدارس، فلا تعمل. مرتان فقط حظيت درعا بزيارة من بعثة مراقبي الأممالمتحدة، «وعندما وصلوا كان يرافقهم 600 شرطي. هذه مزحة، لم يتغير شيء هنا. العالم لا يهمه، العكس هو الصحيح. هذه الخطة تمنح الأسد مهلة أخرى وفوق كل شيء مكان آخر للمناورة يسمح له بقتلنا جميعا»، تقول عائشة الحريري، ابنة الأربعين. وهي تجلس في غرفة الانتظار في المستشفى البلدي، وابنتها الصغيرة تنام في حضنها، «عندها حرارة عالية، أحاول أن أجد طبيبا يساعدني، ولكني أجلس هنا عبثا». الناس مثلي، ممن يتجرؤون على التظاهر ضد النظام، لن ينالوا هنا العناية. ولا حتى الأطفال. أنا قلقة جدا عليهم، لا مدارس، لا أدوية، لا طعام كافيا. نحن نربي أطفالنا على اليأس والخوف». المستشفى تحت الحصار. الجنود والشرطة والأسلحة تملأ المركز الطبي، في ظل الخرق الفظ لاتفاق وقف النار. ولكن من يهمه؟ صمت أليم يسود فجأة في الوقت الذي يصل فيه رئيس قوات الأمن المحلية، محمد أسعد، إلى المكان. عائشة، وإلى جانبها نساء أخريات ينتظرن بيأس العناية الطبية، يوجهن نحوه نظرات مريرة، ويهمسن: «هو مجرم، مثل الجميع، مثل بشار، كلهم مجرمون». أسعد يلبس بزة فاخرة. وقد سار نحو غرف الموتى في المستشفى، وهناك سيعرض على الصحافيين الجثمان المنكل به لغالب غساس، شرطي ابن 45. ويروي أسعد أنه أصيب بالنار في بيته هذه الليلة، أمام ناظر زوجته بعد أن هاجم 15 مسلحا بيته. «أمور كهذه تحصل كل الوقت»، يضيف أسعد ويقدم رواية خاصة به عن المعركة المتواصلة في دعا: «نحن نقاتل ضد العصابات المسلحة، الإرهابيين الإسلاميين الذين يستغلون الانتفاضة والمظاهرات لأغراضهم. هذه الجماعات تهرب إلى سوريا من دول أخرى. هم لا يريدون الحرية، هم مجرمون». ولكن القليل من سكان درعا سيؤيدون روايته. مالك، عاملُ بناءٍ في الثلاثين من عمره يتوجه إلى الحاضرين في الغرفة فيقول: «صوتوا رجاء. من يتلقى المال من الخارج؟ من إسلامي؟ من يصلي على الإطلاق؟ لمن يوجد سلاح؟ من يخدم في الجيش السوري؟». في الغرفة يعقد لقاء سري للنشطاء، لتنظيم المظاهرة المخطط لها هذا المساء. بعضهم يصوتون عندما يسأل مالك عن الصلاة. أحد منهم لا يعرف نفسه كإسلامي، لا أحد سمع عن الجيش السوري الحر، لا أحد مهم يحصل على الأموال. «نحن عالقون بين القوات التي تتصارع على الحكم في الدولة»، يقول مالك، «ما هذه الأقوال عن النقل الهادئ للحكم؟ من يسألنا على الإطلاق. لن نوافق أبدا على قبول الأسد كرئيس. المعارضة نشطة في الخارج. الجيش السوري الحر يختبئ أينما كان ويظهر فقط ويهاجم بين الحين والآخر. الأسرة الدولية خانتنا. عندما بدأنا أعمال الاحتجاج، رأينا صورا من بنغازي، رأينا كيف دعم الناتو الانتفاضة الليبية. فكرنا بيننا وبين أنفسنا، في أن من يكافح في سبيل حقوقه وحريته سيحظى بالحماية، ولكن هذه كانت كذبة، نحن وحدنا تماما. يتركوننا في طريق لا مخرج له». هذه هي المرة الأولى التي توفرت فيها لهؤلاء الأشخاص الإمكانية للحديث بحرية مع صحفي أجنبي، وقد قفزوا فورا على الفرصة، رغم الخطر الشديد الذي تنطوي عليه. هذا الحديث كفيل بأن يجب لهم حكما بالموت أو على الأقل بالاعتقال. «عندما وصل مراقبو الجامعة العربية إلى درعا في الشتاء الماضي، كل من تحدث معهم اعتقل. حتى اليوم لا يعرف أحد ماذا حصل لهم وما مصيرهم. اليوم نحن نخشى أن يحصل ذات الشيء لمن يتحدث مع مراقبي الأممالمتحدة. هذا يمكن أيضا أن يحصل لي، لأني تحدثت معكِ».