ألفت عشرات الكتب، وبكل اللغات، عن أسامة بن لادن. لكن زعيم منظمة القاعدة بقي لعقد من الزمن، ولربما سيبقى في التاريخ المعاصر، أحد الألغاز المستعصية عن الفهم. إنْ رفعه أتباعه وأنصاره إلى مقام أسطورة حية، فإن خصومه وأعداءه من الغربيين، وبالأخص الأمريكيين، طالبوا برأسه حيا أو ميتا، على طريقة رعاة البقر. وقد جعلت أمريكا من اعتقاله أو تصفيته قضية وطنية جندت لها كل الإمكانيات المادية، التكنولوجية، البشرية والاستخباراتية. وبعد عشر سنوات من الملاحقة، نجعت الاستعلامات الأمريكية بفضل وشاية من زوجته الأولى -بدافع الغيرة- من تحديد مكان تواجده في أبوتاباد في باكستان، على مقربة من الأكاديمية العسكرية الباكستانية. هكذا استنفرت جميع المصالح الأمنية والاستعلاماتية لوضع خطة سرية تقضي لا باعتقاله، بل بتصفيته نهائيا. وفي ثاني ماي 2011، انطلقت طائرتا هيلوكبتر من نوع جديد لم يكشف عنه من قبل، وكان على متنها 19 جنديا من خيرة عناصر البحرية الأمريكية، تدربوا ليل -نهار على تفاصيل وأطوار العملية. في هذا الكتاب، يروي لنا جان -دومينيك ميرشي، الصحافي والخبير في العمليات الخاصة، الذي عمل لسنوات في جريدة «ليبراسيون»، قبل أن ينتقل إلى مجلة «ماريان»، تفاصيل هذه العملية كما لو كانت «حكاية بوليسية».. معروف أنه ليس مسموحا للعسكريين الأمريكيين قانونيا بالتدخل في باكستان، على خلاف أفغانستان، حيث يعترف القانون بتواجدهم في إطار القانون الدولي وباتفاق مع سلطات البلد.. فالعسكريون الأمريكيون هم، إلى حد ما، مدنيون، كما ينتمون إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية، لكنْ خلال الساعات التي يقضونها خارج الحدود، أي حين يكونون في الطرف «غير الشرعي» للحدود. في القانون الأمريكي، فإن الأنشطة العسكرية تنسب إلى ما أطلق عليه بعض القانونيين تعبير «الصنف 10»، أما أنشطة التجسس و»العمليات السرية» في الخارج فتعرف باسم «الصنف 50». اعترف ليون بانيتا، رئيس مصلحة الاستخبارات الأمريكية، بأن العملية التي استهدفت بن لادن هي من الصنف 50، بمعنى أنها لم تكن بالمعنى القانوني للكلمة عملية عسكرية.. في 23 أبريل، عندما عادت فرقة «السيلس» (Seals) إلى قاعدتها ،الواقعة في «دام نيك» (ولاية فيرجينيا) لم تكن تشغلهم هموم ما هو قضائيٌّ أو قانونيّ. في يوم الثلاثاء 26 أبريل مساء، ركبوا طائرة ضخمة من نوع «بوينغ C-17» كانت في انتظارهم في القاعدة البحرية لأوسيانا (فيرجينيا). بعد وقفة إمدادات في رامستايم في ألمانيا، حطّت الطائرة، أخيرا، في قاعدة برغام، شمال كابول. في يوم الخميس 28 أبريل، كان الجميع على أهبة الاستعداد.. ستنفد العملية بسرعة تجنبا لأضواء القمر.. فالوحدات الخاصة تُفضّل التدخل في الليالي الداكنة، ذلك أنه خلال الأيام القادمة سيعكس الشطر الأول من القمر ضوءا كثيرا. حينها، يجب انتظار نهاية السلك القمري عند نهاية شهر ماي. يجب، على الأخص، انتظار الضوء السياسي الأخضر.. عُقِدت آخرُ الاجتماعات في البيت الأبيض وفي مقر وكالة الاستخبارات الأمريكية، في «لانغلي». جمع ليون بانيتا الأشخاصَ الذين كانوا على دراية بالملف، والذين يقارب عددهم 15 شخصا، وكانوا على اطّلاع على 40 خلاصة للتقارير التي تم تحريرها ابتداء من غشت الماضي.. طالب الرئيس الجميع تقييم احتمال تواجد بن لادن في المبنى حين ينزل أفراد الكومندو فوق البناية. تراوحت الأجوبة بين 40 إلى 95 % .. تواجدت، أيضا، فرق تنتمي إلى المركز الوطني لمحاربة الإرهاب، والتي تقوم بدور محامي الشيطان في الفاتيكان.. مهمتهم هي العثور على كل الهفوات وتفسير أن الفشل هو مآل هذه العملية، لذا اعتبروا أن المعلومات المتوفرة لا تتوفر على المصداقية المتوخاة (ما بين 40 و60%).. لذا اقترحوا، على لسان رئيسهم مايكل ريتر، إلغاء العملية، فيما اعتبر البعض الآخر أن الأمر «حماقة»، بسبب التسريبات التي يمكن أن تلغيّ العملية. كان العالم يعيش على وقع تداعيات هواس «ويكليكس»، بسبب ملايين الوثائق التي تم طرحها على مواقع الأنترنت من طرف مجموعة جوليان أسانج. قبل ذلك بأيام، نشر الموقع «برقيات غوانتانامو»، التي يمكن أن يعثر فيها القارئ الحذِر على اسم الكويتي، «ساعي بريد» بن لادن.. في يوم الخميس 29 أبريل، عند الظهيرة، عقد آخر اجتماع في البيت الأبيض، في «»situation room»، وهي صالة كبيرة للاجتماعات من 460 مترا مربعا، وتتوفر على جهاز تأمين دقيق.. تقع في الجناح الغربي من المبنى. رغب الرئيس في معرفة رأي كبار المسؤولين السياسيين. «يجب أن أتخذ موقفا. ما رأيكم؟». توجّه، في البداية، إلى مستشاره في الأمن الوطني، توم دونيلون. ثم جاءت أدوار هيلاري كلينتون، ليون بانيتا، مدير مركزية الاستخبارات ومن بعدهم آراء مسؤولين، من بينهم نائب الرئيس، جو بيدن. في ما بعد، تحدث هذا الأخير عن الجلسة ليشير إلى أن ليون بانيتا كان الوحيدَ الذي وافق على إطلاق العملية. أما البقية فترددوا، متذرعين بنسب الحظوظ في نجاح العملية. كان روبير غيتس، وزير الدفاع، من بين أشدّ المعارضين للعملية. في الأخير، التفت باراك أوباما صوب نائب الرئيس ليسأله:» جو، ما هو رأيك؟». شرع هذا الأخير في التّهكم من حسابات «الاقتصاديين» قبل أن يضيف: «يجب أن نقدم جوابا مباشرا.. سيدي الرئيس، اقتراحي هو عدم المغامرة بالذهاب إلى هذه العملية.. علينا أن نتحقق من مسألتين للتأكد من أنه في عين المكان».. على الساعة السابعة مساء، انسحب الرئيس، واعدا بإبلاغهم بقراره. في نفس الأثناء، كانت فرق الكومندو قد وصلت إلى جلال أباد. في الغد، الجمعة، كان الرئيس قد اتخذ قراره. أبلغ مستشاره في الأمن القومي ليقول له عبارة واحدة: «هيا بنا!».. عندها، تحرّكت الآلة العسكرية، فيما طار الرئيس للقيام بزيارة رسمية ل«تينيسي»، في ولاية ألاباما وفلوريدا. قرر أن يترك للأميرال ماك رافن، الذي أحيط علما بالقرار على الساعة الحادية عشرة إلا ربع، اختيار اللحظة المناسبة للتدخل. فلكل مهنته.. عادت عائلة أوباما إلى البيت الأبيض يوم السبت، حيث من كان من المُقرَّر أن يُنظَّم حفل عشاء على شرف مراسلي الصحافة الأجنبية. قبل أن يتوجه إلى السهرة، نادى الرئيس، من جديد، الأميرال ماك رافن. أخبر هذا الأخير الرئيس أنه تم الاتفاق على يوم الأحد مساء لتنفيذ العملية. تمنى له أوباما «حظا سعيدا» وطلب منه إبلاغ نفس الأمنية لرجاله.. أخبره أنه سيكون في اليوم الموالي في «صالة المواقف» لتتبع العملية على المباشر.. فالمفكرة الرسمية التي وزعت على الصحافة توضح أنه «ليس للرئيس التزامات في هذا اليوم». في يوم الأحد صباحا، توجّه الرئيس لممارسة لعبة الغولف في قاعدة «أندروز» الجوية، كما لو كانت الأمور «عادية».. ومع ذلك، كان مقر الرئاسة في وضع غليان، لكنْ بشكل متكتم... أجِّلت جميعُ الزيارات المقررة وأحضرت صحون جاهزة للأكل. في الصالة الكبرى، اشتغل تقنيون لوضع وإجراء آخر المراقبات لاتصالات الأنترنت المُؤمِّنة مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، سفارة الولاياتالمتحدة في باكستان، مع البانتغون ومع هيئة أركان الأميرال ماك رافن في جلال أباد. بفضل اتصال «خاص»، أمكن، وعلى المباشر، تلقي صور طائرة شبحية من نوع «RQ-170»، التي كُلِّفت بمهمة متابعة العملية انطلاقا من سماء باكستان. في واشنطن، كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر. التحق باراك أوباما، الذي كان يرتدي سترة زرقاء وقميصَ بولو أبيض، بالبيت الأبيض، بعد أن لعب مسارا من 9 حفر في ملعب الغولف. في نفس الأثناء، في مكان ما شرق أفغانستان، على أرضية مطار جلال أباد، أقلعت طائراتان رماديتا اللون في اتجاه أبوت أباد، ل»الانقضاض» على البناية التي كان يختبئ فيها بن لادن..